في حضرة ابن بطوطة بمدينة «تشيوانتشو»

أخير وصلنا إلى ابن بطوطة..
شمس الدين أبي عبد لله محمد بن عبد لله اللواتي الطنجي..
كان تمثاله عاليا
يبدو من غرانيت ، بيده مخطوطة أو خارطة..
كان ساهيا في أبدية الحجرية، ووراءه كل البحار التي قطعها، على جدار أبيض..
صحت هذا جدي فابتسم الصينيون بعد ترجمة ما قلته،كان نابعا من عميق الأعماق..
سبق لي أن بحث في زيارات سابقة عن تمثاله، وها هو اليوم منتصب أمامنا. أحمله في فؤاد، كما نحمل دمعة قديمة..
في بلاده يعيش تحت تراب بسيط، هنا حيث قادته المياه، يجلس على رخامه الغرانيتي بهدوء من سبق أحفاده إلى أقصى الكون، يدله الريح وأحاديث الفقهاء على بوصلة الاتجاه..
وجدنا أجزاء مما تركه في كتابه- الرواية- الرحلة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار عن المسلمين الذين يسكنون حول المساجد التي بنوها، مساجد يعود أقدمها إلى مسجد مدينة تشيوانتشو، وهو مسجد تشينغ جينغ الذي بني في 1009 وتم ترميمه في 1377، من بعد زيارة ابن بطوطة، من طرف احمد بن قيس الذي جاء من شيراز.…
كيف وصلت يا أيها المغربي إلى هنا، احك لنا رجاء كيف كانت المدينة، والبلاد في وقتك ، حتى نرى ما الذي رأيناه، وما بقي مما رأيته؟
احك لنا بالتفاصيل ما فعلته بك الرياح والعواصف البحرية، وكيف وجدت أهل الصين ، بأسلوبك الباهظ؟

الوصول إلى مدينة الزيتون، تشيوانتشو

«لما قطعنا البحر، كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون. وهذه المدينة ليس بها زيتون ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند، ولكنه اسم وضع عليها، وهي مدينة عظيمة كبيرة تصنع بها ثياب الكمخا، والاطلس -الساتان- وتعرف بالنسبة إليها وتفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية ومرساها من أعظم مراسي الدنيا أو هو أعظمها، رأيت به نحو مئة جنك كبار. وأما الصغار فلا تحصي كثرة. وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر الأعظم.
وهذه المدينة وجميع بلاد الصين، يكون للإنسان بها البستان والأرض، وداره في وسطها كمثل ماهي بلدة سجلماسة ببلادنا وبهذا عظمت بلادهم والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة، وفي يوم وصولي إليها، رأيت بها الأمير الذي توجه إلى الهند رسولا بالهدية، ومضى في صحبتنا وغرق به الجنك، فسلم علي وعرف صاحب الديوان بي فأنزلني في منزل حسن، وجاء إلي قاضي المسلمين تاج الدين الارذويلي وهو من الأفاضل الكرماء وشيخ الإسلام كمال الدين عبد لله الإصفهاني. وهو من الصلحاء، وجاء إلي كبار التجار فيهم شرف الدين التبريزي أحد التجار الذين أسندت منهم حين قدومي على الهند وأحسنهم معاملة، حافظ القرآن مكثر للتلاوة.
وهؤلاء التجار لسكناهم في بلاد الكفار، إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح، وقالوا جاء من أرض الإسلام، وله يعطون ذكوات أموالهم، فيعود غنيا كواحد منهم».
هذه البلاد التي يصفها ابن بطوطة، كانت تحير بعض الباحثين ، ومنهم من لم يقتنع بروايته، لغرابة الأسماء والأحداث، لكن الأساسي، هو أن أهل الصين يعترفون لك بذلك، ولو كانوا لوحدهم، فهم أيها اللواتي الطنجي أحق بالشهادة، وكما روى عبد الهادي التازي، »كل الذين تحدثوا من أهل الصين عن ابن بطوطة، لم يخامرهم الشك في أنه زار بلادهم…. ولعل من الطريف أن نسمع أن الرئيس شوان لاي عندما قام بزيارة المغرب أواخر 1963 أعرب عن الرغبة في زيارة ابن بطوطة باعتباره من أبرز الشخصيات التي يرجع لها الفضل في تقديم الصين لعالم الإسلام والعروبة».
تتواصل الرحلة، ونحن نحاول أن نستعيد الطريق التي سلكها، الطريق التي سنعود إليها عند عودتنا إلى المغرب، لنتمحص المجلد الرابع الذي خصصه ابن بطوطة لرحلته الصينية، ونجد أن الطريق الذي اقترحته علينا الجهة المنظمة، كان فيه ضمنيا ما يشبه الخط الذي سلكه الرحالة..
يقول ابن بطوطة : «ولما عرف صاحب الديوان أخباري، كتب إلى القان/الخان/ وهو ملكهم الأعظم يخبره قدومي من جهة ملك الهند، فطلبت منه أن يبعث معي من يوصلني إلى بلاد الصين وهم يسمونها «صين كلان »لاشاهد تلك البلاد، وهي في عمالته، بخلال ما يعود جواب القان، فأجاب إلى ذلك وبعث معي من أصحابه من يوصلني.
وركبنا في النهر في مركب يشبه أجفان بلادنا الزوية إلا أنالجدافين يجدفون فيه قياما، ومعهم في وسط المركب الركاب في المقدم والمؤخر، ويظلون على المركب بثياب تصنع من نبات بلادهم يشبه الكتان. وليس به وهو أرق من القنب.
وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوما وفي كل يوم ترسو عند الزوال بقرية نشتري بها ما نحتاج إليه، ونصلي الظهر ثم ننزل بالعشي إلى أخرى، وهكذا إلى أن وصلنا إلى مدينة صين كلان بفتح الكاف، وهي مدينة صينية. وبها يصنع الفخار، وبالبزيغون أيضا، وهنالك يصب نهر باب حياة في البحر. ويسمونه مجمع البحرين وهي من أكبر المدن وأحسنها أسواقا، ومن أعظم أسواقها سوق الفخار، ومنها يحمل إلى سائر بلاد الصين، وإلى الهند واليمن..»
هذه الصين التي وجدها ابن بطوطة، هي الصين العريقة، صين التجارة، والتي أعادها إلى الحياة دينغ كسيوا بينغ، عندما تولى أمور التفكير الاستراتيجي في الرحلة ما بعد ماوتسي تونغ في 1978.. والتي سبق الحديث عنها في بداية الرحلة.…
على عكس أحفاده الذين جاؤوا مباشرة إلى الصين، عبر المرور بالخليج، في دبي، جاء إليها من شرقها. وهو يذكر أنه في مجلده الرابع «سافرنا عن بلاد طوالسي» وقد اختلف فيها الشراح، في هذه الجغرافيا بين من يقول إنها الهند الصينية أوالفلبين أو منطقة من اليابان، وقد حكى أحدهم أن الوزير الأول الياباني، طاكيو ميكي takeo meki كان قد استقبل الوزير الأول احمد عصمان مخاطبا إياه: يسعدني أن أستقبل ثاني مغربي في بلادنا يزورنا بعد ابن بطوطة، كما حققه وأورده عبد الهادي التازي..
غادر ابن بطوطة المدينة المبهمة نحو الصين، فيقول: «وصلنا بعد سبعة عشر يوما، والريح مساعدة لنا، ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين، وإقليم الصين متسع كثير الخبرات والفواكه والزرع والذهب والفضة لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض، ويخترقه النهر المعروف باب حياة، معنى ذلك ماء الحياة، ويسمى أيضا نهر السبر، كاسم النهر الذي بالهند، ومنبعه من جبال بقرب مدينة خان بالق تسمى كوه بوزنه معنا جبل القرود، ويمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين وتكتنفه القرى والمزارع والبساتين والأسواق كنيل مصر، إلا أن هذا أكثر عمارة، وعليه النواعير الكثيرة».

ذكر بعض من أحوال أهل الصين

وأهل الصين كفار يعبدون الأصنام، ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود. وملك الصين تتري من ذرية جنكيز خان وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين وينفردون بسكناهم ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعيات وسواها. وهم معظمون محترمون. وكفار الصين يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم، وهم أهل رفاهية وسعة عيش، إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس، وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشينة.
وجميع أهل الصين إنما يحتفلون في أواني الذهب والفضة، ولكل واحد منهم عكاز يعتمد عليه في المشي، ويقولون: هو الرجل الثالثة.
والحرير عندهم كثير جدا، لأن الدود تتعلق بالثمار وتأكل منها فلا تحتاج إلى كثير مؤونة، ولذلك كثر وهو لباس الفقراء والمساكين بها، ولولا التجار لما كانت له قيمة، ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير.
وعادتهم أن يسبك التاجر ما يكون عنده من الذهب والفضة قطعا، تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه، و يجعل ذلك على باب داره، ومن كان له خمس قطع منها جعل في أصبعه هانما، ومن كانت له عشر جعل خاتمين، ومن كان له خمس عشرة سموه الستي، بفتح السين المهمل وكسر التاء المعلوة وهو بمعنى الكارمي بمصر ..ويسمون لونه لون الطفل، تأتي الفيلة بالأحمال منه فيقطعونه قطعا على قدر قطع الفحم عندنا ويشعلون النار فيه فيقد كالفحم وهو أشد حرارة من نار الفحم، وإذا صار رمادا عجنوه بالماء ويبسوه وطبخوا به ثانية ولا يزالون يفعلون به كذلك إلى أن يتلاشى، ومن هذا التراب يصنعون أواني الفخار الصيني ويضيفون إليه حجارة سواه كما ذكرناه .

ذكر عادتهم في تقييد ما في المراكب

وعادة أهل الصين إذا أراد جنك من جنوكهم السفر، صعد إليه صاحب البحر وكتابه، وكتبوا من يسافر فيه من الرماة والخدام والبحرية. وإذا عاد الجنك إلى الصين صعدوا إليه أيضا وقابلوه ما كتبوه بأشخاص الناس، فإن فقدوا أحدا ممن قيدوه، طلبوا صاحب الجنك به. فإما أن يأتي ببرهان على موته أو فراره أو غير ذلك مما يحدث عليه، وإلا أخذ فيه، فإذا فرغوا من ذلك، أمروا صاحب المركب بأن يملي عليهم تفسيرا بجميع ما فيه من السلع قليلة وكثيرة ثم ينزل من فيه. ويجلس حفاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم، فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم عاد الجنك بجميع ما فيه مالا للمخزن وذلك نوع من الظلم ما رأيته ببلاد من بلاد الكفار ولا المسلمين إلا بالصين اللهم إلا أنه كان بالهند ما يقرب منه، وهو أن من عثر على سلعة له قد غاب على مغرمها أغرم أحد عشر مغرما ثم رفع السلطان ذلك لما رفع المغارم.

ذكر عادتهم ومنع التجار عن الفساد

وإذا قدم التاجر المسلم على بلاد من بلاد الصين خير في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معين، أو في الفندق، فإن أحب النزول عند التاجر حصر ما له وضمنه التاجر المستوطن، وأنفق عليه منه بالمعروف. فإذا أراد السفر بحث عن ماله، فإن وجد شيئا منه قد ضاع أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمنه، وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه، وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه، فإن أراد التسري اشترى له جارية وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق، و اتفق عليهما.
والجواري رخيصات الأثمان إلا أن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم وليس ذلك عيبا عندهم، غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم ولا يمنعون أيضا منه إن اختاروه. وكذلك إن أراد التزوج تزوج. وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه، ويقولون لا نريد أن يطمع في بلاد المسلمين، إنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فإنها أرض فساد وحسن فائت.

ذكر حفظهم للمسافرين في الطرق

وبلاد الصين من البلاد وأحسنها حالا للمسافر. فإن الإنسان يسافر منفردا مسيرة تسعة أشهر، وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها، وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل ببلادهم فندقا عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال. فإذا كان بعد المغرب أو العشاء ، جاء الحاكم إلى الفندق عليهم، فاذا كان الصبح، جاء ومعه كاتبه فدعا كل انسان باسمه وكتب بها تفسيرا، وبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل الثاني له ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه. وإن لم يفعل طلبه بهم. وهكذا العمل في كل منزل ببلادنا من صين الصين إلى حان بالق.
وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إليه المسافر من الأزواد وخصوصا الدجاج والإوز، وأما الغنم فهي قليلة عندهم.
ولنعد إلى ذكر سفرنا فنقول: لما قطعنا البحر كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون وهذه المدينة ليس بها زيتون ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند، ولكنه اسم وضع عليها، وهي مدينة عظيمة كبيرة تصنع بها ثياب الكمخا، والاطلس وتعرف بالنسبة إليها وتفضل علي الثياب الخنساوية والخنبالقية ومرساها من أعظم مراسي الدنيا.
أو هو أعظمها، رأيت به نحو مئة جنك كبار. وأما الصغار فلا تحصي كثرة. وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر الأعظم.
وهذه المدينة وجميع بلاد الصين يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها كمثل ماهي بلدة سجلماسة ببلادنا وبهذا عظمت بلادهم والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة، وفي يوم وصولي إليها رأيت بها الأمير الذي توجه إلى الهند رسولا بالهدية ومضى في صحبتنا وغرق به الجنك، فسلم علي وعرف صاحب الديوان بي فأنزلني في منزل حسن، وجاء إلى قاضي المسلمين تاج الدين الارذويلي وهو من الأفاضل الكرماء وشيخ الاسلام كمال الدين عبد لله الاصفهاني. وهو من الصلحاء وجاء الي كبار التجار فيهم شرف الدين التبريزي احد التجار الذين اسندت منهم حين قدومي علي الهند واحسنهم معاملة، حافظ القرآن مكثر للتلاوة.
وهؤلاء التجار لسكناهم في بلاد الكفار اذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح، وقالوا جاء من ارض الإسلام، وله يعطون ذكوات أموالهم فيعود غنيا كواحد منهم.
وكان بها من المشايخ الفضلاء برهان الدين الكازروني له زاوية خارج البلد واليه يدفع التجار النذور التي ينذرونها للشيخ ابي اسحاق الكازروني ولما عرف صاحب الديوان أخباري كتب إلى القان، وهو ملكهم الأعظم يخبره قدومي من جهة ملك الهند فطلبت منه ان يبعث معي من يوصلني الى بلاد الصين وهم يسمونها صين كلان لاشاهد تلك البلاد، وهي في عمالته، بخلال ما يعود جواب القان، فأجاب إلى ذلك وبعث معي من أصحابه من يوصلني.
وركبنا في النهر في مركب يشبه اجفان بلادنا الزوية الا ان الجدافين يجذفون فيه قياما، ومعهم في وسط المركب الركاب في المقدم والمؤخر، ويظلوون على المركب بثياب تصنع من نبات ببلادهم يشبه الكتان. وليس به وهو أرق من القنب.
وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوما وفي كل يوم ترسو عند الزوال بقرية نشتري بها ما نحتاج اليه ونصلي الظهر ثم ننزل بالعشي الى اخري وهكذا الى أن وصلنا الى ميدنة صين كلان بفتح الكاف، وهي مدينة صين الصين. وبها يصنع الفخار، وبالبزيغون ايضا، وهنالك يصب نهر باب حياة في البحر. ويسمونه مجمع البحرين وهي من اكبر المدن وأحسنها اسواقا، ومن اعظم اسواقها سوق الفخار، ومنها يحمل الى سائر بلاد الصين، والى الهند واليمن، وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة لها تسعة ابواب داخل كل باب اسطول ومصاطب يقعد عليها الساكنون بها،و بين البابين الثاني والثالث ومنها موضع فيه بيوت يسكنها العميان واهل الزمانات ولكل واحد منهم نفقته وكسوته من اوقاف الكنيسة وكذلك فيما بين الابواب كلها وفي داخلها المارستان للمرضى والمطبخة لطبخ الاغذية وفيها الاطباء والخدام.
وذكر لي ان الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة، وكذلك الايتام والارامل مما لا حال له. وعمر هذه الكنيسة بعض ملوكهم وجعل هذه المدينة وما اليها من القرى والبساتين وقفا عليها، وصورة ذلك الملك مصورة بالكنيسة المذكورة، وهم يعبدونها.
وفي بعض جهات هذه المدينة بلدة المسلمين لهم بها المسجد للجميع والسوق ولهم قاض وشيخ، ولابد في كل بلد من بلاد الصين من شبح الاسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم وكان نزولي عند اوحد الدين السنباري وهو احد الفضلاء الأكابر ذوي الأموال الطائلة، وأقمت عنده اربعة عشر يوما وسائر المسلمين تتوالى علي. وكل يوم يصنعون دعوة جديدة ويأتون إليها بالحسان والمغنين وليس وراء هذه مدينة لا للكفار ولا للمسلمين وبينهما ياجوج وماجوج ستون يوما فيما ذكر لي، يسكنها كفار رحالة يأكلون ظفروا بهم ولذلك لا تسلك بلادهم ولايسافر إليها ولم ار بتلك البلاد من رآه.

حكاية عجيبة

ولما كنت بصين كلان سمعت أن بها شيخا كبيرا قد أناف على ألا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ولا يباشر النساء، مع قوته التامة،. وأنه ساكن غارا يتعبد فيه، فتوجهت الي الغار، فرأيته على بابه وهو نحيف شديد الحمرة. عليه اثر العبادة ولا لحية له فسلمت عليه فأمسك بيدي وشمها، وقال للترجمان هذا من طرف الدنيا كما نحن من طرفها الآخر ثم قال لي لقد رأيت عجبا، أتذكر يوم قدومك الجزيرة التي فيها الكنيسة والرجل الذي كان جالسا بين الأصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب؟ فقلت نعم فقال: أنا هو فقبلت يده، وفكر ساعة. ثم دخل الغار فلم يخرج إلينا، وكأنه ظهر منه الندم على ما تكلم به، فتعجبنا ودخلنا الغار عليه فلم نجده ووجدنا بعض أصحابه ومعه جملة بوالشيت من الكاغد، فقال هذه ضيافتكم، فانصرفوا فقلنا له ننتظر الرجل. فقال لو أقمتم عشر سنين لم تروه، فإن عادته إذا اطلع احد على سر من أسراره لا يراه بعده لا تحسب أنه غاب عنك بل هو حاضر معك فعجبت من ذلك وانصرفت فاعملت القاضي وشيخ الاسلام وأوحد الدين السنجاري بقضيته. فقالوا كذلك عادته مع من يأتي إليه من الغرباء ولا يعلم أحد ما ينتحله من الأديان، والذي ظننتموه أحد أصحابه هو وأخبروني أنه كان غاب عن هذه البلاد نحو خمسين سنة ثم قدم عليها منذ سنة، وكان السلاطين والأمراء والكبراء يأتونه زائرين فيعطيهم التحف على أقدارهم. ويأتيه الفقراء كل يوم فيعطي لكل أحد على قدره، وليس في الغار الذي هو به ما يقع إليه البصر. وإنه يحدث عن السنين الماضية ويذكر النبي صلى لله عليه وسلم، ويقول لو كنت معه لنصرته. ويذكر الخليفتين عمربن الخطاب وعلي بن أبي طالب بأحسن الذكر ويثنى عليهما ويلعن يزيد ابن معاوية ويقع في معاوية.
وحدثوني عنه بأمور كثيرة، وأخبرني أوحد الدين السنجاري قال دخلت عليه بالغار فأخذ بيدي فخيل لي أني في قصر عظيم وأنه قاعد فيه على سرير وفوق رأسه تاج عن جانبيه الوصائف الحسان والفواكه تتساقط في انهار هنالك وتخيلت أني أخذت تفاحة لأكلها. فإذا أنا بالغار وبين يديه، وهو يضحك مني وأصابني مرض شديد لازمني شهورا فلم أعد اليه.
وأهل تلك البلاد يعتقدون أنه مسلم، ولكن لم يره أحد يصلي، وأما الصيام فهو صائم ابدأ، وقال لي القاضي ذكرت له الصلاة في بعض الأيام. فقال لي أتدري أنت ما اصنع ان صلاتي غير صلاتك. وأخباره كلها غريبة. وفي اليوم الثاني من لقائه، سافرت راجعا إلى مدينة الزيتون، وبعد وصولي إليها بأيام جاء أمر القاضي بوصولي إلى حضرته على السر والكرامة إن شئت في النهر وإلا ففي البر، فاخترت السفر في النهر فجهزوا لي مركبا حسنا من المراكب المعدة لركوب الأمراء، وبعث الأمير معنا أصحابه ووجه لنا الأمير والقاضي والتجار المسلمون أزوادا كثيرة. وسرنا في الضيافة نتغذى بقرية ونتعشى بأخرى فوصلنا بعد سفر عشرة أيام إلى مدينة فنجنفوا وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الجيم وسكون النون الآخر وضم الفاء والواو. مدينة كبيرة حسنة في بسيط افيج. و البساتين محدقة بها فكأنها غوطة دمشق، وعند وصولنا خرج إلينا القاضي وشيخ الاسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب. وأتوا بالخيل فركبنا ومشوا بين أيدينا. لم يركب معنا غير القاضي والشيخ. وخرج أمير البلد وخدامه. وضيف السلطان عندهم معظم أشد التعظيم، ودخلنا المدينة ولها اربعة أسوار يسكن مابين السور الأول والثاني عبيد السلطان من حراس المدينة وسفارها ويسمون البصوانان بفتح الباب الموحدة وسكون الصاد المهمل وواو والف ونون وألف ونون. ويسكن مابين السور الثاني والثالث الجنود المركبون والأمير الحاكم على البلد. ويسكن داخل السور الثالث المسلمون وهناك نزلنا عند شيخهم ظهير الدين القرلاني. بضم القاف وسكون الراء ويسكن داخل السور الرابع الصينيون. وهو أعظم المدن الأربعة ومقدار مابين كل باب منها والذي يليه ثلاثة أميال وأربعة ولكل إنسان كما ذكرناه بستانه وداره وأرضه.

حكاية قوام الدين السبتي

وبينما أنا يوما في دار ظهير الدين القرلاني إذا بمركب قوام الدين السبتي فعجبت من اسمه ودخل إلي، فلما حصلت المؤآنسة بعد السلام سنح لي أني أعرفه. فأطلت إليه فقال أراك تنظر إلي نظر من يعرفني فقلت له من أي البلاد أنت. فقال من سبتة، فقلت له. وأنا من طنجة. فجدد السلام علي وبكى حتى بكيت لبكائه، فقلت له هل دخلت بلاد الهند، فقال لي: نعم دخلت حضرة دهلي، فلما قال لي ذلك تذكرت له، وقلت أأنت البشري؟ قال نعم وكان وصل إلى دلهي مع خاله ابي القاسم المرسي وهو يومئذ شاب لا نبات بعارضيه، من حداق الطلبة يحفظ الموطأ وكنت أعلمت سلطان الهند بأمره فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وطلب منه الإقامة عنده فأبى، وكان قصده بلاد الصين فعظم شأنه بها واكتسب الأموال الطائلة.
أخبرني أن له نحو خمسين غلاما، ومثلهم من الجواري وأهدى إلي منهم غلامين وجاريتين وتحفا كثيرة، ولقيت أخاه بعد ذلك ببلدان السودان فيما بعد ما بينهما، وكانت إقامتي بقنجنفو خمسة عشر يوما. وسافرت منها لبلاد الصين، وعلى مافيها من الحسن لم تكن تعجبني، بل كان خاطري شديد التغير بسبب غلبة الكفر عليها، فمتى خرجت من منزلي رأيت المناكر الكثيرة، فأقلني ذلك حتى كنت ألازم المنزل فلا أخرج إلا لضرورة، وكنت إذا رأيت المسلمين بها فكأني لقيت أهلي وأقاربي..»


الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

  

بتاريخ : 11/01/2020