« شروخ في المرآة» لسنية بن عمار

أضمومة هايكو بشعرية راسخة وبصمة جمالية لافتة

 

يعتقد الكثيرون ممن يخوضون في الكتابة بهذا اللون الشعري المستنبت حديثا في تربة شعرنا العربي الغنية، أنهم – استسهالا منهم – قد أمسكوا بسره ويحصرون شعريته في التقاط مشهديه دالة على الطبيعة/ الفصل(الكيغو) وصياغة ثلاثة أسطر بتقنية5-7-5…
إنهم لا يدركون أن الهايكو هو أعمق من هذا. إنه أسلوب تفكير ونظرة شعرية عميقة إلى الأشياء من حولنا الممعنة في التخفي وراء المرئي العادي والتعبير عنها باقتصاد لغوي بديع، شديد الاختزال والتوهج.
وأهم توصيف جوهري يميز هذا اللون الشعري كونه نصا شعريا يقوم على التكثيف والاقتصاد اللفظي للتعبير عن مشهد جمالي ليس ضروريا أن يكون ذلك بنقل لقطة من الطبيعة الخارجية لأن هذا التــحديد يقزم الهايكـــو ، ويحجب عنه حمولته الاستعارية وعمقه الدلالي …ويبـــقى ــ الهايكو ــ اقتراحا جماليا ينضاف إلى شعرية اللغة العربية الغنية ليشكل إضافة نوعية لها، وهو ليس بأي حال كان بديلا شعريا،
وليس من المعـقول أن يظل شعرنا العربي بمعزل عن هذه الحركية والانفتاح الذي تشهده شعريات العالم على هذا اللون الشعري الياباني الجــــذور.لذا يشهد شعرنا العربي حركــية دائمة منذ السنوات الأخيرة حركية يتجاذبها القيـــل القال بين مثـــمن ومتحامل.
من بين الأسماء التي قدمت للهايكو حاملة تجربة شعرية وازنة، الشاعرة التونسية سنية بن عمار، شاعرة تكتب الهايكو بعمق شعري حساس، شاعرة لها بصمته الخـاصة. تشتغل بتمكن لافــت من تقنيات الهايكو منوعة تجربتها بين الهايكو الكلاسيكي وتشينكو هايكو .
وتأتي أضموتها هذه الموسومة بــ « شروخ في المرآة» وهي منجز شعري ولد كما سلف القول من رحم حس شعري مختمر بتجربة ناضجة جديرة بالإنصات. ونقترح هنا نماذج من نصوص هذه الأضمومة على سبيل المثال والاستئناس وليس الحصر…حتى نقترب من بعض آليات وتقنيات اشتغال شاعرتنا سنية بن عمار :
تقول في نص لها :
نسيم ندي ــ
شقائق النعمان
بدون كمامات.
هنا نقف عند نص هايكو ثنائي المشهد وهو مايعرف بــ(توراياوازي)
1ــ المشهد الأول / نسيم ندي.لأأالأ
2ــ المشهد الثاني / شقائق النعمان .
المشهد الأول تنهيه الهايكيست بالقطع حتى تهيئ القارئ وتضعه في مشهد ثان الذي تطل علينا فيه شقائق النعمان ويختم النص بكيرجي مدهش .
نص مدهش لأنه مركب أولا من بناء كلاسيكي يتجلى في الاستناد إلى كيغو خفي ( الربيع) و تنحي الأنا كليا في نقل المشهدية
ثانيا لأنه نص مجدد يعتمد تقنية (الشيومي)أي البناء من خلال أٌقل عدد من الكلمات ــ ست كلمات بالتحديد ــ ثم عدم الاعتماد على ما يحيل إلى الزمنية .

تقول الشاعرة أيضا في نص آخر:

عالقة بقشّة،
تفاصيل الصّباح الصغيرة
حدها تبقينا أحياء.
نص هايكو مجدد يندرج تحت ما يسميه النقاد والمهتمون بتشينكو هايكو
فالكثير يحصر الهايكو في الكيغو ….أي هايكو الفصول ، صحيح ذلك لكن الهايكو الياباني نفسه تطور مع رواد تشينكو هايكو، ولم يعد الهايكيست يرتكز على المشهدية (الكيغو) في بناء نصوصه، بل أصبحت كينونته وذاته هي محور الوجود والتأمل، وسأسوق هنا نصوصا مثالا على ما قلت، وهذه مجرد نماذج، لأنه ممكن أن أستشهد بعشرات النصوص في هذا الباب ولكن المقام لا يتسع:( 1)
في قمة عزلتي
أستطلع وحدتي
وأتسلى بعد أصابعي .
هوساي أوزاكي

كالنرجس تماما
كم وددت
لو ولدت معدما
سوسكيتاسومي

ونلاحظ هنا أن تاسومي استعمل التشبيه ــ عكس مايدعي الكثير/ حين ينادون بتنحي الذاتو استبعاد التشبيه والاستعارة…
يالدهشتي
كلما أفقت من غفوتي
ألفيتني سجين وحدتي .

«كاواهيغاشي»
الشاعر العربي ــ ومنهم شاعرتنا ــ مسكون بالمجاز والاستعارة لأن ذاكرته تختزن وتحفظ العشرات من نصوص الشعراء العرب حسب اختلاف عصورهم وأزمنتهم، بل إن هذا المجاز والاستعارات هما من طبيعة اللغة العربية ذاتها، فنتيجة مسلم بها أن يكون الهايكو العربي مشبعا بالمجاز والاستعارات ..
فالألفاظ والعبارات العربية ذاتها تحمل شحنات مجاز تشبعت بها منذ قرون، ونجد اللفظة الواحدة تنزاح بشكل أخاذ وتعطي جماليات متعددة من نص لآخر…تقول الشاعرة أيضا:
صوت نشاز ــ
من غير هذا الخرير يعجل
قيتارة القلب ؟
وتقول أيضا :
قطرات ماء ــ
على شرفة مبللة
دموع الندى.
هذان نصان بعتبران تشينكو هايكو أو ما سمي أيضا (موكي هايكو) التجديد في بناء الهايكو مع الابتعاد عن الكيغو وحضور الأنا …مما يعطي للنصوص شحنة مفتوحة على التأويل والإيحاء. .

(1)النصوص من ترجمة نور الدين ضرار مقتطفة من كتابه ( باقات من حدائق باشو ــــ مختارات مترجمة من الهايكو الياباني) منشورات الفينك ــ ص112و113
*هذه مقدمة لأضمومة الشاعرة التونسية سنية بن عمار( شروخ في المرآة) في الهايكو والتي ستصدر قريبا


الكاتب : مصطفى قلوشي

  

بتاريخ : 23/06/2020