عندما ولج جورج لا باساد زاوية سيدي بلال

ابن الصويرة عبد الرحمان باكو، من عالم « الهيبي » سيلج بحر الغيوان دون سابق تخطيط، لم يكن يعلم أن قدره سيقوده لبناء غناء جديد في المغرب مع شباب لا تربطهم به أدنى سابق معرفة، فقط ما يجمعهم هو الحلم بوطن يستجيب لطموحات جيلهم التواق للحرية و التقدم بعد سنوات جارحة من الاستعمار .. عن عالم « الهيبي » يقول باكو: صورة لا تفارق دهني، كانت تتكرر بغابة الديابات، جمع كبير من « الهيبي » يلتف حول نار موقدة و أنا وسطهم أعزف على آلة السنتير، نقوم بذبح الماعز قبل بداية سمرنا الذي يقودنا غالبا إلى « الجدبة « بعد طول عزف،.. بعد الذبح يقوم الجميع و منهم أطباء و مهندسون و أطر كبرى من مختلف الأجناس من العالم، بتلطيخ أجسادهم بدماء الماعز ظنا من الجميع أنها ستقيهم من الأرواح الشريرة و الخبيثة المرافقة دوما للإنسان، و تحاول أن تثنيه عن مرافقة الجميل و النقي و الصادق .. لمعظم هؤلاء إلمام جيد بالموسيقى، إذ كانوا ينسجمون معي كلية و أنا أعزف، حتى أن منهم من كان يفقد الوعي أثناء الدخول في « الجدبة « و كأنه ينتمي لعالم كناوة، و منهم من يجهش بالبكاء و يدخل في موجة صراخ، و منهم من يركن للصمت ينصت للآلة و كأنه في حالة خشوع، دون أن ينبس ببنت شفة .. لما يسافر بنا الليل إلى ما فوق المنتصف، و حين يأخذ الحال مأخذه من الجميع، تجد الكل يتخبط فوق الرمال، أو يمسك بشعره و كأنه أصيب بهيجان هيستيري، هكذا يظلون إلى حين سكوت السنتير ثم يستلقون و كأنهم أموات.

بعد مرحلة الراحة نجتمع مرة أخرى، يكون ضوء النهار قد أخذ في البزوغ، يتناول أغلب الحاضرين آلاتهم و نبدأ من جديد في عزف مشترك، ما نقوم به يخلق امتزاجا عجيبا لعدة أنساق موسيقية، تذكرك بامتزاج الشعوب و الطقوس و العادات، لم نكن نتقيد بلون واحد من الموسيقى، فهذا يعزف الجاز و الآخر يعزف الريكي أو البلوز و أنا أعزف الكناوي و هكذا .. ، لتصبح النتيجة خليطا بديعا بشكل ارتجالي و عفوي، ثمة لغة مشتركة تجمع بين هذه الأشكال الموسيقية، لعلها الروح تفعل فعلها فينا ..
كنت خلال هذه الفترة قد تعرفت على السوسيولوجي الفرنسي جورج لاباساد، الذي كان يتردد على الصويرة لإنجاز أبحاثه و دراساته حول طائفة كناوة و أصولها، توثقت علاقتي به كثيرا، فأصبح يلازمني و يرافقني لبعض الليلات، من أجل الغوص في المعرفة أكثر و عن كثب، هذا الأمر أزعج بعض « لمعلمين « و اعتبروه مسا و انتهاكا لحرمة « كناوا «، مع ذلك استمريت في الدفاع عن حق لاباساد في ولوج هذا العالم، أكثر من هذا طلبت بالسماح له لدخول الزاوية و أقنعت الكثير من لمعلمية بأن الرجل يريد فقط من خلال معايشة طقوسنا، أن يدافع عن فن كناوة، و يعيد الاعتبار لهم، بالنظر إلى تجذرهم الفني و تنوع عطائهم الإبداعي، هكذا وافق البعض بصدر رحب، و هناك من تقبل الأمر على مضض، فأصبح هذا الباحث إلى جانب أسماء أخرى لها صيت عالمي في مجال الموسيقى و النحت والتشكيل يحضرون الليلات سواء بمنازل المقدمات أو بالزاوية الكناوية « سيدي بلال «.. أتذكر ذات ليلة اكتظت الزاوية بالناس على مختلف مشاربهم و جنسياتهم و دياناتهم، و أقيمت الطقوس الكناوية بأكملها، مما خلق انطباعا جميلا لدى كل الأجانب الذين حضروا..، أعدنا الكرة في ليلات أخرى إلا أن الأمر، لم يعجب بعض « المعلمية « الذين سارعوا إلى رفع شكاية إلى باشا المدينة إذاك، بدعوى أنني أشجع الأجانب على ولوج عالم كناوة « المقدسة «، و بعد لقائي مع المسؤولين فسرت لهم موقفي و بأن حضور الأجانب لن يفسد لتاكناويت أي قضية، و هو ما تفهموه ومن ثم أصبح السواح و الأجانب لا يمنعون من دخول الزوايا التابعة لكناوة ….
ظلت منطقة الديابات نواحي الصويرة، و خلال عقدين من الزمن مقصدا و مسرحا لتجمع عالمي، لكل من عانق و آمن بالأفكار التحررية، التي كانت ترفض تجليات الحضارة المادية، و تغيب الروح لتحقيق مآرب سياسية و اقتصادية آنية، و الكل كان يعرف المرحلة الحساسة التي كان عليها المغرب آنذاك، و رغم الإحباط الجماهيري ظل الحلم بالغد الأفضل و اردا، وكان لابد خلال هذه الآونة من ظهور أشكال تعبيرية جديدة تثور في وجه الأنماط الإبداعية السائدة، و تقترح ألوانا جديدة يكون للإنسان فيها حضور حقيقي يوازي تلك الأفكار و الطموحات… في هذا السياق ظهرت مجموعة ناس الغيوان التي كانت تضم إذاك مولاي عبد العزيز الطاهري و بوجميع و العربي باطما و عمر السيد و علال، عند سماعي لأول عمل خرجت به المجموعة، وجدتني منجذبا إليها سواء على المستوى الموسيقي أو على مستوى النصوص المستعملة، كنت أود لو سنحت لي الفرصة أن ألتقي بهؤلاء، ليس للعمل معهم، لكن فقط للإنصات إليهم عن قرب، فقد استمالتني كثيرا الطريقة التي تم من خلالها التعامل مع التراث بالإضافة إلى الأصوات، التي كانت تتمتع بها المجموعة، وأخص بالذكر صوت العربي وبوجميع..


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 23/05/2020