كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 25 – أكادير، تارودانت، الصويرة، دمنات، قلعة السراغنة وقصبة تادلة، مستشفيات ومراكز طبية منذ 1917

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

منحت مدينة مراكش، منذ سنة 1912، سلطة إدارية تدبيرية خاصة في كامل المجال الترابي الذي احتلته فرنسا من مجموع المغرب. خولها في المجال الصحي أن تكون إدارة جهوية “شبه مستقلة” يمتد نفوذها على كامل الجنوب المغربي من وارزازات في الجنوب الشرقي ودمنات في الشمال الشرقي، حتى أكادير في الجنوب الغربي والصويرة في الشمال الغربي. أي أنه مجال ترابي ضخم وكبير توازي مساحته اثنين من لبنان أو بلجيكا. مما منح لكل من مستشفى موشان المدني الضخم والكبير وقبله مستشفى “ميزون نوف” العسكري الكبير والضخم أيضا، أن يشرفا على تتبع كل المصالح الطبية بذلك الإمتداد الجغرافي في مدنه وبلداته وقراه.
أكادير .. مستشفى الدكتور موريس غو
تم في سنة 1925 اختيار ربوة مطلة على قصبة أكادير وعلى شاطئ المدينة المترامي وعلى سهل سوس باتجاه تارودانت، من قبل الطبيب العسكري الفرنسي الدكتور موريس غو (الذي سيرتبط اسمه أكثر، بعد ذلك، ببناء مستشفى مدني للمغاربة بالدار البيضاء في نهاية العشرينات، سيكون واحدا من ثلاثة مستشفيات تشكل المستشفى الجامعي ابن رشد اليوم، الشهير أكثر باسم هذا الطبيب العسكري الفرنسي مع تحريف في النطق الدارج حيث أصبح “مويزغو”. هو الذي تحمل أيضا الإدارة العامة لمصلحة الصحة ومصلحة حفظ الصحة بالرباط سنوات 1934 – 1944). أقول تم اختيار تلك الربوة من قبل ذلك الطبيب العسكري الفرنسي لتكون فضاء كبيرا لبناء مركب استشفائي مركزي يقدم خدماته لكامل سهل سوس وصولا حتى قبائل آيت باعمران على تخوم الصحراء الغربية للمغرب التي كانت تحتلهما إسبانيا. وتقدم صورة جوية عسكرية جميلة ملتقطة سنة 1929، مشهدا متكاملا لتلك المؤسسة التي تضم مقر سكنى الطبيب العسكري الرئيسي للمستشفى ثم الجناح العسكري منه وبعده الجناح المدني، يليهما مكتب الضبط وسكنى الممرضين، وفي الجنوب منه، في بنايات جانبية معزولة جناح المرضى المغاربة، المجاور للمشرحة والكنيسة ومقر سكنى المدير العام للمستشفى.
في تقرير مفصل للدكتور جون سالار، المدير العام للمستشفى المدني والعسكري المزدوج لأكادير في سنة 1929، نجد تفاصيل حول أجنحته الثلاث الكبرى، التي هي الجناح العسكري والجناح المدني الأروبي والجناح المغربي. يتضمن الجناح العسكري 50 سريرا موزعا على 32 غرفة مشتركة و18 غرفة فردية بسرير واحد. وله قاعة عمليات جراحية مستقلة وفريق ممرضين فرنسيين مستقل. بينما تضمن الجناح المدني الأروبي، الخاص بالمرضى الفرنسيين والأروبيين 40 سريرا موزعا على 3 قاعات كبرى، كل واحدة منها تضم 8 أسرة و 12 غرفة مستقلة تضم كل واحدة منها سريرا واحدا. مثلما يضم مصلحة للولادة بأربعة أسرة مستقلة، ومختبرا للتحاليل الطبية وقاعة للفحص بالأشعة وقاعتين معقمتين للجراحة. بينما ضم الجناح المخصص للمرضى المغاربة (وكان هو الأكبر مساحة) 60 سريرا، موزعا على 4 قاعات مشتركة و4 قاعات للعزل الطبي، علما أنه قد ألحق بذلك الجناح قسم مستقل لذوي الحاجات الخاصة ولليتامى. ويتوفر على قاعتين خاصتين بالعمليات الجراحية.
لقد مكنت تلك التجهيزات الطبية الحديثة المتوفرة بذلك المستشفى، الذي ظل يحمل إسم “المستشفى المزدوج لأكادير”، أن يكون مقصدا للمئات من طالبي الخدمات الصحية بالمدينة التي كانت ساكنتها لا تتجاوز 10 آلاف نسمة سنة 1930، وكذا من محيطها القروي خاصة من مناطق ماسة وشتوكة وآيت باها وإمسوان، التي كانت تضم ساكنة تقدر ب 75 ألف نسمة. وكانت الخدمات الطبية الكبرى تقدم ضمن الجناح العسكري اعتبارا للمواجهات العنيفة التي ظلت تسجل بالمنطقة تلك حتى سنة 1928، تطلبت حضور الماريشال ليوطي أكثر من مرة إلى أكادير على متن سفن حربية. ولقد لعبت تلك المؤسسة الطبية دورا ملموسا في مواجهة تبعات أوبئة فتاكة بالمنطقة، خاصة الجدري والملاريا وأمراض السل وفقر الدم والزهري.
تارودانت.. مستشفى بول شاتينيير
في تقرير للطبيب العسكري الدكتور رو (المدير العام لمستشفى تارودانت حتى سنة 1934 قبل انتقاله لإدارة مستشفى صغير بآسفي)، نقف على تفاصيل مدققة حول قصة دخول الطب الحديث إلى حاضرة سوس الأقدم، مدينة تارودانت، التي قد تعتبر واحدة من أقدم مدن المغرب الواقعة على ممرات التجارة بين الصحراء الكبرى والمغرب وأروبا، التي بقيت ولم تندثر (يقدر عمرها بأكثر من ألفي سنة)، عكس العديد من المدن المغربية القديمة جدا التي اختفت الآن، مثل مدينة البصرة في الشمال قرب وليلي، ومثل مدينة تاغادوست بالجنوب (إقليم طاطا اليوم).
شرع في بناء مستشفى تارودانت منذ سنة 1917، وتم الإنتهاء من أشغاله سنة 1920، وكان يعرف باسم “مستشفى تارودانت” قبل أن يحمل إسم الطبيب الفرنسي بول شاتينيير، الذي كان طبيبا رئيسيا به، توفي سنة 1928 عن عمر يناهز 44 سنة، بسبب تداعيات إصابته بعدوى مرض التيفويد الذي انتشر بسوس في تلك السنة. ولقد كانت تلك المؤسسة الطبية التي بنيت جوار القصبة، وسط حديقة مغربية قديمة وكبيرة، مقسمة إلى قسمين كبيرين، قسم يضم بنايات وقاعات المستشفى المدني والعسكري، وقسم يضم مصالح وإدارة المستشفى المتنقل لسوس، الذي كان مجال اشتغاله يمتد على أكثر من 190 كلمترا طولا، وصولا حتى بلدة أولوز شرقا المتاخمة لبلدة تالوين (التي كانت تتبع إداريا وطبيا حينها للمركز الصحي العسكري لوارزازات)، و112 كلمترا عرضا من ثخوم جبال الأطلس الكبير حتى مقدمات جبال الأطلس الصغير.
كانت بناية المستشفى المدني والعسكري القارة تضم ثلاث قاعات للفحص (الأمراض الصدرية، الأمراض الباطنية، أمراض العيون)، مختبرا للتحاليل، صيدلية داخلية كبيرة، ثلاث قاعات جراحية معقمة، مصلحة للفحص بالأشعة، مصلحة لتقويم العظام، وجوارها يقع المطبخ والمغسلة وإدارة المستشفى. الإدارة التي كانت تشمل مديرا عاما وطبيبا رئيسيا وخمس ممرضين فرنسيين وثلاثة ممرضين مغاربة وممرضة مغربية واحدة، جميعهم يتقنون اللهجة الأمازيغية السوسية لتاشلحيت، بما فيهم الممرضون الفرنسيون. ومما تؤكده وثيقة الدكتور رو، أن الإحصائيات الخاصة بمستشفى تارودانت لسنوات 1920 – 1935، تفيد انتقال عدد الإستشارات الطبية من 19 ألف استشارة طبية إلى 41 ألف استشارة طبية، وأن عدد المستفيدين من العلاج بعد تدخلات جراحية أو بسبب ضرورة التطبيب داخل قاعات المستشفى قد انتقل من 298 مريضا سنة 1921 إلى 599 مريضا سنة 1930. قبل أن يتم إلحاق مستوصف جديد به ابتداء من سنة 1931، خاص بالعزل الطبي لمرضى الأوبئة، وكذا مصلحة خاصة برعاية الطفولة حيث تم افتتاح فرع لمؤسسة “قطرة حليب” المحدثة من قبل زوجة الماريشال ليوطي.
الصويرة.. مستشفى يوجين إتيان
ارتبط دخول الطب الحديث بمدينة الصويرة منذ 1913، بقصة رجل استثنائي كتب عنه الكثير من كبار الكتاب العالميين، هو الدكتور بوفري، بقامته الفارعة وهيكله الجسدي الضخم. لقد قرر هذا الطبيب العسكري، المثقل بأخلاق إنسانية رفيعة، بسيرته العطرة في ذاكرة الجميع، أن يبادر لوحده وبإمكانيات بسيطة جدا في مطلع سنة 1913، وفرنسا لا تزال تجرب أول خطوها العسكري لاحتلال أجزاء هامة من المغرب، إلى فتح مصحة طبية صغيرة بأحد رياضات المدينة القديمة للصويرة كانت تضم في البداية غرفتين فقط للعلاج والإستشفاء. ومع توالي السنوات، حتى سنة 1921، سينجح الرجل في استخراج بناية حديثة لمستشفى حديث بطاقة استيعابية بلغت 200 سرير. لقد نجح في ذلك، فقط بإصرار من يتحدى الصخر. وهو المستشفى الذي سيحمل اسم رجل آخر هو الزعيم السياسي الفرنسي من أنصار الحركة الإستعمارية بالبرلمان بباريس يوجين إتيان، ابتداء من الثلاثينات. ولقد كان يضم جناحا للرجال وآخر للنساء، جناحا للأروبيين وآخر للمغاربة اليهود، وجناحين للعمليات الجراحية معقمة، وجناحا للولادة يضم غرفا خاصة بالأروبيات والمسلمات واليهوديات، مختبرا للتحاليل الباكتيرية وقاعة للفحص بالأشعة. مع ملحقة للأمومة تابعة لمؤسسة “قطرة حليب”.
من الذين خلدوا ذلك الطبيب العسكري الفرنسي الدكتور بوفري، نجد كلا من الأديب والكاتب الإنجليزي الشهير سكوت أوكونور في كتابه “نظرة إلى المغرب” الصادر سنة 1923، الذي مجد فيه شخصية الرجل الأشبه بواحد من رعاة الأبقار لكنه جد منظم وفعال في مجاله المهني. بينما كتبت عنه السيدة إلينور إلسنر في كتابها “سحر المغرب” الصادر سنة 1928 بلندن، قائلة إنها قد تمكنت من زيارة العديد من المؤسسات الطبية الجديدة التي أنشأتها فرنسا بالمغرب، لكن مستشفى الدكتور بوفري أحسنها جميعها، لأنه بني بشغف إنساني وليس بحسابات عسكرية وسياسية.
دمنات.. قصبة تادلة.. قلعة السراغنة.. وارزازات (مستوصفات مركزية)
أنشأت المديرية الجهوية للصحة بمراكش، عددا من المراكز الطبية الجديدة التابعة لها بعدد من البلدات التابعة إداريا لجهة مراكش الكبرى (كانت دولة داخل الدولة)، في المسافة الزمنية ما بين 1917 و 1925. من أهمها المستوصفات المركزية (عبارة عن مستشفى صغير في الواقع بقاعات جراحة أولية وقاعات فحص بالراديو وصيدليات)، بكل من دمنات التي يشرف على مؤسستها الدكتور دوجيلبير منذ 1920، وفي تقرير له يؤكد أنها بلدة ومنطقة خالية تماما تاريخيا من الأوبئة بسبب طبيعتها الجبلية. ثم قلعة السراغنة التي كان بها الدكتور روني هيغي منذ 1925 التي تشمل بلاد السراغنة وزمران وتملالت والعطاوية وسيدي رحال (أنجزت بها 72 ألف عملية تلقيح ضد أوبئة الجدري والتيفويد وأمراض السل والزهري). ثم قصبة تادلة التي كان بها كطبيب رئيسي الدكتور ديلمور، التي سجلت أرقاما قياسية بلغت مليون استشارة طبية وعمليات تلقيح في السنوات بين 1923 و 1935، شملت بلدات القصبة، بني ملال (لن يفتح فيها مستوصف مركزي سوى سنة 1937)، القصيبة، واوزيغت، آغبالة، تاغلفت، آزيلال، دار ولد زيدوح، الفقيه بنصالح، القباب، زاوية آيت إسحاق، زاوية الشيخ. وأخيرا وارزازات التي افتتح بها سنة 1929 بمركز قلعة تاوريرت العسكرية مركز طبي عسكري تابع مباشرة عبر الطائرات العسكرية للمستشفى العسكري بمراكش.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 23/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *