أحداث 3 مارس: برج الذاكرة و إشهاد الوثيقة : من مذكرات امبارك بودرقة (عباس) : عباس بودرقة الشاهد الموثوق يتحدث: تفاصيل جديدة عن آخر حركة مسلحة في المغرب يوم 3 مارس 1973

هذا الكتاب سيكون له تاريخ

 

هذا الكتاب سيكون له تاريخ
هذا الكتاب من الآن له تاريخ، وهو يحكي عن تاريخ حارق،
صاحبه مبارك بودرقة عباس، ليس شاهدا فقط على مآلات اخر حركة مسلحة قامت في المغرب الحديث ،
وليس فاعلا مباشرا فقط في تفاصيلها
وليس رفيقا فقط لقادتها ونخبتها مناضليها…
بل هو ايضا موثقها ، وكاتبها ومدونها وكاتم اسرارها المكتوبة..
كل المناضلين، الذي عاشروه أو الذين جاؤوا من بعده الى التنظيم كانوا يعرفون ان الرجل يكتم اسرارا لا يملكها احد عن تلك اللحظة الفارقة في تاريخ المغرب.
وأنه يملك مفاتيح عديدة، لغرف سرية في الجغرافيا السياسية لليسار، والوطنية والصراع السياسي، وكثيرون كانوا ينتظرون منه ان يتحدث، ان يكشف عن التاريخ الذي يحتفط به شخصيا، هو وحده لا غيره.
فكل الذين تكلموا تقريبا تكلموا بدون هذه الوثائق وبدون هذه التفاصيل وبدون هذه الثروة الوثائقية، التي تعضد التاريخ الشخصي والجماعي لاصحاب ثورة مجهضة مهيضة التوثيق!
يعرف الشهداء واحدا واحدا
ويعرف تفاصيل السلاح ويعرف ادوار كل واحد من اعضاء «التنظيم»
ويحدثنا عن محمود بنونة في آخر ايامه، ويحدثنا عن الفقيه البصري ويحدثنا عن الحسن الثاني وطلبه لرئيس فرنسا انذاك. ويحدثنا عن طريق السلاح وعن رفقة المخازن..
هذا الكتاب وثيقة لما نعرفه بالظن أو السماع وهو بين ايدينا اليوم وثيقة لا وثيقة مثلها، وقد اختار ان يسنده بحوار للحكي،مع المؤرخ الرصين والنبيه الاستاذ بياض لكي يضع الوثائق في سياقها، كشاهدات مكتوبة عن زمن يبدو اليوم بعيدا: 3 مارس 1973، عندما قرر ثوار مغاربة ان يشعلوا الثورة المسلحة واختاروا يوم عيد العرش في العهد السابق لكي يبنوا إفرانا!
هذا الكتاب سيفرض علينا ان نعود اليه في كل لحظة، وفي كل مرة
وفي كل نبشة تاريخ او نأمة حاضر/..
هو تاريخ موثق كما لم يسبق أن كانت الثورات موثقة، وسيكون له تاريخه الخاص في مقاربة جزء من تاريخ المغرب..
وعباس يدرك اكثر من اي كان قوة التاريخ في تضميد الذاكرات المجروحة، لا سيما وأنه شارك بتواضع المناضلين الكبار في مصالحة وطنية وفي إنصاف ضحايا مراحل جارحة، ضمن هيئة الانصاف والمصالحة ، التي يتحدث عنها في مقدمة ما اورده..
وهذا تقديم ليس غير، وستكون لنا قراءة بعد أن يتحدث صانعوا الحدث بلسان رفيقهم واخيهم عباس..
فهذا عباس، مبارك حي ليشهد!

 

أخذت وقتا طويلا، امتد على جولات، وفكرت على مراحل قبل الإقدام على إصدار هذا المؤلف، الذي يتناول أحداث 3 مارس 1973، بعد أن مضت عليها حوالي سبعة وأربعين عاما، وقد صدرت في شأنها عدة كتب ودراسات، يبقى أهمها كتاب «أبطال بلا مجد» للمهدي بنونة، ابن الفقيد الراحل محمود بنونة.
شجعتني الوقفات الكبرى التي كانت لي مع ذاكرات متعددة في السنوات الأخيرة، وما تركتها من أصداء، حيث كنت أجدد علاقتي بهذه الأحداث، غير ما مرة وعلى أكثر من مستوى، مما دفعني إلى حسم أمري، بتخصيص كتاب لها.
كان الصدى الذي تركه كتاب «يموت الحلم ولا يموت الحالم»، الصادر سنة 2016، الواقع في خمسة أجزاء، تضم «رسالة باريس»، للصحافي الكبير، المرحوم باهي محمد حرمة، والترحاب الذي حظي به «كذلك كان»، كمذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، المنجز بصفة مشتركة مع الصديق أحمد شوقي بنيوب سنة 2017.
وتواصل التفاعل مع الذاكرات، من خلال الاهتمام الكبير الذي خلفه إصدار «أحاديث في ما جرى»، للمجاهد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، المقدمة في ثلاثة أجزاء، ربيع عام 2018.
وفي تفاعلي مع كل ذلك، رجعت تدريجيا لكل مخزوني ومابين يدي، من وثائق، لازمني توجس من تعرضها للضياع، على مدار أكثر من أربعة عقود من الزمن. ومن قلب كل ذلك، نبع قراري، متشجعا بتعطش وجدته لدى شباب اليوم، وكانت ذروته، التواصل المثير الذي فاق مئات الآلاف، بمناسبة حديث رمضاني، قارب شذرات من أحداث 3مارس 1973 مع الصحافي رضوان الرمضاني، ومع برنامج «زمن الحكي» الذي يقدمه الصحافي الصافي الناصري بالإذاعة الوطنية، حيث انهالت علي طلبات بالإسراع لإخراج تفاصيل وأسرار ما جرى، في مرحلة لها طابع مفصلي في التاريخ السياسي الراهن لبلدنا.
تعتبر أحداث 3مارس1973، آخر حركة مسلحة شهدها المغرب منذ حصوله على الاستقلال، متوجة مسار مرحلة، عرفت فيها بلادنا أحداثا عنيفة، عكرت، منذ البدء، صفوف الاستقلال، الذي كان ثمرة تعاون وتنسيق بين القوى الوطنية والمقاومة المسلحة وجيش التحرير والعرش.
لقد عاد الصراع مبكرا، بين نفس القوى التي كانت المحرك الأساسي للعمل الوطني، بفعل غياب الحوار الديمقراطي والمؤسسات التي من شأنها، أن تضمن التنافس الشريف في التداول على السلطة، من خلال اقتراع نزيه، في إطار المسؤولية والمحاسبة، بفتح الطريق لبناء دولة الحق والقانون.
ساهم كل ذلك وعوامل أخرى، في غياب الدولة القوية بمؤسساتها، الساهرة على تقدم وازدهار أبناء الشعب المغربي، وبذلك ساد العنف والعنف المضاد، الذي عطل البناء الديمقراطي، وأدى إلى تأخر النمو المنشود.
اثرت أحداث 3 مارس 1973، بتداعياتها الأليمة داخليا، مخلفة وراءها المئات من الضحايا، من كل الفئات، نساء ورجالا وأطفالا، في مناطق مختلفة، خاصة وأنها اندلعت مباشرة بعد محاولتين انقلابيتين خلال سنتي 1971 و 1972.
وكانت لها اصداؤها المؤثرة خارجيا، حيث قام المرحوم الحسن الثاني، باستدعاء القائم بالأعمال بالسفارة الفرنسية بالرباط آنذاك، لعدم وجود السفير الذي تم سحبه منذ اختطاف المهدي بنبركة، يوم 29أكتوبر 1965، وطلب منه أن يلتمس من الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو تفعيل الاتفاق العسكري المبرم بين المغرب وفرنسا، القاضي بالتدخل وتقديم الدعم، في حال تعرض أحد البلدين لهجوم خارجي، لا سيما أنه اعتبر أن المغرب تعرض لهجوم مسلح من طرف الجزائر.
عقد الرئيس الفرنسي مجلسا طارئا، بعد توصله بهذا الطلب، كلف من خلاله الضابط المدير العام لجهاز الاستخبارات الخارجية والاستخبارات المضادة آنذاك،الكونت ألكسندر دي مارينش الذي شغل هذا المنصب بين سنتي 1970 و1980، بالقيام بتحريات في الموضوع وتقديم تقرير بشأنها.
قدم هذا المسؤول تقريرا مفصلا، أكد فيه صحة تسريب الرجال والسلاح عبر الحدود الجزائرية المغربية، لكن دون علم مختلف السلطات الجزائرية، فكان رد الرئيس الفرنسي على الملك الحسن الثاني، بالاعتذار عن التدخل، لكون الأمر يكتسي طابعا داخليا صرفا.
اثر مغادرتي المغرب يوم 22مارس 1973، شاءت الأقدار أن يكون لي موعدٌ مع واقع جديد، أصبحت فيه فاعلا وسط إعصار لم أحسب حسابه من قبل، حين وجدت نفسي أتحمل وسطه، مسؤوليات ثقيلة، تتجاوز المشروع الذي كنت أنوي تنفيذه.
صدر في خضم الأحداث، بيان لوزارة الداخلية، يعلن اعتقالي بمعية عمر دهكون، فقررت العودة إلى المغرب، بهوية أخرى، بعد اجتماع مع الفقيه البصري يوم 24 مارس 1973، خاصة وأني كنت قد قررت في السابق، عدم البقاء في المنفى، كان هذا القرار نابعا مما كنت ألاحظه أثناء تنقلاتي خارج البلاد، في الجزائر أو ليبيا أو فرنسا أو بلجيكا، إذ كنت ألمس معاناة دفينة لدى أغلبية المناضلين المنفيين، رغم أجواء الحرية الظاهرة في معيشهم اليومي.
اخترت أن يقرر مصيري ببلدي وليس خارجه، مهما بلغت قساوته، خاصة وأنا المحامي المدرك جيدا لطبيعة المصير، وما قد يتقرر بشأنه في ضوء القانون الجنائي المتوقع تطبيقه في حقي.
هكذا، حسمت أمري، وقررت عدم تحمل أي مسؤولية بالخارج، وبادرت إلى تغيير ملامحي، وربطت الاتصال بالأستاذ محمد المتوكل، المحامي بهيئة الرباط، ابن المجاهد والمناضل المرحوم الحاج عمر الساحلي، طالبا منه أن يرتب لي مأوى بضواحي الرباط، للعودة بشكل سري إلى المغرب (هناك وثيقة بهذا الكتاب، تدون ذلك صفحة 48). لكن تشاء الظروف أن تسير الأمور عكس ما خططت له، حيث كان لزاما علي، أن أنضبط للمهام النضالية التي فرضتها المرحلة، واقتضتها المسؤولية في نطاق التنظيم.
واليوم، وقد مضى على كل ذلك، ما يقارب نصف قرن، أجد نفسي مدونا، لما عشته في أحداث 3 مارس 1973 موصولا بما نشأت عليه منذ صغري، مهتما بالوثائق وهواية جمعها، فرغم ظروف المنفى، وكثرة الحركة، وعدم الاستقرار، راكمت كما هائلا من الوثائق التي تهم تلك المرحلة، سيكون من غير المقبول ألا تأخذ طريقها للنشر، لتكون في متناول المهتمين من باحثين ومؤرخين، تسهم في مساعدتهم على دراسة وفهم وتقييم تلك المرحلة بكل موضوعية وتجرد.
أفادتني هذه الهواية المكتسبة، عندما تحملت مسؤولية مركزية بالتنظيم، في صيف سنة 1973 بالجزائر، في أن أعطي مدلولا لتحديد المسؤوليات، بناء على السند الموثق، خاصة عندما لاحظت التذبذب والتردد في تحمل مسؤولية ما حدث. فكان قراري إلزام الجميع بتدوين القرارات المتخذة وتوقيعها، حتى يتحمل كل واحد مسؤولية المهام الموكولة إليه ومسؤولية مواقفه.
فكرت مليا في صيغ تقديم ما عشته، وتشاء الصدف، خلال ربيع 2017 بمناسبة تقديم كتاب «كذلك كان»، في إحدى الأمسيات الثقافية بمدينة القنيطرة، أن تعرفت على الدكتور الطيب بياض، أستاذ التاريخ المعاصر والراهن، الذي قدم قراءة حول الموضوع، وتطورت العلاقة الانسانية والاجتماعية، مع هذا الرجل، الذي يرمز إلى جيل مجدد من الباحثين المشتغلين على التاريخ، وقد رافقني في تقديم كتب السي عبد الرحمان اليوسفي، اكثر من مرة.
ولم أجد افضل من مرافقة هذا الأستاذ، في حواره لي حول أحداث 1973. لقد تتبعت هذا التقليد العريق، لمدة طويلة في فرنسا، حيث صدر العديد من الكتب والمبادرات الثقافية، بين من كان فاعلا في أحداث وصاحب منهج علمي رصين وعمل مهني. وفعلا، اشتغلنا سويا، وعلي مدار جلسات طويلة، في كل من الرباط وازراراك بضواحي أكادير فكانت الحصيلة، «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة».«لكل ذلك أشكره على مساعدته لي».
يحاول كتاب «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة» رصد الأحداث، من خلال نشر مجموعة من الوثائق، التي تسند وتعضد العديد من الشهادات التي كنت قد تلقيتها شخصيا، وأعرضها اليوم بكل أمانة، مقرونة بما حافظت عليه ذاكرتي من إضاءات لوقائع كنت مشاركا فيها، لعل أهمها، تلك المتعلقة بوضع حد للنزيف الذي كان سيدفع بمزيد من المناضلين إلى أعمدة الإعدام أو إلى المطارات، من أجل التصفيات، بعد فشل محاولة 3مارس 1973.
هكذا استمعت إلى العديد من الشهود الذين واكبوا ما جرى، من بينهم عبد الفتاح سباطة، الذي قضى الأيام الأخيرة مع محمود بنونة، قائد المجموعة قبل دخوله إلى المغرب، حيث أكد له هذا الأخير، أنه مقبل على مغامرة تحمل بذور فشلها قبل انطلاقتها، لكن لا يمكنه أن يتخلى عن رفاقه، وسيكون من بينهم مهما كلفه الأمر. و يمكن أن نقول نفس الشيء عن كل المجموعة التي رافقت محمود، مناضلون أرادوا الخير لبلدهم وشعبه، همهم وطن يتسع للجميع.
انتبه محمود بنونة إلى أن هذه المغامرة، حتى لو نجحت، قد لا تحقق أمانيهم في وطن يتسع للجميع. ذلك ما أكده في الرسالة التي بعثها إلى المرحوم الفقيه البصري، بتاريخ 7 غشت 1971، اذ يقول فيها: «يمكن أن نعتبر أن العمل الذي نحن مقبلون عليه، هو بمثابة شعل نار الثورة أو حرب التحرير الشعبية، وإلا فلن يكون سوى شعل نار الفتنة وتمكين إحدى الطبقات المستغلة من السيطرة على السلطة، وهذا الاحتمال له حظوظ كثيرة ليحدث».
ويضيف محمود «وأن نستمر بالشكل الحالي، فإننا ما نعمل سوى على تعويض حكم فاسد بما قد يكون أفسد منه، لأن حركتنا قائمة على الولاء الشخصي في مختلف مستوياتها، بدلا من أن تقوم على الارتباط العقائدي والتنظيمي والاختيار الحر المقنع، وقائمة على سلسلة من الأساليب القديمة أغلبها من رواسب المجتمع الإقطاعي (انظر الوثيقة الواردة في هذا الشأن صفحة 50).
حاولت أن تكون أجوبتي في هذا الحوار، مفيدة.لذلك، لم أحاصر عفوية الحكي، وسعيت أحيانا، قدر المستطاع، إلى تحليل معطيات، اعتبرتها في حاجة لذلك، وفي المحصلة، حاولت ألا أبخل على القارئ بما توفر لدي من رصيد وثائقي، يهم هذه المرحلة، من باب إثراء الذاكرة وصونها.
اتسمت هذه الفترة الحالكة من تاريخنا بكثير من الغموض والالتباس، لذلك نعتبر غاية هذا الكتاب، إثارة بعض جوانب العتمة فيها. إن الأمم التي تجهل ماضيها، لا يمكن أن تبني مستقبلها على أسس متينة، دون أن يعني ذلك دعوة للانصراف عن الواقع، عبر اجترار الماضي، بل بالعكس، هي دعوة عبر الذاكرة والوثيقة لفهم الماضي، قصد الانكباب على الحاضر، بغاية استشراف مستقبل أفضل.
يشكل استحضار الماضي بوصلة ومنارة، تجنب المزالق، وتوقظ البصيرة، كما يحصل مع سائق حذر يستعين بمرايا الرؤية الخلفية بنظرات سريعة لتفادي حوادث السير اوتجنب السائقين المتهورين. والأهم هو التوجه نحو المستقبل لتشييد آفاق زاهرة، لمختلف أفراد الشعب المغربي، في إطار مجتمع متضامن، تحميه مؤسسات دولة الحق والقانون.
ضمن هذا الاختيار، انخرطت منذ عودتي من المنفى في مسار العدالة الانتقالية بالمغرب، مستثمرا تراكما أحسبه منتجا في مجال نضالي الحقوقي، وهو ما أسعفني في الاسهام، إلى جانب زملائي، في إنجاح تجربة هيئةالانصاف والمصالحة ببلدي مع بداية العهد الجديد والتي ما كان لها أن تحقق ما حققته من تميز على المستوى القاري والعربي لولا الدعم المطلق الذي جسدته الإرادة السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، من حيث المنطلق بإضافة صفة الحقيقة لاختصاصها واحترام إرادتها ودعم مساراتها خاصة في جلسات الاستماع العمومية واستخراج الرفات.. وصولا إلى الأمر بنشرتقريرها الختامي، بمجرد عرضه على جلالته، ووصفه لتوصيتها بالوجيهة، إثر التفاعل مع شباب 20 فبراير عند وضع دستور 2011
ولايزال يحدوني الأمل، في أن أستكمل مشوار المذكرات بفصول ووقائع وأحداث أخرى عشتها.وأجدني.. أمام عجب الحياة وأقدارها، أني شرعت في نشر أحداث 3 مارس 1973، وما تلاها وعمري في دائرة الثلاثة والسبعين عاما.

 

احتياطات عدم الوقوع في الكمائن

 توليت، وأنت وقتها محاميا متمرنا، عملية الاتصال وتنسيق التواصل للحصول على السلاح من الخارج، ما هي الاحتياطات التي اتبعتها لتفادي الوقوع في الكمائن، علما أنك كنت دائم الحركة فوق حقل ألغام؟

 عندما التقيت بعمر دهكون، الذي دأب على حمل السلاح والتخفي في نفس الوقت في هيئة شيخ يقرأ القرآن في مقابر الدارالبيضاء، ودعاني للالتحاق بالخلايا التي كان يشرف عليها، استجبت لطلبه ملتمسا أن أتولى الإشراف على جلب السلاح من الخارج وتنسيق وصوله إلى حيث يجب أن يصل في الداخل، ثم أن يكون هذا الأمر سرا بيننا. تحصينا لهذا المولود الجنيني، الشديد الحساسية من كل تهاون أو استخفاف أو إطلاق للكلام على عواهنه.
بمعنى أنا من رمت هذا الاختيار الصعب والمحفوف بالمخاطر، إيمانا مني بأن مهمة من هذا النوع من المفترض أن يتولاها شخص يأخذ الأمور بجدية كبيرة وحذر أكبر، يتوفر على مهارة ودقة لامتناهيين، ويجيد فن المراوغة والمناورة والتمويه، وإلا نُسف المشروع من أساسه وانتهينا جميعا إلى حبل المشنقة.
حرصت في تحركاتي على عدم إثارة الانتباه ودفع الشبهات، فمثلا كلما قصدت ليبيا، كنت أتفادى السفر مباشرة من باريس إلى طرابلس، بل كان لابد لي من العبور عبر مطار روما كحلقة وسطى للتمويه، دون أن يتم ختم جواز سفري في ليبيا.
تفاديت مع بداية عملي في هذا الدرب الملغوم السقوط في ما يثير الشبهات، إذ اقتُرح عليَّ مثلا في أول مهمة لجلب السلاح من الخارج (بلجيكا)، أن أضعه في سيارة فارهة حمراء اللون تسجل باسمي. رفضت العرض جملة وتفصيلا، لأن الأمر مثير للريبة منذ البداية، فكيف لمحام متمرن، أن يملك مالا لشراء سيارة ثمنها عدة سنوات من العمل.
طلبت تغييرها بسيارة فولسفاكن متواضعة، لاتسجل باسمي، ولن أتولى قيادتها لا في الخارج ولا أثناء وصولها إلى المغرب، وبمجرد إفراغ حمولتها تعود من حيث أتت، وأقوم لوحدي دون شريك آخر بمهمة تنسيق تسلم شحنتها بين سائقها الأول وعمر دهكون، الذي يعمل على قيادتها لتفريغ السلاح فور بلوغها الساحة المجاورة لمحطة القطار بالرباط، حتى لا أكون على علم بمكان تخزين السلاح في ما لو تم اعتقالي.
رتبت الأمور، وتبادلنا كلمات السر والإشارات، وإمعانا في الدقة، برمجت وصول السيارة المشحونة بالسلاح إلى حيث يجب أن تقف، ليكون ذلك متزامنا مع آذان صلاة المغرب خلال شهر رمضان.
لكن لم يتم الانضباط بالشكل المطلوب، ولم يحترم الموعد، وهذه من الأشياء التي كنت أحذر منها بشدة لأن مضاعفاتها خطيرة.

ثنائية السري والعلني في العمل المسلح

 ظلت الثنائية حاضرة في مسارك، تجمع فيها السياسي العلني بالمسلح السري، أليس كذلك؟

كان الحرص على جعل ثنائي السياسي العلني والعمل السري يسيران مثل خطين متوازيين لايلتقيان، إحدى أنجع أساليب الاحتياط، إلى جانب ما أسلفت ذكره في الموضوع، إذ رغم تعدد الأنشطة داخل الخلايا الحزبية بالرباط، والتي أشرت إليها سابقا، لم أنبس ببنت شفة لأحد من رفاقي في العمل السياسي أو لأفراد عائلتي عن أسرار التنظيم السري وما يُعده من عمل.
أشار مؤخرا النقيب عبد الرحمان بنعمر، في حواره ضمن برنامج زمن الحكي بالإذاعة الوطنية الذي يقدمه الصحافي الصافي الناصري، إلى أنه كان معهم في الخلية الحزبية أحد قادة التنظيم السري، ولم يكن أحد يعلم بنشاطه غير المعلن، تحفظ أول الأمر في ذكر الاسم، قبل أن يعود لاحقا إلى الحديث عن أن المعني بالأمر هو عباس بودرقة.
رغم أنني كنت متدربا في مكتب عبد الرحيم بوعبيد، ألتقيه باستمرار في مهام مهنية أو لقاءات حزبية، لم يكن يعلم بأني على اتصال بالفقيه البصري، الذي كان يلتقيه بدوره كلما حل بباريس. فلا مهنيا ولا سياسيا ولا عائليا، لم أكن أعطي أدنى انطباع أن لي نشاطا آخر موازيا داخل التنظيم السري، والذي كنت أعتبره استمرارية لنهج في النضال يعود إلى اختيارات رُسمت ملامحها مع فجر الاستقلال، كما وضحت ذلك في مستهل هذا الحوار.

n كيف كانت تتم عملية الحصول على السلاح؟
pp كنا نتوجس كثيرا من البلدان الأوربية في موضوع التزود بالأسلحة، فهي تعد أوكارا لمختلف مخابرات العالم، حيث كنا نفضل تمريره عبد الحدود المغربية – الجزائرية، بعد جلبه من ليبيا عبر طريق صحراوي، مرورا بغدامس في الجنوب، عوض السعي إليه في بلدان أوروبية موضوعة تحت المجهر. كانت السيارة المشحونة بالسلاح، القادمة من ليبيا مرورا بالجزائر عبر هذا الطريق الصحراوي، تعبر مسارها بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية الجزائرية، التي لو اكتشفت أمرها وأمرنا لكان مصيرنا الاعتقال والتعذيب، بعد مصادرة ما في حوزتنا.
خلال تجربة نقل السلاح من بلجيكا، كان محمد بوزاليم كجاج، هذا المقاوم الفذ، قادرا بخبرته وحنكته على حشو السيارة بالسلاح دون إثارة أي شبهات، لكن مع ذلك كنا نتهيب أمر جلب السلاح من أوروبا وننفر منه، لأن العيون بها شاخصة فاحصة.
كان لدينا تصور آخر، قائم على منطق التدبير الذاتي لأمر السلاح والمال في الداخل، عوض الارتهان في الحصول عليه من الخارج. قرارنا إذن كان هو الحصول على السلاح في الداخل، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

 

الدعم الليبي والجزائري لتسليح الحركة

 

ماذا عن السلاح في العالم العربي؟ هل كان مصدره ليبيا فقط؟

كانت ليبيا البلد العربي الذي يوفر لنا السلاح، بحكم العلاقة التي تعمقت مع القيادة الجديدة فيها، بعد وصول القذافي إلى السلطة في فاتح شتنبر 1969، وهي العلاقة التي يَسَّرَها الوزير صلاح البوصيري، الذي كان معارضا لنظام الملك السنوسي، وأصبح يشغل منصب وزير الإعلام والخارجية، الذي أتاح أول استقبال لهذا الأخير، مرفوقا بمحمود بنونة وعثمان بناني من طرف هذه القيادة.
بعد ذلك التقى الفقيه البصري بعبد المنعم الهوني، القيادي البارز في ما عُرف بمجلس قيادة ثورة الفاتح، والذي كان قبلها قد قام بزيارة سرية للمغرب.
بينما كان الهوني يتواصل مع مختلف الأوساط المغربية، يتحرى المعطيات داخلها، يسأل عن رمز النضال والمعارض الشرس وقتها، كان يتردد على مسامعه اسم الفقيه البصري بشكل متواتر، فكون عنه انطباعا إيجابيا، أفرز تقديرا كبيرا بشكل قبلي، مما جعل اللقاء معه منتجا والصداقة تترسخ، خاصة وأنه كان في عمله وشكله وتواصله دقيقا وأنيقا.
اتسم بالعقلانية والحكمة ونفاذ البصيرة، على الطرف النقيض من طباع القذافي. كان مُخاطبنا وسندنا الوفي في هذه القيادة الجديدة، لدرجة أنه رفض طلب وفد شبابي صحراوي، قصده للحصول على السلاح، وألزمه بتزكية الفقيه البصري قبل المجيء لأي غرض.
كان السلاح من ليبيا يُنقل عبر سيارة، تعبر طريق غدامس الصحراوي، المشار إليها سابقا، لتفادي المرور عبر الحدود التونسية – الجزائرية، في رحلة تستغرق يومين إلى ثلاثة أيام، ويتولى سياقتها المناضل بوجمعة أمشكر المدعو سعد.
تمكنا مع مرور الوقت وتوالي وصول الشحنات، من توفير ذخيرة مهمة، كان من المفترض أن نعتمدها في إطلاق كفاح مسلح لتحرير الصحراء انطلاقا من تيندوف، بتنسيق مع الوالي مصطفى السيد في إطار جبهة بديلة، بيد أن حسابات المسؤولين الجزائريين نسفت المشروع من أساسه.

ماذا عن الدعم الجزائري في مجال التسليح؟

باستثناء المرحلة الأولى، أي فترة حكم أحمد بن بلة، لم يكن هذا الدعم منعدما فقط، بل كانت العواقب وخيمة بالنسبة لمن يقع في أيدي المخابرات الجزائرية متلبسا بحمل السلاح من المناضلين المغاربة.
فإما التعذيب بعد مصادرة السلاح، كما حصل ذات مرة مع مجموعة جرى جلد عناصرها بالسلاسل التي تحرك عجلات الدراجات الهوائية، أو وشاية للأجهزة المغربية مثلما وقع للحسين إيخيش الذي كان يحمل السلاح، العابر من ليبيا إلى المغرب مرورا بالجزائر بحظ عاثر، إذ وصلت أخباره للأجهزة المغربية، التي ألقت القبض عليه.
كنا متوجسين للغاية من تعامل النظام الجزائري معنا، ولا نريد أن نثير معه توترات كثيرة، لذلك لم نرد أن نُظهر ولو قطعة سلاح واحدة على أرضه، ثم كنا ندرك جيدا رؤيته وخطته لبناء توازنات مغاربية على مقاسه، وفق استراتيجية الزعامة التي كانت تحركه.
كان هواري بومدين يرى في حُكمه نظاما تقدميا اشتراكيا رائدا على مستوى شمال إفريقيا، وليَظهر بريقه أكثر توهجا عليه السعي للمحافظة على استمرارية وجود نظامين رجعيين، وفق تقديره، من جهتي الشرق والغرب، ليسطع بينهما كأيقونة ومنارة في السياسة والاقتصاد.
تجسد طموحه في تَحَوُّل الجزائر إلى يابان المنطقة، ببناء المعامل والقيام بثورة زراعية تنضاف للثروة النفطية. هذه الطفرة الكبرى المأمولة من شأنها جعل الجزائر قوة عظمى، تتوسع مجاليا شرقا وغربا على حساب الجوار، باتفاقيات حدود. كما قد يسهم هذا الصعود في مدارج الرقي والازدهار في إبقاء الجارين في حالة من التخلف والرجعية كسوق استهلاكية، بيد أن الفساد نخر هذا النظام من الداخل وتحول الطموح إلى أضغاث أحلام.
أما بالنسبة لنظام القذافي، فكان النهج الجزائري يقوم على الاستفادة من نبرة خطابه العالية على مستوى الشعارات، في ما يخدم رهانات هواري بومدين جهويا وإقليميا، وتدبير سلبياته ومزاجيته وفق أهواء إيديولوجية.
للتأثير على الجوار، وامتلاك أدوات تدبير التوازنات في العلاقة مع دوله. تم احتضان المعارضين، خاصة المغاربة، كأوراق ضغط للمساومة والابتزاز، دون السماح لهم بالذهاب بعيدا في ما يصبون إليه.
الشاهد على ذلك أن هواري بومدين لم يحسم أمره، ولحسابات خاصة به، إلا مع المسيرة الخضراء، إذ خاطب الفقيه البصري بالقول:”»أنا الآن قررت إما أنا أو الحسن الثاني في هذه المنطقة، فماذا قررت أنت؟”.
يومها كانت عجلة التاريخ قد تحركت، وحبلت بمتغيرات واختيارات جديدة، محكومة بتوجهات المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهي الاختيارات نفسها التي انتصرت للقضية الوطنية أولا، إذ أضحت الأولى في سلم أولوياتنا، وما سواها توارى إلى وضع ثانوي حتى لا أقول إلى مجرد جزئيات.

 

بنونة، الفقيه البصري والدليمي

 

هل كانت السلطات الجزائرية على علم بلحظة الصفر في انطلاق العمليات؟

أبدا، لم تكن السلطات الجزائرية على علم بمخطط الثورة المسلحة، بل أجزم وبشكل قطعي أنها لم تكن تعلم ولم تواكب تحضيرات الدخول المسلح لمحمود بنونة ورجاله، ولو علمت به لأجهضته فوق التراب الجزائري، واعتقلت المناضلين وعذبتهم عذابا أليما.
هذا ليس مجرد تقدير ولا انطباع وليس من بنات أفكاري او نسج خيالي، إذ هناك سوابق أكدت هذا الأمر.
سبق للأجهزة الجزائرية أن اعتقلت مجموعة من المناضلين الاتحاديين بوهران، وتفنن جلادوها في تعذيبهم لمجرد وجود اسلحة في حوزتهم.
حاول مناضلونا اقناعهم أن السلاح لا يستهدفهم بل موجه لعمل مسلح في المغرب، فأمعنوا في تعذيبهم اكثر.
زاد هذا التعنيف الرهيب للسلطات الجزائرية المناضلين إصرارا على الدخول للمغرب، للتخلص من جو الترهيب وإنجاح المشروع.
صار المناضلون الاتحاديون يرددون مقوله: «إن كان لابد من التعذيب فليكن تعذيب الأجهزة المغربية».
هناك شبه إجماع على تحميل الميد وحده مسؤولية ما حصل. لكن في حواره ضمن زمن الحكي، يقول عباس لا يمكن أن يكون الفقيه البصري على غير علم، كان الأجدر به أن يتحمل مسؤوليته، فذلك شرف له. هل من توضيح أكثر؟
فعلا، تلك كانت قناعتي وعبرت عنها صراحة للفقيه البصري.

ماذا يعني ان يقول إنه لم يكن يعلم، وأنه كان في مهمة في سوريا ولم يواكب مجريات ما حصل؟

هناك رجال صادقون شرفاء ضحوا، هناك عذابات كثيرة وتنكيل متعدد الوجوه طال لظاه المئات ان لم أقل الآلاف بدرجات متفاوتة. فلا يمكن للقائد. إذن أن يتنصل من هذه المسؤولية.
هؤلاء الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم صدقوا الفقيه البصري، ووثقوا فيه، لذلك تبنوا نهجه وصاروا على دربه. كانت ثقتهم في الميدان، وكان هو من وثق في الميد وثبته قائدا ميدانيا عليهم، لكن القائد العام والفعلي للمشروع كله كان هو الفقيه البصري، لذلك قلت إن الوازع الاخلاقي يفرض عليه أن يعلن صراحة تحمله مسؤولية ما حصل من فشل ذريع وما أعقبه من تداعيات أليمة.
نعم شرف له في تقديري أن يتبني ما حصل، كعمل ثوري أجهضته اخطاء من سلمه رقاب قادته، لا أن يقول كنت منشغلا في سوريا ولم أعلم بالأمر.
صحيح أنه لم يكن هو من أعطى الدخول لمحمود بنونة ورجاله، لكن كان هو المسؤول السياسي، لذلك كان من الأجدر به ان يتحمل مسؤولية ما وقع لهم، او في الحدود الدنيا أن يتفاعل ايجابيا مع رسالة محمود بنونة.
على ذكر رسالة محمود بنونة إلى الفقيه البصري، يبدو هذا الطرح النقدي الذي تفضلت به متقاطعا معها، فهي رسالة تكشف عن خلاف بينهما في تقدير الأمور. وترجع الخلل إلى ترهل تنظيمي وغياب قيادة جماعية وانتفاء شروط إطلاق عمل ثوري ناجح. ما تعليقكم على هذه الرسالة (انظر الوثيقة صفحة 50).
لكي ننفذ إلى كنه تلك الرسالة/الوثيقة التي أشرت إليها، حري بنا استحضار جوانب من شخصية محمود بنونة التي تطرقت إليها سابقا، لذلك لا غرابة ان تكون للرجل تلك النظرة الثاقبة، وذلك العمق في التحليل، مع روح نقدية مشفوعة بلباقة ولياقة وحسن تعبير.
إن رسالته صادقة صدق روحه النضالية، وحاملة لطرح نقدي ولمنهجية في العمل تعكس وضوح أفقه ودقة بوصلته.
من المفترض في العمل يرقى إلى مستوى اطلاق ثورة مسلحة ألا يكلف به فرد واحد، مهما كانت عبقريته وذكاؤه وقدرته التنظيمية.
لابد من وجود خلية أو خليتين للتفكير والتخطيط والدراسة وانتاج الافكار ودراسة مدى قابليتها للتنفيذ بابسط السبل وأقل الخسائر.
كان الأمر يهم مصير أمة وأرواح رجال، لا يمكن أن تراهن بكل هذا الثقل الرمزي وتضعه في يد شخص وأحد، لذلك كما قال محمود بنونة كان لابد من وجود قيادة جماعية تدرس الأمور بعناية، تقلب الأمور إلى وجوه عدة قبل تبنيها.
لأن قيادة جماعية ما كانت لتطمئن إلى مقولة تبسيطية ضحلة، تقول بأن الميدان جاهز وقابل للاشتعال، وتدفع اليه الناس ليلقوا حتفهم قبل ان يباشروا مشروعهم بشكل جدي.
ما حذر منه محمود هو الذي وقع فعلا نتيجة التفرد بالقرار، والترحل التنظيمي، سواء في الجزائر او في المغرب، وتحديدا محليا في الميدان الذي كان مفترضا ان يحتضن عملهم الثوري.
جرى الاطمئنان الي أخبار المراسلين، ولم يتم ارسال متخصصين إلى الميدان لسبر اغواره وكشف أسراره، ووضع الخطط والخرائط على مقاسه، قبل اقتحامه عمليا من طرف الثوار.
كان لابد من التقاط صرخة محمود والتفاعل الايجابي معها، لا النفور منها والإعراض عنها. فلا هو نكرة ولا منتحل صفة ولا طامعا في مغنم، بل هو مناضل ثوري حقيقي وصادق، يتسم برجاحة العقل ونفاذ البصيرة.
ألم يكن حريا بالفقيه البصري ان يستدعيه إلى جانب الميد، ويضعهما وجها لوجه، يقارعان الرأي بالرأي والحجة بالحجة ليتبين بعدها مكامن الخلل؟!

يتحدث المهدي بنونة عن أن الدليمي كان يتفاوض بواسطة البشير الفكيكي مع الميد بأوامر من الفقيه البصري. ماذا عن خطوط الاتصال بين الجزائر والدليمي وموقع التنظيم فيها؟

كان البشير الفكيكي يزور الميد في فرنسا وفي الجزائر ايضا، حيث سهلت الروابط القبلية التواصل بينهما، وربما نقل عنه إلى داخل المغرب ما كان يقوم به من تحضيرات في الجزائر.
اما الفقيه البصري، فقد كان بعيدا كل البعد عن أجواء الوساطة بهذا الشكل. لم يلتق البشير الفكيكي إلا سنة 1987، في اطار المفاوضات مع الملك الحسن الثاني بواسطة ادريس البصري، والتي أفضت إلى لقائه بهذا الأخير في نفس السنة بفندق كريون بباريس، وهو موضوع سأعود اليه بتفصيل في كتاب قادم إن شاء لله.
قد يكون الميد حكى له عن لقاءاته مع البشير الفكيكي، ضمن مرويات اخرى، كان يريد بها ان يظهر أمامه بمظهر الممسك بكل الخيوط.
لدي تقرير يعود إلى أواخر سنة 1975، دونت فيه ما علمته بأحد مطاعم باريس، والذي كان يقصده أركان الحكم والمعارضة على حد سواء.
على هامش لقاء بهذا المطعم، علمت بأن السلطات الجزائرية عرضت على كارلوس مبالغ مالية مهمة نظير قيامه بتصفية الملك الحسن الثاني.
هذه المعطيات التي وصلتني منتصف السبعينيات، وردت بعد اثنتين وأربعين سنة مفصلة أكثر ضمن كتاب صدر سنة 2017، يتضمن سيرة ومسار كارلوس في شكل مذكرات تحت عنوان le monde selon carlos من خلال حوارات مطولة أجريت معه في سجنه.
يشير كارلوس في مذكراته إلى أنه أرسل فرقتين للقيام بهذا الغرض إلى نواحي تمارة. فشلت العملية طبعا، لكن قراءة هذه المذكرات قد توحي بأن الموقف الحاسم لهواري بومدين الذي أبلغه للفقيه البصري، ولم يتفاعل معه إيجابيا، كما أسلفت الذكر، ربما بحث له عن قنوات تصريف أخرى، قد تلتقي خيوطها عند كارلوس وجماعته في الخارج، وأحمد الدليمي في الداخل.


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 07/02/2020