الكتابة أهم من الصخب …

1
تعني الجائزة الأدبية، في المقام الأول، أن عملا أو منجزا كتابيا، سواء في الشعر أو في السرد أو في المسرح أو في الدراسة والترجمة، يمتلك خصوصيات ومواصفات معينة، بحسب الجهة المحكمة، التي تؤهله لأن يحتل رتبة متقدمة في إطار منافسة مع باقي الأعمال المرشحة، سواء من قبل كتابها أو مؤسسات النشر. وهذه الجائزة، التي تمنح للأدباء والكتاب في كل أنحاء العالم، تعني أن هناك كماً من الإبداع له سمات فارقة خرج إلى الوجود، وقامت هيئات ومؤسسات ثقافية بقراءته وتقييمه وإقرار جودته، ومنحه تتويجا رمزيا وماديا، ليطّلع عليه الناس في ما بعد.
وبنظرة استقرائية، فإن العدد الكبير من الجوائز الأدبية التي تمنح سنوياً قد تجاوز 500 جائزة، وإذا ما تأملنا عدد الجوائز في بلد ما سندرك، من الوهلة الأولى، حجم أرقام الأعمال وحجم الإبداع بكافة أشكاله التي تقف عند درجة التميز، وهو ما يعني أن كمّا هائلا من الإبداع البشري يُطل علينا صباح كل يوم بلغات عديدة، من المهم قراءته، أو التعرف عليه. فعلى سبيل التمثيل تُمنح وتُقدم سنوياً في فرنسا قرابة 350 جائزة أدبية، تتباين في مستواها الأدبي والإعلامي، من هنا ندرك في أي عالم من العطاء الكتابي نحن، وما علاقة الوطن العربي بهذا الوضع أيضا.

2
قد تأخذ الجوائز الأدبية شهرتها من طبيعة الخطاب حولها، ومختلف النقاشات والجدالات خاصة حول القوائم القصيرة والطويلة، وأيضا من تسريب اسم الفائز قبل إعلان النتائج النهائية، وإطلاع الرأي العام على التقارير، واختلاف وجهات نظر لجنة التحكيم حول اسم الفائز ، وحجب الجائزة أحيانا… أشياء قد تخرج عن سياقها وعن مقامها، غير أن التقليد الذي ترسخه في ذات الآن، هو التفاوت بين الأجناس الكتابية أحيانا، بإعطاء الحظوة التقديمية والترويجية للرواية على حساب أجناس أخر، وهذا على سبيل التمثيل. فأصبحت هجرة الشعراء وكتاب القصة وحتى الباحثين إلى الرواية جلية منذ مدة. والغاية هو التسابق نحو التتويج، فكان من المفترض، بغض النظر عن الجائزة أو غيرها، أن يبدع الناس في كل المجالات الفنية والإنسانية، من دون أي انتظارات أو تطلعات مادية مقرونة بجنس معين. وهنا يطرح سؤال الكتابة والرؤية الفنية عند القاص والشاعر والروائي…

3
ساد تقليد في الوطن العربي، وهو دخيل بالمقارنة مع الغرب، ليضع الكتاب والأدباء أمام وضع جديد في الاعتماد على كتاباتهم ومنجزاتهم حينما تصيب جائزة ما. وهي تعويض مادي يستحقه الكاتب(في بداياته)، وهو شكل من أشكال التكريم والتحفيز بالنظر إلى القيمة المادية التي تمنح للكاتب الفائز ، بحيث تضمن له حياة كريمة ولو مرحليا. ولكن أن تتحول الجائزة إلى غاية تسلب قناعات الكاتب وأساسيات الكتابة، وتضرب له موعدا سنويا، وكأنها تستكتبه للحصول على قيمة مادية في هذا الجنس الكتابي دون غيره، فإن هذا الوضع قد أساء إلى الكتاب والكتابة في آن. مما يستدعي حسن النية في التعامل مع الجوائز لكونها مخصّصة للاحتفاء بالفنون التي تقوم بتتويج المبدعين فيها، وتركيز الاهتمام على أعمالهم وعليهم، وتسليط الأضواء على مجالاتهم وتسويق كتاباتهم وتقديمها لقاعدة قرائية مهمة، وبأكثر من لغة أحيانا. كما لا يمكن الإغفال عن أنّ الجوائز المخصّصة للفنون الإبداعيّة الأدبية (شعر، رواية، قصة،..) في العالم العربيّ، على قلّتها، تدار في مناخ ملتبس أحيانا، قد يؤثر سلبا على البيئة الأدبية، وهو ما تترتب عنه مواكبة إعلامية أحيانا تشكك في النتائج والأعمال المرشحة، وقد نقرأ مبادرات فردية تشرّح العمل الفائز وتتبين مواطن ضعفه، مما يضع مصداقية ونزاهة الجائزة أمام محك آخر هي في غنى عنه.

4
إن أي عمل حصل على جائزة، هو ليس بالضرورة عملا جيدا، أو ضرورة اعتماده مرجعًا في مجاله، وأي عمل طرد من الجائزة ليس بالضرورة عملا سيئا ينبغي الحطّ من قيمته الفنية. ودائمًا عندي رأي أردده وهو أن الجوائز مكسب في النهاية، ينبغي الحفاظ عليه، مهما كانت السلبيات. وحسب علمي لم تسلم جائزة من هامش الغمز واللمز، خاصة من الذين لم يحالفهم الحظ، ويبدو لي، أن غضب الخاسرين يتصاعد تماشيا مع قيمة الجائزة المالية. ولكن سرعان ما يسابقون الزمن لتقديم أعمالهم الجديدة (الروايات)في الدورة المقبلة ويبدو الوضع جليا من خلال تكرار أسماء بعينها للأسف.
فالجوائز السخية توفر قدرًا ماليا مغريا لمن يظفر بها وصخبا مشوشا. فإذا خاصمتهم الجائزة صبوا عليها اللعنات والطعنات، واتهموها بعدم النزاهة. لكن سرعان ما يهرعون إلى تقديم رواياتهم وتأطير ورشات وندوات حولها، بغاية لفت أنظار الجمهور إلى نتائج الجائزة غير المنصفة.

5
لا شك أن تعدد الجوائز الثقافية في الساحة العربية مؤشر دالّ على دينامية ثقافية تسهم في توجيه الثقافة، وتزويد المجتمع بنتاج فكري وإبداعي ساهمت من خلاله دور النشر التي انفتحت على الأعمال الأدبية غير العربية.
إننا نستطيع أن نحصي عشرات الجوائز لمؤسسات وهيئات مانحة، وقد اكتسب معظمها شهرة واسعة ومصداقية عالية؛ لكونها تجمع بين التكريم المادي والمعنوي لأسماء لها إسهاماتها البارزة في الإضافة إلى مجالات تخصصها، لذلك فإن فوزها يعدّ تتويجًا لمسار تميز بأداء خاص، وحفزًا لهم على مزيد من الأداء والإبداع. كذلك تُسلِّط الجوائز الضوء على أسماء جديدة تُبشر بها، ويمنحها الفوز بالجائزة فرصة الحضور والاعتراف بمواهبها وتقديرها حق قدرها، وهذا مكسب ورهان كبير يضاف إلى تشجيع المبدعين الجدد لأنهم أبانوا عن أشياء لافتة، والانطلاق إلى آفاق واسعة، تتيح لهم الدخول إلى ساحة الكتاب.
غير أن معظم المتوجين يتوارى عن الظهور بعد الجائزة، وكأن نور الاحتفال وموشور النجومية قد انطفأ، وغالبا ما يعود الأمر إلى المؤسسة المانحة التي لم تقم بتدبير العمل المتوج واحتضانه ورعايته، بتهيئة المجال لضمان الاستمرارية والمتابعة عن طريق النشر والترجمة وتشجيع العمل بمتابعته إعلاميا ونقديا، وجذب الأدباء والمبدعين الشباب، إلى جانب الجمهور العادي من مختلف الأعمار؛ لذلك تظل هذه الدينامية الثقافية محدودة الأثر في الواقع الفعلي، كما لا يحدث التراكم المطلوب لنقلة نوعية على مستوى زيادة أعداد القراء، وبالتالي التفاعل المجتمعي المأمول، فيما تبقى الجوائز مناسبات احتفائية مرموقة، لكنها معزولة في إطار موسمي.

6
نحتاج إلى جائزة تنتهج رؤية في الأداء، ولا تنظر في الأعمال المرشحة فقط، وإنما تستقرئ الأعمال المنشورة، وترشح ما تراه جديرا بالتتويج والاحتفاء، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى العمل من زاوية واحدة، وإنما فتح أفق التفاعل مع الإبداع الإنساني من زوايا عديدة. ومن الضروري، أن تمتد هذه الرؤية إلى دور النشر لتيسير وزيادة مراكز التوزيع على نطاق أكثر اتساعًا وتنظيمًا. كما ينبغي ألا ننسى دور الإعلام الثقافي في التعريف بالأعمال الفائزة، وتقريبها للجمهور العادي، وعدم اقتصار هذا الدور على إبراز الحدث في تغطيات صحفية سريعة، تهتم بالإخبار والاحتفاء أكثر من اهتمامها بالقيمة الأدبية الحقيقية للأعمال الفائزة.
إن الجائزة الحقيقية التي ينتظرها الكاتب الحقيقي هي إحساسه بالعلاقة التي يجب أن يصونها ويبنيها مع عدد غير محدود من القراء. العلاقة التي تتقد جذوتها يوما بعد يوم، وتلقي عليه مسؤولية كبرى وتسهم في تطوير كتابته حتى تستجيب لرؤيته الفنية وانتظارات قارئ ذكي.
لم تكن الجوائز محفزا على الكتابة، ولم تكن أبدا ضرورة وضرورية في حياة الكاتب، الكاتب الحقيقي يقول لنفسه: «ملتزم بتحسين أعمالي في كل مرة. أليس هذا واجبا علي كروائيّ؟ لم أر أوجه قرّائي ولم أتعرف عليهم شخصياً، ولكني أعتبر علاقتي معهم أهم ما يمكن أن أكرّس حياتي لأجله».(هاروكي موراكامي).


الكاتب : عمر العسري

  

بتاريخ : 15/05/2020