خروج عن السطر اَلْغَرَقُ في الْخَطايا..

إِلى كُلِّ مَنْ فَكَّرَ أَوْ كَتَبَ أَوْ عاشَ خارِجَ السَّطْرِ وَغَرِقَ في خَطاياهُ دونَ خوفٍ..
إلى يونيو الحزينِ..


«كَما أَعْرِفُ أَنَّ لِلْحواسِّ الْخَمْسِ أَبْواباً مُتَّصِلَةً، أَعْلَمُ أَنَّهُ عَلى الشّاعِرِ إِمّا أَنْ يَتَصَدّى لِجَلاءِ صورَةٍ ما أَوْ أَنْ يَفْتَحَ ما بَيْنَ هَذِهِ الأَبْوابِ لِتَنوبَ حاسَّةٌ عَنْ أُخَرى».. فيديريكو غارثيا لوركا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قدْ يبدو لي، أنا الرّائي الشَّبَحُ، والرّاكِبُ المُسْرِعُ، والعابِرُ معَ الرّيحِ بلا نهاياتٍ ولا برمجيّاتٍ، والحائِرُ في رُؤاهُ للحياةِ ولمُسْتوياتِها المَجْهولَةِ والغامِضَةِ، أسيرُ بعيداً كلَّ البُعْدِ عنْ كُلِّ ما قد يحمِلُ سماتِ العملِ المُخَطَّطِ والمُحَدَّدِ والواضِحِ في المسارِ والطَّريقِ والوَعْيِ.

لمْ يَعُدِ أمامي منْ رِهانٍ سوى الاِنْغِماسِ في الحياةِ بِفُضولٍ ولَهْفَةٍ، وإنْ يَكُنْ بِطَيْشٍ وَحُمْقٍ.. حتّى وَلَوْ بدا هذا الاختيارُ طريقاً ثانويّاً وجانبِيّاً وَضالاًّ في تصوُّرِ العالَمِ وإدراكِهِ عند الغالبيَّة المُوقَّرَةِ، لَكِنَّهُ بالنِّسْبةِ إِليَّ صارَ مساراً وطريقاً واخْتِياراً أساسِيّاً ومَصيرِيّاً… وفي هذِهِ التَّجْرِبَةِ الجديدةِ، بالذّاتِ، من اختبارِ مُسْتَوَياتِ الحياةِ تحتَ الجائِحَةِ وبَعْدَها، صِرْتُ أُفَكِّرُ كَمْ ضَيَّعْتُ مِنْ آثارٍ خَفيفَةٍ ورائِعَةٍ في عبوديَّةِ حياةِ الواجبِ والمَسْؤولِيَّةِ والتَّعَقُّلِ وانتظارِ النّورِ الذي انطفأَ ولنْ يعودَ…

وأنا، أَنْتَظِرُ بِتَوْقٍ شديدٍ صوتَ الجرسِ مُعْلِناً نهايَةَ الجائِحَةِ، إِنْ كانتْ تَنْتَهي حقّاً وفِعليّاً، وقدْ سَكَنَتِ العْقُولَ والقُلوبَ والوَقائِعَ والأَحْلامَ، وَمَعَها التَّوْقُ العميقٌ إلى نِهايَةِ مُقاربَتي الخارِجِيَّةِ للعالَمِ ولتَصَوُّرِهِ وإدْراكِهِ، ونهايَةِ الجَرْيِ والهَرْوَلَةِ وراءَ أشيائِهِ الثَّقيلَةِ والصَّلْبَةِ والمُنْتَهِيَةِ الصَّلاحيَةِ، والَّتي رَوَّضَتْني في تدويرٍ بَئيسٍ لِمَعاني الحياةِ والعائِلَةِ والزَّواجِ والإِنْجابِ والمُحافَظَةِ اللَّعينَةِ على استمراريَّة السُّلالة البَشَريَّةِ الغريزيَّةِ، وَجَعَلَتْ كَيْنونَتي الإِنْسانِيَّةَ مُمارسةً طيِّعَةً للقَدَرِيَّةِ والطّاعةِ والرِّضا تَحْتَ استعاراتِ الانتماءِ والواجِبِ والعمَلِ والكفاحِ…

قدْ أُدْرِكُ، رُبَّما، بَعْدَ الخروجِ من الحَجْرِ وتجاوُزِ الجائِحَةِ إنْ أَمْكَنَ ذلكَ، كمْ كانتْ هناكَ منْ إمكاناتِ فُرَصٍ صغيرةٍ وهامِشِيَّةٍ، وأَشْياءٍ صغيرَةٍ وثانوِيَّةٍ، مُبْهِجَةً وَواعِدَةً، ولمْ أَلْتَفِتْ إليها في حينِها، ولمْ أَمْنَحْها إمكانَ الحياةِ، وَرُبَّما، هِيَ أَيْضاً تاهَتْ وضاعَتْ مِنّي، وَضِعْتُ مِنْها… ولَنْ أَجِدَ إليها سبيلاً مرَّةً أُخْرى…

تُرى ماذا يَحْدُثُ لَحْظَةَ مُكوثِي هُناكَ في الخارِجِ، في المَيْدانِ العامِّ، وفي اللِّقاءاتِ العُمومِيَّةِ، وفي سوقِ الخُضَرِ أوْ سوقِ السَّمَكِ أوْ سوقِ العيْشِ…؟ وماذا يَحْدُثُ في فضاءٍ خاصٍّ أوْ في لِقاءٍ سِرِّيٍّ، أوِ عَلى جَبَلٍ أوْ بضِفَّةِ نَهْرٍ أوْ نَبْعِ ماءٍ….؟ هلْ أَمْعَنْتُ النَّظرَ يوماً في هذهِ الإمكاناتِ؟

كُنْتُ دائِماً أَشْعُرُ أَنِّي أَضَعْتُ الكثيرَ منَ الخاصِّ والسِّرِّيِّ والعابِرِ بسلاسَة وانْمِحاءٍ سَريعٍ، لأَنِّي كُنْتُ مُعْتَقِداً ضَرورةَ، بلْ وُجوبَ الالتزامِ بالمَسْؤولِيَّةِ والواجِبِ تُّجاهَ الآخَرينَ، وهمْ كُثْرٌ.. في داخِلي وقَعَتْ وتَقَعُ أحداثٌ ولقاءاتٌ وقَصَصٌ وأحلامٌ آسِرَةٌ وفاتِنَةٌ، وكانَ وَعْيي الخارِجِيِّ يُفْسِدُ كُلَّ ذلكَ الجمالِ والحُرِّيَّةِ… كانَ عَلَيَّ الحضورُ في الخارِجِ مسؤوليَّةً ولكنْ مُفارقاً للخارجِ ذاتِهِ… كَمْ كانَ عليَّ الحضورُ في الخارجِ، ولكنْ بِلِباسِ الخِفَّةِ والمَرَحِ والعبَثِيَّةِ…. لكِنّي أَخْطَأْتُ الطريقَ..

ما الوسيلَةُ الأَفْضَلُ، اليومَ وغداً، للنَّظَرِ داخِلَ مُسَتْوَدِع الرُّؤْيا الجديدةِ والخفيفةِ والسَّائلةِ، رُؤْيا الإِنْسانِ المَسْلوبِ، والفَنّانِ الجَريحِ، والشّاعِرِ اليَتيمِ… بَعْدَ هذهِ الهَزّاتِ العَنيفَةِ التي عِشْتُها وَأَعيشُها معَ الجائِحَةِ وبَعْدَها…؟ لَعَلَّهُ، المَظْهَر الأَكْثَرُ تَعْقيداً وَإِرْباكاً وتَيْهاً لأَيِّ إنسانٍ حُرٍّ وَنَزيهٍ مع ذاتِهِ..

لَمْ يَعُدُ يَصْلُحُ لِباسُ الإنْسانِ العارِفِ والمُتَيَقِّنِ من تَصْريحاتِهِ وادِّعاءاتِهِ، والذي يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ، وَيَمْتَلِكُ أَفْكاراً كَوِنِيَّةً تامَّةً ورُؤْيَةً ثاقِبَةً للعالَمِ… والَّذي يَسْتَطيعُ أنْ يَتَكَلَّمَ بِثِقَةٍ وَرَصانةٍ وتَعَقُّلٍ عنِ الوُجودِ والسِّيّاَسِة والفَنِّ والحُبِّ والمَصيرِ…

لَيْسَتْ لَدَيَّ أفكارٌ كَوْنِيَّةٌ… وأَعْتَقِدُ أَنَّني أَكونُ في حالٍ أَفْضَلَ عندما لا أَمْتَلِكُها، ولا أَسْمَحُ لها هِيَ أيضاً أنْ تَمْتَلِكَني وتَتَمَلَّكَني… نَنْفَصِلُ عنْ بَعْضِنا البَعْضِ، أَنا والأفكارُ العامَّةُ والصَّلْبَةُ والثَّقيلَةُ… لهذا أَشْعُرُ بالقَلَقِ والاِضْطِرابِ حينَ يُطْلَبُ مِنّي التَّعبيرُ عنْ كُلِّ الأفكارِ دُفْعَةً واحِدَةً، وبانْسِجامٍ تامٍّ، وتكامُلٍ مُطْلَقٍ… وحينَ يُنْتَظَرُ منّي صياغةُ المواقِفِ المُلْتَبِسَةِ والغامِضَةِ بوُضوحٍ وَبَيانٍ….

مَعَ تَقَدُّمي في السِّنِّ، وَتَنَوُّعِ مصادِرِ حياتي المُرْتَبِكَةِ، ومَعَ تَجْرِبَتي الغريبَةِ تَحْتَ الجائِحةِ، تَقِلُّ حاجتي لمفاهيمَ تُعَقْلِن صِلَتي بالعالَمِ وبالواقِعِ وبالنّاسِ… لمْ أَعُدْ أُحِبُّ أنْ أُنَظِّمَ العالَمَ وَأشياءَهُ وأُرَتِّبَها في مقولاتٍ وخُطاطاتٍ، لنْ أستطيعَ إلى ذلكَ سبيلاً أيضاً…

رُبَّما، هناكَ من يستطيعُ أنْ يَسْتَحْوِذَ على الأشياءِ والعالمَ باستخدامِ الكلماتِ التّامَّةِ والنِّهائِيَّةِ، أو عنْ طريقِ استخدامِ الأحاسيسِ الكبيرةِ والكامِلَةِ والعاقِلَةِ والواضِحَةِ… أمّا أنا، فَأَسيرُ بلا مُقدَّماتٍ ولا نِهاياتٍ، وَأَرْسُمُ رُسَيْماتِ وَجْهٍ مُتْعَبٍ أوْ وُجوهٍ بدونِ ملامحَ، وَأَسْمَعُ الأصواتَ الصّامتَةَ دون تَدَخُّلِ لُغَةٍ ما، وَأَشُمُّ روائحَ مُتفاوتَةِ المصادِرِ وغيرَ مُتناغمَةٍ، ولكنها دالَّةٌ بالنِّسْبَةِ إِلَيَّ على الحَيْرَةِ الحيَّةِ… وها أنا أَسْعى إلى السَّيْرِ مع العالمِ وفي العالمِ وَضِمْنَ العالمِ وليسَ فَوْقَهُ… رُبَّما أنا تَحْتَ العالمِ لكنْ ليسَ من شِدَّةِ الضَّغْطِ، ولكنْ من كَثْرَةِ الحَفْرِ نحوَ القاعِ…

رُبَّما، تضاعَفَتْ رَغْبَتي في الالتفاتِ بِمَكْرٍ غريبٍ إلى التَّعْبيراتِ الضّالَّةِ التّائِهَةِ، والتَّشْريحاتِ الصَّغيرَةِ النّافِرةِ… لعلَّها طريقتي الغريبَةِ الجديدةِ في الاقترابِ من المعنى إنْ كان هناكَ أصْلاً معنىً لشيْءٍ ما، أمْ أَنَّ المَعْنى مُجَرَّدُ وَهْمٍ عابِرٍ، وكُلُّ المعاني قدِ انْتَهَتْ أوْ تَلَبَّسَتْ بمجازاتٍ واستعاراتٍ لا نهائِيَّةٍ ولا مُحَدَّدَةٍ..

لَمْ يَعُدْ نَظَري مُرتبطاً بقضِيَّةِ الإيمانِ بِشَيْءٍ ما، لا الإيمانِ بالمعنى أو بالحقيقةِ أو بحُسْنِ التَّصَرُّفِ والتَّعَقُّلِ أو بالتّاريخِ العامِّ والقَضايا المَصيرِيَّةِ…. رُبَّما، صار نَظَري في اتجاه المُخَيِّلَةِ والتَّخْييلِ، وفي مَسارِ اللاّمَرْئِيِّ واللاّنهائِيِّ… هنا، قَدْ أَجِدُ نظراً آسِراً وخفيفاً ومُرْتَحِلاً… لَعَلَّ العَيْشَ مُكَلِّفٌ….

لمْ تَتَغَيَّرِ الأُمورُ كثيراً في دواخلي مُنْذُ أَنْ عرَفْتُ نَفْسي في مِساحاتٍ سابقةٍ أوْ جديدَةٍ.. أَسْتَمِرُّ في حِيازَةِ أَحْلامٍ مُماثِلَةٍ لتلكَ التي حَلُمَ بها البَشَرُ جميعاً مُنْذُ ثلاثةِ أوْ أربعةِ آلافِ عامٍ، ولكنَّها أحلامٌ مَطْحونَةٌ مَنْذورَةٌ لِلْهَباءِ… وَيَظَلُّ الطَّحْنُ والخَوْفُ سرَّ الحياةِ.. وكأن الطَّحْنَ لازِمَةٌ زَمَنِيَّةٌ وَالخَوْفَ إحساسٌ صِحِيٌّ…

الطَّحْنُ والخَوْفُ كيانانِ حِسِّيّانِ قَدْ يَمْنَحانِ مُتْعَةً لَطيفَةً وغرابَةً جميلَةً بالسَّعيِ إلى تذَوُّقِ كُلِّ ما هو خارجٌ عن السَّطرِ في هذِهِ الحياةِ الطّائرةِ والاسْتِمْتاعِ بهِا… والنَّظَرِ حتّى إلى جوانِبِها المُظْلِمَةِ وَحَواشيها القاهِرَةِ، وكأنَّ ذلكَ فُرْصَةٌ لِشَيْءٍ ما لَنْ نَفْقِدَ معهُ عُذْرِيَّتَنا العَميقَةَ وَدَهْشَتَنا الأَبَدِيَّةَ…

ما عَلَيَّ، إِذَنْ، في الْغَدِ الْقَريبِ سِوى بَذْرِ حَبَّةٍ جديدةٍ خَفيفَةٍ وَضالَّةٍ، وَسَقْيِها بالفنِّ والخيالِ واللُّغَةِ الشَّفيفَةِ والعابِرَةِ، لِتَيْنَعَ وَتُورِقَ وَتُثْمِرَ كلماتٍ صغيرةً مجنونَةً لا نهائِيَّةً، وَقُبَلاً مُخْتَلَسَةً يائِسَةً، وَغَمْزاتٍ حُلْوةً ماكِرَةً، وكُؤوساً رفيعَةً ساخرَةً مِنَ ماءِ الْحَياةِ إنْ سَمَحَتْ لنا هَذِهِ الحياةُ..


الكاتب : قاسم مرغاطا

  

بتاريخ : 26/06/2020