«اللغة في شعرية محمود درويش» كتاب يُنَفّذُ الوصية الشعرية للشاعر محمود درويش

انتظرَ حقلُ الدراسات النقدية عشْر سنواتٍ، على وفاة محمود درويش، ليظفَر بأول دراسة أكاديمية تعنى بقراءة نتاج الشاعر من منظور جمالي محض. هكذا يتقدم عمل الباحث المغربي سفيان الماجدي والمعنون بـ: «اللغة في شعرية محمود درويش». و هو كتاب صادر مطلع 2018 عن دار توبقال المغربية، في طبعة أنيقة، وضع صورة غلافه الفنان ضياء العزاوي، من القطع المتوسط، ويبلغ عدد صفحاته 268 صفحة.
أصلُ الكتاب دراسةٌ تقدّم بها الباحث لنيل شهادة الدكتوراه، وهو ما يعطي للعمل طابعاً أكاديميّاً صرفاً، يستمدُّ أهمّيته من انتسابه إلى الأعمال القلائل التي تتناول التجربة الشعرية لمحمود درويش في شموليتها؛ استناداً إلى ما تُتيحه الشّعرية من أدواتٍللمقاربة، وإلى منطق تحليل نسَقي يتتبع التجربة في أبعادها التاريخية والثقافية والشعرية. وهو ما ساعدعلى استخلاص دروس أساسية في محاورة الشعر من جهة، وفي الحوار الثقافي؛ بما هو فكر ونضال من جهة ثانية.
ويبدو أن الباحث صاغ موضوعه بالإنصات إلى القصيدة. تقودُه في ذلك أسئلة مُوَجّهة تخص تجربة محمود درويش، وأهمها رهان الممارسة النصية على خطاب شعري موسوم بالفرادة، انطلاقاً من إبدال اللغة في علاقتها بباقي العناصر. وقد شكّل مسعى الباحث، في مقاربته لوعي الشاعر بهذا الإبدال، دعامةً ومدخلاً معرفيين للمسلك الحفري الذي يعوزنا في الدراسات العربية الآن. ومما أضاف للسؤال حجته المعرفية، اعتمادُه على قراءة نسقية لمجمل أعمال الشاعر، في ضوء تعدّد أشكال الكتابة لديه، ليختار البحث عن وعي نظري يتآلف مع الفعل الكتابي.
من جهة أخرى، انشغل الدارس بالبحث في خصيصات تَسانُد الشِّعر والنثر في بناءِ الخِطابِ الشّعري لمحمود درويش؛ذلك أنّ التجربة الطويلة لمحمود درويش اعتمدت الكتابة في الجنسين معاً، بل ضمّنت الشعر بعضاً من النثر في أحايين كثيرة.ومن حيث المنهجُ، فقد اعتمد الماجدي مفاهيم الشعرية اختياراً نظرياً، هيّأ له مصاحبة المتن الشعري ومقاربته.
وفي بنائه للموضوع، وزّع الماجدي كتابه إلى قسمين، يضمُّ كل منهما فصلين.خصّص القسم الأول للوُقوف على تعدّد المُمارسة النصّية لمحمود درويش، ومساءلة التّصوّرات النّظرية التي تشتغل في وعي الشّاعر، ولاوعيه. بهذا التّصوّر، ركّز الفَصل الأوّل من القسْم الأول على مجموعةٍ من العناصر المُمهّدَة للاشتغال على عناصرِ الفرضية، حيث اعتنى العملُ، في مرحلة أولى، بمحاورة الدراسات النقدية التي جعلت من شعر محمود درويش موضوعاً لها، مما أكسبهُ قوة مركبة في التوثيق والتحليل والتحصين النظري لآليات العمل، ثم انتقل إلى إنجازِ قراءةٍ جديدة لهذه الأعمال تسعى إلى الوقوف على المحطّاتِ المفْصلية التي ميّزت الممارسة النّصية لمحمود درويش، شعراً ونثراً، وتهدفُ إلى الكَشف عنِ العناصر النّصية التي ميّزت هذا المُنجَز النصي من طرائقَ تتّصلُ بتمثُّل الشّاعر للكتابة.
وقد أكَّدَ التحليلُ، الذي أنجزه الباحث أنّ النص الشعري لدرويش ظلّ رهينَ القراءاتِ التي صنّفتهُ ضمْنَ شعر القضِية الفلسطينية، وعَمِلَتْ على تَتَبُّعِ السياسي فيهِ، وجعلَتْ منهُ خطاباً ثوْرياً. فيما انفَتَحَت الدراسة على مُخْتلِف الأعمال الإبداعية للشاعر بهَدفِ إعادَةِ قراءَتِها وَفق منْظُور يرُومُ الوقوفَ على العناصِر الدّالة فيها.
«لمْ تكنْ مُمارسة درويش بَعيدةً عن الخَوضِ في المَسْألَةِ الشِّعرية» كانت هذه الخلاصة التي انتهى إليها الباحث في الفصل الثاني من كتابه. فإذا استقرّ لدى القارئ غِياب دراسة نظرية مُؤسّسَة لشعرية قصيدة درويش، فإنّ الدارس أكد أن المُنجزَ النّصي، نفسَهُ، شكَّلَ الرّحِمَ الخِصْبَ لتأمُّلِ قَضايَا الكتابة، وذلك من خلال التصْريح ثم الانطلاق من اختبارِ عُنصرٍ بِنَائي، في علاقَتِه بباقِي العناصِر الأخرى، في عملٍ شعري أو مجموعةٍ من الأعْمال.
بهذا الرهان كشَفتِ الدراسَة إبدال مفهوم الشعر، الذي عَرفَ تحوُّلاتٍ مسّتْ جوهَرَهُ بانتقالِه من القصيدة التي كانت ترومُ التّعبيرَ، إلى القصيدة التي تَدعُو إلى التغيّر وتُقدّم المعنى على البناء، ومنهما إلى قصيدة الرؤيا. وخلال هذا المسار بدا التنوُّعُ سِمَةً للنّصوصَ الغائِبة التي انفَتَح عليها المُنجزُ النّصي للشاعِر، منْ خطابٍ ديني، وأشعار، وتاريخ، وملْحمة، ومسرح، وفنون بَصَرية مختلِفة.
أوضح الماجدي في دراسته انشغال درويش بالنّثر، إلى جانب الشعر، واشتغاله عليه. ذلك أنّ القراءة المنجزة أكدّت الوشائج التي يفتَحُها الجِنسان تُجاهَ بعضِهما؛ بحيث تبَدَّت العلاقة بينهما قائِمةً على التّجاوُر والتّسانُد. وقد انبنى هذا التساند، كما يرى الناقد، على أساسِ كتابَةِ قصيدةٍ ذات خَصائِصَ نثريةٍ، أبرزُها المشْهدُ الشِّعري القائمُ على تعدُّدِ الأصوات، والقصيدةُ الموزونةُ ذات الجُمَل النثرية، إضافةً إلى الانفتاح على السرد. كما تنبّه الدارس إلى اهتمام درويش بمسألة الإيقاع، من حيث هو مدخلٌ مُميِّزٌ لتجربته الشعرية، حيث اختَبَرَ المكانَ النّصي، وشَغّلَهُ بوضْعياتٍ مُختلِفة ترَاوَحتْ بيْنَ الامتلاءِ والفراغِ منْ جِهةٍ، وتجريب السوناتة الموسيقية، من جهة ثانية.وامتداداً للوَعي بالبِناء الذي ترسّخَ لدى درويش، أصبِحُ النصّ الشعري تشكيلاً هنْدسياً لا عفوِيّة فيه. هذا، ولم يفت الدارس تتبعُ الإبدالات التي عرفَتْها الصّورة الشعرية في الخطاب الشعري لدرويش، وعلاقَتها بالتّشكيل، ثم انتقالها منَ الصّورة الرمزية إلى الصُورة في ذاتِها.
وفي الفصل الأول من القِسم الثّانِي، أخذ اشتغالُ الباحث منْحى آخر، من خلال التركيز على استخلاص تصوّر محمود درويش عن اللّغةِ، انطلاقاً منَ النص الشعري نفسِه، وانتقالاً إلى الوُقوفِ على عناصِرِ المعْجَم الشعري لديْه، والطرائقِ التي يبْني بها التّركيبَ، منْ خلالِ عُنصرين رئِيسيْن هُما التقديمُ والتأخيرُ، والاعتِراضُ. فيما شكّلَ الفصلُ الرابعُ امتِداداً للاشتِغالِ على دالِّ اللغة، وسَعْياً إلى الوُصول لخُلاصاتٍ تمَسّ خُصوصيّة اللغةَ عندَ درويش، مُمثّلَةً في زَمنِيّةِ التركيب؛ حيث خلص الدارس إلى إن ما يمْنحُ للتركيبِ اللغوي خُصوصِيَته هو قيامُه على تسَانُد الفِعل وأساليبِ النّداء والاستِفهامِ والأمر والنّهي والتمَني، بطريقةٍ تَشِمُ القصيدةَ، وتطبَعُها بفرادَةٍ مَا، وهو ما ترَدّدَ في مُجمَلِ المُمارسة النصيَة للشاعِر. كما توصل الباحث إلى أن وظِيفة اللغة في أعمال درويش تتوزع بيْن لغة التعبير، ولغة الخلق، من دُون أنْ تُحْدِثَ بينهما قطيعَة.
يتبدّى البناء المنهجي لهذا الكتاب دقيقاً، يلتزم بأهم مبادئ البحث المعرفي، من تقريب مفهومي، واستقراء نظري، ومراجعة نقدية، وترتيب مقولي، وتحليل نصي، وتركيب واستخلاص بنية. كما أنّ سؤال الحدود واضح، جنّبَ الباحثَ التناقض والإجراء المنفلت من القيود نظراً وتأويلا. كما أن لغته الواصفة رصينة، تستجيب لشروط النقد والتنظير، ولا يعتريها عائق تمثيل إضافي.
وقد شكّل عمل الباحث سفيان الماجدي «اللغة في شعرية محمود درويش» قيمة مضافة إلى حقل الدراسات النقدية العربية، من جوانب عديدة، أهمّها طريقة مقاربته لعنصر اللغة في شعرية محمود درويش الموصولة برهان مساءلة التّصوّرات النّظرية، التي تشتغل في متن الشّاعر. وبهذا الاختيار تجاوزت الدّراسة مجمل القراءات النّمطية التي تناولت هذه التجربة دون فصلها عن السياسي والوطني. وهو ما يجعل هذا الكتاب استجابةً لرغبةٍ، عبّر عنها الشاعر محمود درويش نفسه في حوارات صحفية كثيرة، تدعو لتحرير أعماله من تلك القراءات، والرّهان على البحث في الخصائص الفنّيةوالجمالية لقصيدته.


الكاتب : د. يوسف البهالي

  

بتاريخ : 27/04/2018