التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 25- وظيفة التحكيم عند الشيخ علي بن أحمد الإلغي

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

إن الانطلاق من مسلمة مفادها أن الزاوية المغربية مارست وظائف متعددة في فترات تاريخية متنوعة، يجرنا إلى التساؤل عن أهمية هذه الوظائف والجدوى منها، والأطراف المستفيدة منها (القبيلة- الزاوية– المخزن). فكل الدراسات التي تناولت هذه النقطة بالضبط سواء أكانت في الأدب أو التاريخ أو العلوم الإنسانية، لا تخلو من فصل أو مبحث حول الوظائف التي تقوم بها الزاوية كيفما كان حجمها وكيفما كانت أهميتها وعلاقاتها التي نسجتها مع المخزن والقوى المحلية المجاورة لها. التساؤل يجرنا كذلك إلى التشكيك في مصداقية تعميم هذه الوظائف ومحاولة إسقاط نموذجا واحدا على كل الزوايا التي ساهمت في صيرورة تاريخ المغرب. ومع النموذج الدرقاوي الإلغي والذي حرك رحاه الحاج “علي الدرقاوي” سنجد أنفسنا في منحى غير ذلك الذي رسمته المدرسة الكولونيالية والإتجاه المغربي، الذي سلم بنموذج واحد لهذه الوظائف.
لا يختلف اثنان في القول بأن الزاوية انتقلت من التلقين الصوفي، وإطعام المحتاجين إلى ممارسة الأدوار السياسية؛ هذه الأخيرة- التي أرخ لها جل المؤرخين المغاربة سواء منهم المتقدمين أو المتأخرين- ظهرت معالمها الأولى مع بداية التماس مع البرتغال والدعوة إلى جهاد النصارى بعد ضعف وتراجع السلطان المغربي المريني والوطاسي، وفي خضم هذا الوضع الحرج أصبح شيوخ الزوايا على أتم الوعي بدورهم كملقنين صوفيين ومؤثرين سياسيين، لكن هذا الدور الأخير لن يبرز على أرض الواقع إلى بعد تحقق كرامات الشيخ على أرض الواقع ، فهي التي أثبتت ولايته ومشروعية صلاحه وزهده وورعه، وبدونها لا يمكن الحديث عن امتلاكه لسلطة معرفية ورمزية يؤثر بها على المجتمع لصالحه. وهكذا إذا كانت الوظيفة التحكيمية la fonction d’arbitrage عنوان الكرامة وشرعية الولاية (المازوني محمد، وظائف الزاوية المغربية: مدخل تاريخي، ضمن مجلة فكر ونقد العدد94.ص: 63.) وبعيدا عن أمور الشرع والفقه ومقاصده، فإن العديد من شيوخ الزوايا اتجهوا إلى قضايا أخرى كانت في أمس الحاجة إلى حكام نزيهين ترضى عن أحكامهم كل الأطراف، ويكون هدفهم الأول والأخير هو تحقيق الأمن والسلم داخل القبلية وبين هذه الأخيرة ومحيطها.
تكشف مناقب الشيخ “سيدي علي الدرقاوي” العديد من الخبايا التي يكتنفها الغموض في ما يخص أهم وظيفة (التحكيم- L’arbitrag) قام بها خلال حياته، سواء أكان ذلك داخل أو خارج محيطه القبلي، فتارة ينجح وتارة يخفق في مهمته. وهذا مثال نضربه في هذا المقام حول حقيقة التحكيم كوظيفة من وظائف المتصوفة ولعله
ينكر أو بالأحرى يقلل من ثقل النظرية التي خرجت بها النظرية الإنقسامية، ويدحض جزءا من رؤية المغاربة المتقدمين لوظيفة الزاوية التحكيمية. فالواقع القبلي وخصوصياته السوسيوثقافية ومكوناته وبعد مسافة مركز الشيخ عن مجال التحكيم، كلها عوامل تتحكم في نجاح الشيخ الحكم le saint arbitreفي قضية من القضايا أو إخفاقه فيها. ونحن أمام حالة “الحاج علي الدرقاوي” لابد لنا من الإشارة إلى أن بعض الأجزاء من المحيط القبلي لهذا الشيخ “كأيت حربيل” التي لم يقم عرفاؤها بالتحكيم على أساس أنهم شرفاء، كما ان “جون شوميل” J.chaumiel أشار في مقالته( Chaumel.( J), Histoire d’une tribu maraboutique de l’Anti-Atlas: Les Aït ‘Abdellah Ou Sa‘id, Hespéris, 1952, pp. 197-212)، أن ساكنة حربيل يحبذون تحكيم الصلحاء في الحالة التي يهانون فيها (العدناني الجيلالي، مرجع سابق)، كما أبرز أحد الباحثين (Alhyane.(M), Tribu et Leff en en Anti-Atlas Occidental, Cahier du Center J.Beaue,N3,2005, pp.109-115,p.113.) أن الخلافات والمواجهات في قبيلة الأخصاص وأيت باعمران نادرا ما كانوا يحكمون بينهم الصلحاء، وهو ما يؤكد بالملموس أن الأطروحة الانقسامية أصبحت غير قابلة للتعميم خاصة في شقها المتعلق بوظيفة التحكيمla fonction d’arbitrage لدى الصلحاء وأهميتهم في خلق التوازنات الاجتماعيةles équilibres sociaux أما إذا ما عدنا إلى نموذج هذه الدراسة فسنجد أن نجاحه في مهمته التحكيمية قد تحقق وهو لا يزال تلميذا، إذ يروي السوسي قضية نجح الإلغي في فض نزاعها وهي التي كانت سببا في شهرته وتبوئه مكانة المشاييخ الكبار والعلماء الجهابذة. فلما صادف الشيخ أمامه مشكلا حول التركة بين أبناء عمه، وفي الوقت الذي لم تفلح جدوى بعض العلماء -الذين ذاع سيطهم في منطقة إلغ- لحل هذه القضية (من بين هؤلاء العلماء أولائك الذين ذاع صيتهم في بعض قبائل سوس أمثال سيدي الحاج ياسين وسيدي علي المجاطي وسيدي محمد بن عبد الله الإلغي وسيدي الحاج محمد اليزيدي. أنظر ج1 من المعسول، ص:197)، نجح الشيخ في إيجاد حل مرضي لجميع الأطراف المتصارعة فيما بينها عن طريق التوصل إلى عملية التساهل بين الورثة يقول السوسي: “وذهب المجاطيون إلى دارهم وهم يقولون عجبا من فقيه جديد من إلغ لا يزال صغيرا فض دعوى متشعبة عجز الأساتذة المسنون عن فصلها…” (نفسه). كما نجح الشيخ في فض نازلة لم يفصل السوسي القول في موضوعها وحيثياتها بين أهل “أيت أمتضي” الذين طلبوا تحكيم الشيخ فنجح مرة أخرى في إرضاء جميع الأطراف. ولكن هل جميع الحالات التي حكم فيها الشيخ نالت إرضاء الأطراف المتنازعة؟ أم أنه خفق رغم تعدد محاولاته لإعلاء كلمته عليهم؟


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 23/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *