تعتبر المقدمات عتبات وبوابات لعالم الكتب وتقريرا توجيهيا، موجها إلى القارئ من أجل وضعه في الصورة والإطار، وتسييج آفاق انتظاراته بأفكار واضحة وتصورا دقيقا، وهذا الوضع الاعتباري للمقدمة يجعل منها نصا موازيا للكتاب، ومتنا قابلا للمساءلة والتحليل والقراءة النقدية المنفتحة على رهانات الكاتب.
وللمقدمة أهمية بالغة في بنية المنجزات الترجمية للناقد والباحث الدكتور محمد ايت لعميم ، الذي يعتبر من بين ألمع النقاد والمترجمين المغاربة والعرب حاليا ليس من الجانب الأكاديمي فحسب، بل باعتباره محلل نصوص متمرس، ومفكرا يضع كل شيء موضع المساءلة والحوار، وإنجازاته الفكرية منذ أيقونة أعماله «المتنبي الروح القلقة والترحال الأبدي» مرورا ب «بورخيس أسطورة الأدب « و»قصيدة النثر في مديح اللبس»و»متاهات بورخيس»….. شكلت إضافات نوعية لخطاب النقد العربي الراهنذ، نظرا لتنوعها وعمقها ونزوعها نحو التأصيل والابتكار.
والأهمية التي تكتسيها المقدمة في الكتب التي ترجمها أو شارك في ترجمتها أيت لعميم تبرز بشكل واضح في كتاب «القراءة» لمؤلفه الكاتب الفرنسي»فانسون جوف» والذي ترجمه بمعية الأستاذ نصر الدين شكير، وهذا الكتاب هو مقاربة عميقة ومنهجية لمسألة القراءة وفعالياتها ومستوياتها ورهاناتها ، من خلال عرض استجماعي لمختلف النظريات التي جعلت من القراءة والقارئ موضوعا لها.
وفي مقدمة ترجمة هذا المؤلف الموسومة بعنوان «لذة القراءة وسعادةالقارئ»، وبأسلوب رشيق وعبارات بليغة، وبقدرة فائقة على التشويق، تجول أيت لعميم بالقارئ عبر صفحاتها على مختلف التيارات الفكرية التي جعلت من القراءة والقارئ موضوعا لها، كاشفا أن أفول الدراسات البنيوية الوصفية وظهور التداوليات التي تتبنى مفهوم جديد للإنتاج الخطابي من منظور تفاعلي أدت إلى تجاوز الصيغة التقليدية في النظرية الأدبية التي كانت تنطلق من العلاقة القصوى الرابطة بين النص ومؤلفه إلى العلاقة التي أصبحت موضوع التحليل والدراسة وهي بين النص وقارئه ، متجاوزة بذلك المفهوم التقليدي للغة باعتبارها وصفا لفكر المتكلم إلى اعتبارها محاولة للتأثير في المستمع.
وقد ركز أيت لعميم على محاور مفهومية الكتابة، باعتبارها فعل بناء يبني من خلاله النص قارئه النموذجي، ذلك أن الكاتب المجدد لا يكتب لجمهور عصره كي يستميله وإنما يكتب ليخلق جمهورا. فهذا التفاعل والرغبة في التأثير هي محور نظريات القراءة والتلقي. فكل من المؤلف والقارئ يبحث عن سبل التأثير في الآخر، ومن خلال هذا التبادل يؤكد أيت لعميم يصبح لدينا نص للكاتب ونص للقارئ. فنص الكاتب معطى ونص القارئ بناء على اعتبار، كما يقرر امبرتو ايكو، النص بصفة عامة آلة كسولة يشغلها القارئ.
فالقراءة كفعل، نشاط متعدد لا نبحث فيه عن المعنى الوحيد والطريق إلى المعنى المتعدد كما يذهب إلى ذلك رولان بارث، بل هو إعادة القراءة التي تنقذ النص من التكرار، لتعدده وتكتشفه كما لو أنه قرئ لأول مرة.
كما عرجت هذه المقدمة أو الورقة البحثية على استحضار الدراسات التي تناولت موضوع القراءة من زويا مختلفة كبيير بايار صاحب كتاب « كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها» وهو عمل مثير يرصد فيه المؤلف مسألة القراءات الجزئية أو عدم القراءة، ودانيال بيناك في كتابه « مثل رواية» والذي يمنح للقارئ حقوقا غير قابلة للتصرف أو التقادم، كالحق في عدم القراءة والحق في القفز على الصفحات والحق في عدم إنهاء الكتاب وغيرها من الحقوق التي يحاكي فيها الوصايا العشر ، ونظرية بورخيس الذي يعتبر أن التاريخ الأدبي الوحيد الذي يعترف به هو تاريخ القراءة، فالقراءات هي التي تكون تاريخية وليست الأعمال الأدبية بحيث أن هذه الأخيرة تبقى دائما هي نفسها، ووحدها القراءات تتغير مع الزمن وقيمة الأعمال تتشكل من خلال القراءات. فللقراءة إذن كل الامتيازات وللقارئ المكانة الأفضل عند بورخيس ولذلك يقول « فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا أما أنا فأفتخر بتلك التي قرأت» ، فالقارئ أكثر سعادة من الكاتب.
ويخلص الدكتور ايت لعميم في الختام، وانسجاما مع ذهب إليه فانسون جوف، الى أن مسألة القراءة ودراستها ما زالت في البداية وهي موضوع يغري بالمزيد من التأمل، لا سيما وأنها مرتبطة بذات قارئة وما ينطلي ويسري على تعقد وتشابك هذه الذات يسري على فعل القراءة. ولأن هذه المسألة تحتوي على الكثير من الإغراء، فإنها ظلت موضوعا منفتحا تعددت منافذ الولوج إليه، وأكيد أنها ستستمر وتتقدم لها مجموعة من النظريات والتأملات.
ختاما ، مهما اتسعت مساحة هذا المقال فلن تستوعب كل الأفكار، ولن تغني عن قراءة مقدمة هذا الكتاب الماتع الجامع ، فهذه السطور توحي فقط بأن تكون كلمات دامغة للظفر به وقراءته.
الخطاب المقدماتي قراءة في مقدمة الدكتور محمد أيت لعميم لكتاب «القراءة» لمؤلفه فانسون جوف
الكاتب : محمد تكناوي
بتاريخ : 09/03/2019