قصائد مغربيّة

سَلامًا رامْبرانْت… سلامًا طَنجة
قَمَرُ طنجةَ بينَ عِمَارتيْن
وثلاثُ نجومِ فندقٍ مهمَلٍ في الضّفَةِ المقابِلَة
تحرُس بائِعَ التّبْغِ،
فِيما أُطِلُّ مِنْ شُرفةِ رامْبرانْت
وَصوتُ الماءِ الّذِي يَغسلُ جسدَ حبيبي في الحمّام
وَحْدها الموسيقى الّتي تطْرَبُ لها الغابةُ اللّامرْئيّةُ بالأسْفل.
..
تَجْنحُ طيورُ أصابِعي إلى سيجارتِهِ في المنْفضةِ النُّحاسيّةِ
فَيُزهِرُ عواءٌ قديمٌ ما يزالُ يترنّحُ في عشْبٍ مبلّلٍ تحتَ سُرّتي.
* * *
قَمرُ طنجة يَشرئبُّ بين عِمارتيْنِ مُورِيسكيَّتيْنِ
لكنْ مُلطَّخًا بِدَمٍ سَيُراقُ عَمّا قَريبْ.
أُلقِي بفُستاني مِنَ الشُّرفَةِ إلى أشْباحِ ليلةِ عيدِ الأضحى، اللّاسعيد.
أهْرَعُ صَوْبَ ذِئْبي كيْ نَرقصَ تحتَ الدُّشِّ الجارفْ؛
جَارِفٌ كأنّما ألْفَ شتاءٍ وشتاءْ دَلَقَ هذا النّهْرَ
هذا الطُّوفانْ.
هذا البرْق الّذِي يرسُمُنا في رقْصةِ العشاءِ الأخيرْ…
سلامًا عزيزي رامْبرانْت.. تَركْتُ لكَ قمَرَ طنجةَ الأعْزلْ.
آهِلةٌ بالسَّديمِ ومِلحِ البحر

القِطاراتُ تَعْوِي في المحطّةِ المجاورةِ
هُنا الرِّباطُ الخَرْقاءُ، يقولُ لِي، لوْلا نهرُها رقْراقُ الاسمِ والضّحكة
..
شُرْفةُ الفندقِ آهلةٌ بالسَّديمِ وملْحِ البحْر
بنطالُ جِينزهِ مُلْقًى كيفَما اتُّفِق على جنوبِ الكرسيّ
حَمّالةُ نَهْدي كأرنبٍ مذعورٍ عنْدَ سفحِ المرآة
مُوكيطُ الأرضيّةِ أشْبَهُ بغابةٍ مقصُوصة
كعْبِي العالِي مغروسٌ في خاصرةِ الحقيبَة
التَّبّانُ مفقودٌ كالعادةِ حتّى تكشِفُهُ عينُ الصَّباح
وعُلبةُ الدّواءِ تكادُ تسقُطُ منِ الصّوانةِ، لا تُجْدي نفعًا مع طائلِ دوْخَتي…
..
خَرجَ كممثّلٍ مَغمُورٍ بالشُّورت، عاريَ الصّدرِ ليشتريَ تبْغًا
أعلمُ عِلْمَ اليقطينِ بأنّه سيُعَرِّجُ على حَانةٍ
ويأتِي بالمزيدِ مِنَ الجعةِ تقولُ بجَعةُ حدْسِي
ماذا لو لمْ يعُد؟ قال صوتٌ مرعِبٌ مِنْ خلفِ جِدارِ قلقي
..
تحاشيْتُ النّظرَ إلى الأباجورةِ المنتصبةِ كبُومةٍ عمياء
إلى الشُّرفةِ خرجتُ أُدَلّي ساقيَّ كمجنونةٍ مِنَ الحافّة
القطاراتُ تعوي ما تزالُ في المحطّةِ بالجِوار
عبثًا أرصُدُ عودتَهُ بعيْنيِ يمامةٍ مبلّلةِ الرِّيش
والصَّوتُ اللّقيطُ إيّاهُ، يرِنُّ ما يزالْ، كقطعةِ معدنٍ رخيصٍ على حجرِ خوْفي:
ماذا لو لمْ يَعُدْ أيّتها الرّباطُ الخرْقاءُ؟!؟
مُوغادور… أغنيةٌ قُوطيّة

في شاطئِ مُوغادور
كانَ الضَّبابُ شرِهًا
وكانَ العالَمُ مُفترَضًا جدًّا،
مَعْ أنَّ زعيقَ النّوارسِ ظَلَّ يلاحِقُنَا كمَا لو هاربيْنِ مِنْ بطشِ قبيلةٍ تأبَى الانقراض
شربْنا جعةً ونحنُ نمضِي صوبِ حافَّةِ طُفولتِنَا
دخَّنَّا عُشبًا أزرَق
ونحنُ نحْفُرُ بالقُبَلِ الضّاريةِ
دَليلًا نحوَ أبديّةٍ مَا.
لمْ يكُنْ أثرُ أقدامِنا على الرَّملِ
سِوى كتابةِ جِينيرك قلّمَا تَلمعُ فِي حُلمِ شاعرٍ أو ظلِّ أغْنية
تَركنَاها وُشومًا لذاكرةِ المَحوِ
ما لا يُمحَى أبدًا
كانَ عناقُنا الطّووويلُ أكثرَ منْ عنقِ طائرِ الفلامنكو
أكثرَ مِنْ زرافةٍ مشتعلةٍ،
بل أطول من السّاحلِ نفسِهِ وأكثر
حتّى أنّ جليدَ المساءِ لمْ يوقظْنا
زَهدْنا في غرفةِ الفندقِ بِقلعةِ المدينةِ المتداعيةِ
وآويْنا البرِّيّةَ المنذورةَ ليلًا للضِّباعِ
تَركْنا لجسديْنا أنْ يستعيدَا من اللُّغةِ
كنوزَ الحكايةِ الأولى
في شاطئِ مُوغادور
بكيتُ مِنِ عُنفِ اللّذّةِ كطفلةٍ سافرتْ بغْتةً
وأدْهَشَها أنّ العالمَ ليس حدودَ بلدتها المَنسِيّةْ
لسْتُ أنسى…
بحرُ الأطلسيِّ كانَ دمعةً في صَدَفَةٍ صغيرةٍ
علّقَها الغجريُّ صباحًا في خلْخالِ قدمِي…
لسْتُ أنسى..
مُوغادور كانتْ محْضَ أغنيةٍ قوطيّة
تطرَبُ لها أشباحٌ في مرايا غارقةْ.


الكاتب : منى ظاهر (فلسطين)

  

بتاريخ : 27/09/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *