سأتركك لأنني أحبك

تشبه دراجتي الزرافة خصوصا عندما يتلبسني الشيطان وأنظر الى جميع الأشياء بعين التشبيهات. تمشي ببطء شديد، تشرئب برأسها لشق عباب الذكريات كعصى النبي. قررت بكل ما أوتيت من قوة أن تضرم النار في مكان عصي في الذاكرة، كنت قد شيدت ذات فراق سياجا من نسيان حوله، يصعب اختراقه، لكنه خر بسرعة أمام قوتها الاعجازية، بضغطة واحدة على الدواسة، قبل حتى أن ألتقط أنفاسي. خرج من المكان حوار سرمدي موجع، حارق، عبق برائحة الفقدان، يستطيع تدمير قلب أصغر من مدينة روما، وحظ أقل من حظ نيرون بعمر:

– يجب أن تتركني…
– وهل يترك مؤمن الحياة بعدما وجد أخيرا سببا ليبقى؟
– اعتبر أنك اكتشفت زيف إيمانك، أنا أيضا أحبك، لكن القدر شاء أن تكفر…
– لكنني أحبك مؤمنا وكافرا، وهل يشاء القدر مشيئة ضد مشيئتنا؟
– إن كنت تحبني، أرجوك اتركني…
– سأتركك…لأنني أحبك.
هكذا كان الوعد، مدمرا أكثر من وعد بلفور.هكذا شاءت أقدارنا، وكما تقول الأم: لا تقل شئنا ولكن القدر شاء. منذ أن كنا أمنيات أبائنا، علمنا أن نخضع للقدر صاغرين دون أن نحاول حتى السؤال، أو التأفف، أو التذمر، أو حتى أن تنظر في عينيه وتقول: ليس عدلا…
تملكتني الكآبة، والحمى التي تسبق المرض المزمن، أشعر للمرة الأولى في حياتي القصيرة جدا، أنني شخت، وغير قادر على المقاومة. لابد أن أتقاعد، ربما قلبي وحده من شاخ، وهل يسكن قلب شيخ في بدن شاب؟ وكم يكفي من الاحتراق لترضى النار، نار الأشواق؟ وكم يكفي من الريعان ليحيى القلب؟ لماذا لا يكون الأمر بسيطا أن نعود لبعض كما أن شيئا لم يحدث؟ وهل يعود كأس الزجاج المكسور الى وضعه السابق؟
يقذف بي السؤال نحو بحر هائج من الأحاسيس الجارفة، المتضاربة، والمتناحرة معي. تقترب سفينة مني تمخر عباب الذكريات، ربما هي سفينة النجاة، أو لتكن على الأقل سفينة ثيسيوس، ربما يشغلني التفلسف مع معضلة هوبز عن البحث عن سبيل للاحتراق كما تشائين. لكنها كانت سفينة أخرى، تمنيت لو أنها لم تكن. سفينة أصغر من الأحلام المرسومة فوق شفتيك، أشسع من بريق الأمل في عينيك، نقش عليها بماء ذهب يشبه حزن وجنتيك: «ما نيل المطالب بالتمني»، وهل يتمنى المرء بعدما فقد مناه؟ وما نفع التمني بعد أن سرق مني الزمن؟ كيف أراقب تعاقب الأيام والمذكرة معك؟ كيف أصلي بلا قبلة؟ كيف أكون بدونك؟
يا ليت السماء حققت رغبة بئيس أخيرة، لا أريد مالا لأنه يؤلم معدتي، لا أريد سلطة لأنني لا أستطيع التحكم حتى في غرائزي، لا أريد أي شيء، لا دنيا ولا آخرة، أريد فقط أن أستبدل معجزة بمعجزة، الدراجة الزرافة بعصا النبي الحقيقية، لكي أشق الزمكان، وأعيده الى الوراء، وأختار ألا أعرفك قبل أن أستطيع التحكم في موهبة إفساد سعادتي، قبل أن أقتل أناي المزاجية. أو ربما أنتشلك من الهناك الى الهنا، قبل قطع الوعد اللعين، أحضنك بعنف وأهمس بصوت أكثر صخبا من صوت الفناء: أنا آسف. ربما يصلح الحضن ما أفسده المزاج. ولماذا لا أموت قبل أن أقطعه فأكون رحلت مع ذكراك، عوض العيش مع وعد مشؤوم.
كم يكفي من الدموع والخمر والموسيقى لإخماد حريق؟ ربما أكثر مما يوجد. سأنسى، هكذا يقولون، ربما يكونون على حق، سأنساها يوما ما، وبذلك أكون استطعت نسيان نفسي، وما جدوى العيش بدون أن تشعر أنك أنت؟
قاطعتني موسيقى لم أحدد مصدرها، لكنني تبينت كلماتها: «طال غيابك أغزالي راكي طولتي فالغربة».. الرثائية المعروفة للشاب حسني، وهل حبيبتي خارج أرض الوطن؟ أجبني بسرعة التنهد: لا وطن لديها خارج قلبي، ترى متى تعود لأنني اشتقت للأنا الذي أخذته معها؟ لست نزار لأهوى امرأة بدون عنوان، ولست قيس لأتقفى أطلالك، أنا أعرف مكانك جيدا، لماذا لا أذهب إليه؟ لن أفعل، أفضل العيش مع الألم وأنت على يقين أنني أحبك، على أن أنقض وعدي ويتسلل الشك الى قلبك.
ما الذي أدخلني مرة أخرى في دوامة الأسئلة؟ ربما تكون الدراجة المعجزة مجرد سبب، لكن باختفاء الأسباب ستختفي الوقائع. اقتنيت خمس لترات من البنزين الممتاز، أفرغتها فوقها، وأضرمت النار في الدراجة. كلما تقدمت النار أكثر، أشعر أنني أحترق معها، ركنت في زاوية، أشعلت سيجارة أخيرة، وبدأت أشاهد حياتي تتبخر مع الدخان، مشاريعي كلها، وعودي السابقة ألا أكون، أحلامي السوداء، دموعي عندما كنت قادرا على البكاء. ولم يبق الا شيء واحد ووحيد، وعد مشؤوم بأن أتركك لأنني أحبك…


الكاتب : عبد الجليل ولد حموية

  

بتاريخ : 06/09/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *