الخطر النفسي ينضاف إلى الأخطار التي تهدد سلامة وحياة ممرضي وتقنيي الصحة

 

يصعب علي حصر مفجّرات مشاكلي النفسية في العمل، كممرضة تخدير وإنعاش لأكثر من عقد من الزمن، في حدث أو صدمة معينة. لذا ارتأيت الحديث عن المشاكل النفسية الصامتة، التي تتخذ منحى تصاعديا عبر التراكمات النفسية وتوالي الصدمات في محيط مهني عليل متوتر. مشاكل تنخر جسد الإنسان في صمت وتضعف جهازه النفسي ببطء إلى أن يصير هشا لا يقوى على المقاومة أو يستسلم فيضع حدا لمعاناته.
يمكن تفسير تأثير المحيط المهني على الصحة النفسية والجسدية للإنسان بالاعتماد على المقاربة النفسجسمية، حيث يعرف مؤسسها « جون بنجمين سطورا» الإنسان، بأنه وحدة نفسجسمية يتفاعل من خلالها العامل النفسي والجسد والمحيط (العائلي، الاجتماعي، المهني..)، فعندما لا يستطيع الإنسان عقلنة الأحداث المحيطة به، أي لا يتمكن من إدراك وتفسير مشاعره أو التعبير عنها، فهي تظهر على شكل اضطرابات نفسية تتمظهر لاحقا على شكل أمراض عضوية: القولون العصبي، القرحة، صداع نصفي، اكزيما، حساسية….
إن خصوصية التخدير والإنعاش تلزمنا التكفل بالحالات الحرجة ذات الطابع الإستعجالي سواء في مصلحة الإنعاش، قاعة الصدمات، أثناء النقل الصحي، بل أنه حتى العمليات المبرمجة لا تسلم من حوادث غير متوقعة تستلزم تدخلا سريعا وحذرا. وعلى عكس ما يروج فنحن لا نتعود على مجابهة الأخطار، بل نقاوم ونسخّر قوانا الجسمية والنفسية حيث نسابق الزمن لإنقاذ المرضى، لأنه لا أصعب على ممرض تخدير وإنعاش من فقدان مريض، فكم من وفاة كانت عنوانا على نهاية مسار مهني.
لكن يبقى فقدان طفل الأصعب على الإطلاق، وهنا تتسابق قصص أطفال أبت أن تغادرني. وأتذكر طفلة ذات ثمان سنوات صعقت بالتيار الكهربائي، طفل ابتلع قطعة نقدية، رضيع غرق أثناء الاستحمام في «وعاء» ماء، وآخر سقط من النافذة، و آخرون …أطفال خطفهم القدر في غفلة من آبائهم رغم كل ما تم تسخيره لإنقاذهم. أطفال ما مرضوا ولا تألموا، كانوا قبل لحظات يلهون ويلعبون ويملؤون حياة آبائهم فرحا وحبا. وان كان فقدان طفل بالنسبة لي حدثا صادما فإن الأصعب هو تحمل ردود أفعال عائلاتهم بعد إعلان الوفاة من بكاء وصراخ وحزن وغضب وألم… إنه من الصعب جدا تحمل رؤية أم فقدت صغيرها.
كل ذلك يؤثر سلبا وبشكل فوري على نفسيتنا، ولقد ثبت علميا أن مشاهد انفعال ما ( حزن، غضب، قلق، خشية، خيبة أمل …)، تثير لدينا نفس الانفعال على المستوى العاطفي الانفعالي، وذلك عبر استثارة الجهاز الجوفي حيث تلعب الخلايا المرآوية دورا في التعاطف والمشاركة الوجدانية.
من المؤلم أن تشهد تحول حدث مفرح إلى جنازة، زوج يفقد زوجته الحامل، أم تفقد مولودها أثناء الوضع، طفل يموت جراء نزيف ختان، عروس تلقى حتفها ليلة عرسها..هي صور من مجموعة من الصور، تأبى أن تغادرك وإن غادرت المستشفى بعد نهاية المداومة، حيث ترافقك صور المفقودين و أصوات الفاقدين، فلا تكفيك مهدئات ولا منومات، خصوصا بعد توالي الصدمات والأحداث المماثلة. حالات إن تعددت فإن أثرها واحد: أرق، فقدان شهية، لوم الذات، حساسية مفرطة، عزلة، خوف، توجس، خيبة أمل، سوداوية… مع كل هاته المعاناة استمرت المقاومة وكانت الآية «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» هي البلسم …. لأن المتابعات القضائية والتوقيفات الإدارية كانت بمثابة الضربة القاضية للجسد للتمريضي عموما، ولممرضي التخدير والإنعاش، والقابلات، وممرضي الصحة النفسية، على وجه الخصوص، حيث أصبحنا نشتغل في سراح مؤقت وصار كل مريض هو مشروع قضية رأي عام و لو بعد حين.
آثار هاته الوقائع كان جليا على سائر الممرضين وتقنيي الصحة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، أثناء متابعة قابلتا العرائش عشنا ليالي بيضاء سادها الترقب والتوجس والقلق ، ليالي انتظار بطعم الاحتضار. ننتظر نتائج المحاكمة لا لنطمئن فقط على زميلاتنا بل لنعيد ترتيب أوراقنا فكلنا في سراح مؤقت. لقد اهتزت الثقة على المستوى الجماعي بين أفراد الفريق، فانعدم الاستقرار المهني والأمان و روح الفريق وسادت الأنانية والصراع والحذر والتوجس و لخوف.
أما على المستوى الشخصي فقد انتقلت الآثار إلى يوميات عملي. بعد قضية الليمون، على سبيل المثال، تجاوزت الحيطة والحذر المعتادين إلى الوسواس، فصرت أتأكد من تاريخ الصلاحية واسم الأدوية مرات ومرات قبل استعمالها، لدرجة أخرجها أحيانا من القمامة لأتأكد من المعلومات. تسرب الخوف والقلق والتوجس لتفاصيل عملي فصار مرهقا نفسيا وجسديا.
ما أن ننسى أو نتناسى حدثا ما حتى تنفجر قضية جديدة. متابعات قضائية، توقيفات بالجملة، عنف لفظي وجسدي، حوادث سير مميتة، انتحار ….ليجد الممرض وتقني الصحة نفسه كالمحارب الأعزل في حرب هوجاء، لا قانون يحميه، لا مصنف مهن يحدد مهامه داخل منظومة صحية عليلة و دون أية مواكبة نفسية للوزارة الوصية، لينضاف الخطر النفسي إلى جملة الأخطار التي تهدد سلامة وحياة ممرضي وتقنيي الصحة.
ممرضة تخدير


الكاتب : مريم القطيبي

  

بتاريخ : 01/02/2020