شره الأمكنة.. العالم بعدسة أحمد بن اسماعيل 25- راقصات الحوزي.. ذكور في عمق التشخيص

حين تتحول العدسة إلى مؤرخ فني كبير.. حين تسرق اللحظات ليس لتوقف الزمان ولكن لتعيد للوجدان كينونته.. تنفخ فيه روح الحياة المزهوة بكل ما هو جميل ونبيل.. بكل ما يجعلك تقف باحترام وانت مبهور لترفع القبعة وتنحني ببهاء ممتثلا للمشاهدة والإنصات..
هكذا جعل الفنان الفوتوغرافي المبدع أحمد بن إسماعيل آلة تصويره معشوقة دائمة محمولة على كثفه الأيسر لتجاور قلبه حيث تتناغم مع نبضات حبه التي تحولت إلى قصة عشق أبدية..
بين وضوح النهار وأثار الليل، بين الوجوه المشرعة في الساحة، في الدرب، في الشارع، في المقهى، في المسرح، في السينما، في كل هذا الكون الممتد من القلب إلى القلب..
عشق فسيح في عالم لا يلجه إلا من ينبض بالحب، ويتملى بالجمال، ويتقن فن العيش ليسكن قلوب كل العاشقين، ممن تحدثت عنهم الأساطير ، أو حتى تلك التي قد تحتاج لمعرفة كنهها وانت تتسلل في علو إلى سدرة منتهى الحب..
أحمد بن إسماعيل وهو يعبر كل تلك الدروب والازقة الضيقة شكلا، والشاسعة حبا، من حيه بدرب سيدي بن اسليمان في المدينة العتيقة مراكش، فلا يعبرها رغبة منه، أو تغريه روائح توابلها، وطلاء جدرانها، وزليج سقاياتها، وقرميد أقواسها، وطيبوبة وبساطة سكانها، إنما تقوده محبوبته، عشقه، لممارسة شغبه/ حبه الفني في التقاط كل ما هو بديع،..
أحمد بن إسماعيل حتى عندما افتتن بالريشة والصباغة والألوان، وأبدع فيها ببصمته الخاصة، لم يفارق ملهمته، عشقه الأبدي، آلة تصويره، هذه الآلة التي سنرافقها حبا فيها وعشقا لها، من خلال ما أنجبته من تحف فنية بعد إذن الفنان المبدع أحمد بن إسماعيل، لتُفشي لنا الكثير من الأسرار، وتعيد الحياة للكثير من القصص، وتروي لنا كل الروايات عن شخوص ورجال وأماكن وفضاءات، سواء في مراكش وساحتها الشهيرة أو عبر جغرافيا الحب لهذا الوطن، والتي سكنت أحمد وآلة تصويره حتى الجنون.. وهو ما ستميط اللثام عنه هذه الحلقات:

 

كثيرون يستحضرون الفنان الشعبي بوشعيب البيضاوي كواحد من أشهر الرجال المغاربة ممن تقمصوا دور المرأة سواء في أداء العيطة أو في المسرح في زمن لم يكن فيه مسموحا للمرأة أن تخرج إلى مجالات التمثيل والمسرح بل والغناء، واذا تغير الأمر اليوم ولم تعد هناك أية حواجز في ولوج المرأة لمختلف المجالات ومنها المسرح والتمثيل، المجالات التي أعطتنا نساء عظيمات تفوقن على الرجال في هذا الميدان، فإن ساحة جامع الفناء مازال فيها رجال يقومون بتشخيص النساء تمثيلا ورقصا وغناء..
والتشخيص والأداء بقدرات عالية هو قاسم مشترك بين العديد من الحلقات بساحة جامع الفناء، وهنا تكمن قدرات هؤلاء المنشطين ممن ليس لديهم أي تكوين مسرحي ، بل هي مواهب تكشف عن نفسها فتجد في الساحة مسرحا مفتوحا لتفجير هذه المواهب.
ولعل صورة هذا الشاب الذي يتقمص شخصية فتاة بحلقة “رباعة” الحوزي والتي التقطها أحمد بن اسماعيل بفنية عالية في تسعينيات القرن الماضي لدليل على أن فناني هذه الساحة لم يكونوا مجرد مهرجين، بل لهم قدرات عالية في التشخيص والأداء بكل المقومات التي تجعلك منبهرا وأنت على تماس الحلقة..
والكثيرون سيتساءلون لماذا يضطر شاب أن يتقمص شخصية فتاة في زمن تحررت فيه المرأة وأن الساحة تعج بالنساء.. وثقافة المشكلين لحلقة الحوزي لها ارتباط وثيق بثقافة هؤلاء، وهم قادمون بنواحي السراغنة والرحامنة وبالتالي لا يمكن للمرأة من بنات هذه المناطق أن تأتي لساحة جامع الفناء وتقوم بالرقص في الحلقات، وهذا ما فرض على مقدمي مجموعة الحوزي الاستعانة بشباب لهم قدرات في تقمص دور النساء، وقدرات على الرقص بشكل جيد، وأيضا أداء تلك السكيتشات التي تتقاطع وعيطة الحوزي بساحة جامع الفناء..
هؤلاء الشباب بعضهم قادم من مناطق اخرى غير الرحامنة.. والدور ليس هينا خصوصا أمام البعض ممن يسيؤون فهم هؤلاء الذين يقومون بالدور النسائي أمام العقلية الذكورية السائدة، وأمام الفهم الخاطيء للدين ممن يعتبرون أساسا أن الفن حرام، أما أن يمثل الرجل دور المرأة فإنهم ينزلون عليه بالسب والشتم “لعن الله رجلا تمثل بامرأة” .. لكن حلقة الساحة قليلون من هم بهذه العقلية..
حلقة الحوزي بالساحة تستقطب جمهورا كبيرا من عشاق العيوط والرقص على إيقاعها.. هنا يلعب هؤلاء الشباب ممن يلبسون زي النساء ويضعون نقابا على وجوههم دورا أساسيا في الفرجة .. ولهم أيضا قدرة التحمل، فهناك من المتحلقين من يحاول التحرش بهم أو سبهم والسخرية منهم، لكنهم لا يبالون ويواجهون ذلك بالابتسامة ومواصلة دورهم إما من خلال الحوار في إطار تمثيلية ما، أو من خلال الرقص الذي يؤدونه بجودة عالية حيث يطوعون أجسادهم بشكل كبير لأداء كل أنواع الرقص الشعبي وبقدرات تضاهي الراقصات المحترفات ..
وسط كل هذا الفضاء الفرجوي الجميل ستأتي سحابة لتعكر صفو سماء الساحة سنة 2017 ، إنه حادث اعتقال أحد المتقمصين لهذا الدور بتهمة اغتياله لعاشق له جعل البعض يسيء لهؤلاء ، غير ان ذلك يعتبر استثناء. سحابة سرعان ما مرت..
وصورة أحمد بن اسماعيل لهذا الشاب الذي أجاد تشخيص راقصة بامتياز عالي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، هي توثيق للحظة جميلة كانت فيه الساحة في أوج عطائها في كل صنوف الإبداع، وتبقى حلقة الحوزي التي تحافظ على واحدة من أجمل العيوط رائعة حتى وإن رحل أهم شيوخها، وأيضا يبقى دور المرأة في الساحة وعبر حلقات أخرى يتقمصه شباب مؤمنون بفنهم ومواهبهم.. وأيضا تبقى صور أحمد بن اسماعيل لهذا الفن شاهد على أن ساحة جامع الفناء كانت بالفعل مسرحا عجائبيا يقدم عروضه بتلقائية مسكونة بالتفاعل الفوري في رسم كل صنوف الإبداع التي وإن فقدت كثيرا من أصولها لكنها تحتفظ بملامح ما هو أجمل وأمتع.


الكاتب : إعداد: محمد المبارك البومسهولي

  

بتاريخ : 23/05/2020

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *