الشاعر مصطفى ملح يتأمل عزلته في الحجر الصحي

العزلة قدر الشاعر، ومحبسه الانفرادي بعيدا عن قبح الغابة. منذ انتميت إلى الشعر وأنا أسعى إلى الهروب من فوضى الواقع الذي صار غابة مغمورة بالخفافيش والتنانين والحشرات الإلكترونية.
عندما تقاد المحبة والجمال والعدالة والخير، في صورة قطيع منقاد، إلى المشنقة، وترى بعينيك اغتيال هذه القيم النبيلة، فإنك لا تملك إلا أن تنعزل وتلوك وحدتك التراجيدية بصمت مريب.
داخل هذا الواقع الطبقي أوجد، كائنا مفرغا من كيمياء المعنى، تمثالا طينيا معروضا في متحف آيل للانهيار. ولكن ما الذي حدث؟ إنها كورونا. مضاعفة العزلة والشلل الذي يطال الجسد والروح معا. لن أكون مختلفا عن الملايين الذين يترقبون بحذر وريبة ممزوجين بقليل من الأمل. برنامج الحياة بتغير، وبنية التفكير تتغير، ولا بد من إعادة النظر في كثير من المسلمات والبديهيات: لا بد من الاعتراف بأننا مجتمع يحارب الحداثة ويرسخ قيم التفاهة والبؤس الثقافي. أتساءل: أين انقرض واضمحل الذين كانوا يتقاضون الملايين من خزينة الدولة؟ المهرجون والمغنون والراقصات؟ الآن حصحص اليقين وبات واضحا أن الاطباء والعلماء والمدرسين هم أيقونات الوطن وحراسه من البؤس. الحداثة معمار يتشكل من إعمال العقلانية لتفسير كل ظاهرة والدفع بجسد الأمة إلى شاطئ الأمان. أما المهرجون والمشعوذون والمتاجرون بالدين فهم مجرد متاريس يقفون أمام تقدم قاطرة الوطن.
في هذه العزلة أكتشف بيتي من جديد. أتأمل زواياه ومنافذه كما لو كان شكلا مصغرا للعالم. أقترب من أبنائي وأحاكي طفولتهم قليلا. أدخل إلى المطبخ وأهيئ العشاء الأخير لمسيح معاصر وحواريين معاصرين. لا أقرأ ولا أكتب. أتخيل أنني شخصا آخر لا أعرفه، لذلك أترك له الفرصة ليعيش خارج جاذبيتي. أما متابعة الأرقام بتوجس وخيفة فأمر لا فكاك منه. كم أصيب وكم مات وكم شفي؟ هذا العبث الدولي يجرف النباتات الخضراء ويزرع الأشواك والمخاوف. هل يستطيع العقل البشري أن يتغلب على عدو صغير لا يرى بالعين المجردة؟ أتأمل كذلك الدول العظيمة. أكتشف أن قوتها لا تكمن إلا في إبادة الشعوب الضعيفة، إذ أن الفيروس المجهري قد كشف عن تفاهتها وبؤسها. وأتساءل: لماذا تنفق هذه الدول مليارات الدولارات لتبيد أسراب الحمام، ولم تفكر ولو مرة واحدة في بناء نسق المحبة وفضاء الحرية لتحلق أسراب الحمام تلك؟ وهل الاستعارة ما زالت كافية ومجدية للتعبير عما يحدث لطروادة المعاصرة؟
هي عزلة تضاف إلى عزلتي الوجودية السابقة. أصرخ بصمت، وأنشر تدوينات سريعة في مدح النهار وأخرى في شتم الليل. وعندما تغرب الشمس ألصق حواسي بجهاز التلفاز لأعد الخسائر: كم مات وكم أصيب وكم شفي.. البيت يتحول إلى علبة من الإسمنت، والمواقع الإلكترونية تصير أعشاش عناكب. أحاول أن أكون إيجابيا فأغني لأجل نهار سيطلع قريبا. الليل تصير كراهيته فرض وجوب. رأيت في القناة تجار الدين يخرجون إلى الشارع غير عابئين بتوجيهات الجهات المسؤولة. تساءلت: هل سيحررون القدس؟! يحرضون الناس على الخروج والتسبيح والتهليل كما لو أن الله لن يسمعهم إذا بقوا في بيوتهم. ولكن ابنتي تخبرني بناء على ما رأت في أحد البرامج بأن الخفافيش لا تخرج إلا ليلا! وأسعدني العمل النضالي الذي يقوم به الأطباء بتفان وإخلاص وحماس. أولئك هم المفتون الحقيقيون في هذه المرحلة وليس الذين أشعلوا النار بين علي ومعاوية! سأعيش هذا المحبس الانفرادي وأدعو إليه ما استطعت إلى ذلك سبيلا. لا نملك في الوقت الحالي خيارا آخر لحصار العدو المجهري الذي أربك العالم. وأحيانا أتساءل: من أين جاءت اللعنة؟ حرب بيولوجية؟ تسرب غازات؟ تطور جيني لفيروسات سابقة؟ الشيطان؟ ليس مهما التفكير في مصدر الداء وإنما التفكير في إجراء للمقاومة والاحتراز. لا بد من وعي حقيقي غير شقي وغير بئيس لنواصل الكفاح.
الجسد، جسد الشاعر، هو الآخر يصيبه وباء الزمن. أحاول أن أكتب ولكن الأنامل مشلولة وأزرار الحاسوب تصير رصاصات والخيال يتفحم. ماذا يحدث لي؟ إنه اليقين الذي لا مراء فيه. أنا أتحول إلى مخلوق إلكتروني وسأحتاج إلى بطارية لأشغل نفسي. أيها المجتمع الذي كنت أرجو أن تكون جنتي، أنت الآن تصير ناري وجحيمي. جسدي في هذا المحبس اللعين يصبح ثقيلا. أفكر في نزعه وتعليقه على المشجب. روحا أصير. خفيفا مثل ريشة عصفور. لن أحتاج إلى تعويذة أو رقية أو صابون أو مادة معقمة أو قفاز واق. الروح لا تخضع لقانون الجاذبية ولا يسري عليها ما يسري على الأبدان من أحكام وأقدار. الآن، في عزلتي، حجري الصحي، أعيش بلا جسد. خفيف أنا مثل ريشة عصفور، وجسدي معلق فوق المشجب، ولن تستطيع السيدة كورونا النيل مني!


الكاتب : المصطفى ملح

  

بتاريخ : 26/03/2020