ينظر إلى الوراء …
يخفف الخُطى … ويسرع في اتجاه الشارع الكبير . تغمر أضواؤه المنتشرة كل الرَّدهات وحتى الازقة و الدروب المتفرعة . مر خفيفا كالظل ، يصدر وشوشات وهمهمات جرَّاء عياء باد على مُحيَّاه . تنمَّلت سيقانُه ، وترك جسده اللاَّغب تحت رحمة كلبه الضخم النافر، يرغي و يزبد فمه ؛ فيسيل لعابُه على الاسفلت . تضيق به الدوائر وتنفتح ؛ فيندفع به إلى الأمام كالثَّور الهائج .
بالرغم من الكِمامة ، التي تطوق فمه ، وتشل حركة الفكين الضخمين ، استطاع أن يبرز منهما أنيابا صقيلةً بيضاءَ لامعةً تحت الضوء . في انحناءة خفيفة إلى الخلف ، تبدو قوائمه الخلفية المزغَّبة قصيرة بالمقارنة مع القوائم الأماميَّة ، ذات السَّواعد الطويلة ، تنتهي بأظافرَ منغرسةٍ في كُببٍ لحميّةٍ بُنية . رأسُه له لِبْدٌ أهْلبُ نابتٌ خلف أضلاع رباعيَّة الدفع ، تشد جسده المفتولَ بأوتارٍ و حبالٍ جلديَّة تزنِّرُه، و تُغلف قوامه الناهض ، فتهزُّ صدره نحو الأمام في شكل انسيابي . أذناه منتصبتان ، يتحسس بهما الأصوات المنبعثة من هنا و هناك ؛ فهما دائمتا الحركة والدوران كاللاقط الهوائي . بعينين نجلاوتين يقظتين نَزَقاً ، يُناوشُ المارة ويتفرَّس في الوجوه العابرة ؛ كي يفسح الطريقَ ، أمام السيد كاكو، بساطا ممتدا بين جداول الدغل و غابات البشر المتكدسة على جانب الطرقات .
يَنوص الكلبُ مندفعا كالسَّيْل الجارف ، و يجرُّ وراءه صاحبه المستسلم استسلاما قدريا لخيوط الرذاذ المتمسِّحة بالمكان … يرمي قدميه في تثاقل مهيض ؛ فيسبقان جسده المشدود إلى الوراء في ميلان خفيف ، كأنه فوق بساط من الريح . كل ما يربطه بالكلب ، سلسلةٌ ذات العيون الذهبية المضفرة ، تنتهي بقبضة برونزية تُحدثُ صريرا ، عندما تتوتَّر بقوة الجر و الاندفاع .
سُحنات وجه مسيو كاكو ، نَيََّفت على السبعين سنة . رجلٌ رَبْعَةٌ ، أصعَلُ ، أنيق المظهر والملبس ، وجهه مكتنز متحفّن و متجمّع جهة الصُّدغين . له ذؤَابة تغطي جبينه من فوق ؛ فترسل ظلها الرحيم ؛ كي تخفي وراءها رُضُوضا و تجاعيدَ هجرها الزمن . تاركة جبهته ترفل في بياضها الفطري الناصع كالحليب . غليونه لا يفارق شفتيه المتيبستين الصفراوتين إلا لماما ، يبخُّ منهما الدخان ؛ فيخضلُّ بشعره الأثيث السَّابغ المشتعل شيبا . يداه معرورقتان ، ينط فوقهما نََمَشٌ بُنّي ضارب إلى السواد . يلف جسده الضامر ، دائما ، ببانطلون من الدانتيلا الرفيعة المشدود إلى الكتفين بقابضات من لُجين على شكل سوارٍ أبيضَ فضي .
قطع شارع سان ثورو ؛ ليجد نفسه متورطا ، كالمعتاد ، في كورال من اللَّجب والصُّراخ يشق عنان المكان ، ألفه منذ ثلاثين عاما ؛ فحفر في ذاكرته أخاديدَ و خنادقَ لا تكف عن الامتلاء .
يقول الرِّيصاني بصوته المبحوح :
ـ خذ سيدي … العسل … برتقال … مثل… العسل .
ثمنُه بخْس …
لم نأكل مثله منذ زمان …
يعلو صوت زوجة المصري فوق صوت الرِّيصاني .
ـ الصَّعتر الفوَّاح… الصَّعتر الفوَّاح … مردقوش.
خذ سيدي … إنه من ضيعات سيدي بابا ، وما أدراك ما ضيعات سيدي بابا !
رائحته تزكم أنوفنا … يخفف نزلات البرد … يقوي فينا النُّفوس …
الصَّعتر الفوَّاح … الصَّعتر الفوَّاح… خذ مردقوش.
تردد لازمتها . وأذنا الكلب تدوران دورانا سريعا ، يُفَلْتِر بهما الأصواتَ غير المألوفة… وغير المعتادة . مناوشا دائما كما كان ، متفرِّسا في الوجوه العابسة المكفهّرة . فيكتفي مسيو كاكو برفع أنامله الكدود على المعروضات ، قائلا بلكنة مختلجة و متعثرة :
ـ عيشك عيوني …
ـ عيشك حبيبي …
كعادته ، متأفِّفا ، ومنصتا لصرير الجر النَّافر وسط المَرْج والهَرْج .
3
ينبعث ، من خصاص هذا الباب القديم المتداعي ، ضوء يذوب باهتا بين الثُّلَم والشقوق . ضرب الكلب بذيله عرضيا فرحا ، بعدما سمع صوت سيدته مدام لافيري يأتيه قويا ، وطقطقات نِعالها الخشبية القبقابة ، على الدرج الاسمنتي ، ترتفع ايقاعاتها .
مدام لافيري امرأة عجوزٌ شمطاءُ . دائمة الابتسامة . مولعة بالرسم و الفن و التشكيل . كانت تعرض لوحاتها الزيتية في ساحة الشهداء قرب سينما المغرب . كنا نقتفي أثرها ، ونحن صغار، وهي تحمل لوحاتها الزيتية في حاويات من الخيش الأصفر ، وعند سور المغاوير تنشر بضاعتها أمام المارة . فكم كان يستهوينا هذا المشهد الفني الشائق ، ونحن نعبث و نلعب بهذه الأخياش الرطبة . ذات الملمس الناعم الطري ، مقلدين المارقين عن القانون . عندما يوضع الخيش على رؤوسهم وجوههم ، مكبلين أيديهم بأسورة فضيَّة ؛ فيُساقون ، تحت التهديد ، إلى حيث لا يعودون أبدا .
كنت أنتظر ولولة و جلبة من التفجُّع … و مسيو كاكو في هذه الحالة البئيسة كمومياء محنطة ، بل كنت أنتظر لطم الخدود، ونَتف الشعَر حتى تصير مدام لافيري مَرْطاءَ مقززة … تخرج في الجمع كعيشة قنديشة أو لالة عيشة البحرية . فهذا ما ألفنا مع زوجة المصري، عندما يعود بسيوني إلى البيت ، وقد فاضت متانته برائحة البول من فرط الهينيكن . تخرج مسرعة إلى الزقاق ، ترمي من على جسدها المترهِّل كل ما تتغشَّى به من ألبستها الداخلية ، إلا من روافدِ نهدين ممططين ؛ و تبانٍ موشَّى بالحرير و الصقلي البلدي .
4
مدام لا فيري… لا .
مادام لافيري … شيءٌ ثانٍ .
برزانة المعمِّر و المستعمر .
وجهان لعملة واحدة .
رمية نرد في ساحة الشهداء .
5
ربتت على رأس الكلب فدسَّت طُعما في فمه … ازدادت وثيرة الوَصْوَصة و الحبور الطفولي ؛ فشرع ينطُّ عليها معانقا تارة و مُهَمْلِجا قوائمه تارة أخرى … راقصا ، متفننا ، كعازف الأُكورديون . شكرته على صنيعه هذا ، عندما أحضر مسيو كاكو إلى البيت ، وهو شبيه بالمومياء المحنَّطة ، خاويا من طُعم الحياة ، متسربِلا بين الهَوْم و التّيه … و لا يقوى حتى على الكلام .
ينتفض ألما .
يتضوَّر جرحا غائرا ، لا ينضب له معين الألم .
تتربص به نوباتٌ شبيهة بالصَّرع .
يسقط كأيِّلٍ مغميا عليه … هدفا للصيادين كان .
تدرَّج في دمائه القانيَّة .
تحلَّق حوله نفرٌ من أغبياء القوم .
تجمَع مدام لافيري أشياءَه وأشلاءَه .
6
من فم مكتنز يلمع بريقُه كالكريستال ، صدحتِ الشمطاءُ مدام لافيري بضحكتها الطلقة الرفيعة الصَّافية . فقالت بتعثر ، ناطقةً العينَ غينا والحاءَ خاءا:
ـ غيشك … غيوني …
ـ غيشك … خبيبي …
فسحت له المكان ، بعدما تأبطها ، و هو مستلق عليها جانبا من شدة الإعياء ؛ الذي لحقه . ببدن مهيض لا يطاوعه ، صعد به إلى المنزل ، كأنه يركب جسدا غير جسده ؛ ومن ورائهما كلبهما كالحارس الأمين . أجثاه الفرح و الحبور . يجثي و يربض … يوصوص … و يوصوص …
وصد الباب خلفهما بركلة من قوائمه الخلفية القصيرة المزغبة … وقفز على الوصيد.