نعوم تشومسكي: إننا نقترب من السباق إلى حافة الكارثة

في حديثه ضمن حلقة خاصة على DiEM25 TV ، حذر نعوم تشومسكي المفكر وعالم اللسانيات مما ينتظر البشرية أثناء وما بعد «الكورونا»، نتيجة السباق المحموم السباق إلى حافة الكارثة المرعبة التي يجري إليها العالم، والمضاعفات الاقتصادية والاجتماعية التي يتسبب بها الوباء على مستوى البشرية بأكملها، وما يتهدد البشر من خطرين وجوديين وشيكين، أولهما تزايد تهديدات الحرب النووية، وثانيها تزايد مخاطر الاحتباس الحراري الذي سيتسبب بكوارث بيئية على مستوى الكوكب.
تشومسكي الذي يعيش في عزلة ذاتية في منزله في توكسن بولاية أريزونا، شأنه شأن ملياري إنسان على الأقل، للاحتماء من عدوى «فيروس كورونا» والذي يبلغ الواحد والتسعين عاماً وينتمي إلى أكثر الفئات العمرية التي يتهددها الوباء الفتاك، لديه اليوم الوقت الكامل للتفكر والتأمل بما يحدث أو سيحدث مع هذه الجائحة التي أدت إلى إجراءات العزل المنزلي فضلاً عن الحجر الصحي ومنع التجول، ونزول الجيوش إلى الشوارع في العديد من بلدان العالم، وإغلاق الحدود بين مدن البلد الواحد وبين الكثير من دول العالم في أكثر عملية عزل قسري وحصار طوعي على مر التاريخ.
تشومسكي الذي عايش الحربين العالمية الثانية كما كتب في العاشرة من عمره عن الحرب الأهلية الإسبانية في 1938، تحدث فيها بشكل خاص حول ما يشهده الناس من انتشار لا يرحم ل»الطاعون الفاشي» في جميع أنحاء أوروبا، محللاً إلى أين سيفضي هذا الوباء. يقول في معرض حديثه عن هذه المقالة: «اكتشفت لاحقاً، بعدما تم تحرير الوثائق الداخلية أن محلل حكومة الولايات المتحدة في ذلك الوقت توقع أن تنتهي الحرب بانقسام العالم إلى الهواء الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والمناطق التي تسيطر عليها، ومنطقة أخرى تسيطر عليها ألمانيا في أوروبا. وتبين لي أن مخاوف طفولتي كانت في محلها»، مستعيدا ومقارنا في نفس السياق ذكريات الماضي ووقائع الحاضر قائلا:»هذه الذكريات تعود إلي الآن. أتذكر خطابات هتلر في الراديو، لم أستطع فهم الكلمات حينها، لكن كان من السهولة أن أفهم المزاج العام وأشعر بالتهديد الذي تحمله صدى الكلمات. وهنا يجب أن أقول إنني أشعر بالشيء ذاته عندما أستمع إلى خطابات ترامب اليوم، التي يتردد صداها في نفسي. ليس الأمر أنني أشعر بأنه فاشي، فهو ليس كذلك، فالفاشية لديها الكثير من الإيديولوجيا، لكني أرى فيه مجرد «معتل اجتماعي» مهرج لا يهتم سوى بنفسه، لكن المزاج والمخاوف التي تثيرها كلماته متشابهة مع أيام طفولتي.

حافة الكارثة

وفي حديثه هن الوباء الذي يمسك بأنفاس العالم اليوم، اعتبر تشومسكي أن فيروس كورونا التاجي خطير بما فيه الكفاية، وأنه أحد أشد صدمات العصر. ومن الجوانب القاسية لأزمة كورونا، مواصلة استخدام العقوبات لزيادة الألم بوعي تام، ولجعل المعاناة أشد مرارة، مضيفا أنه « من الجدير بالذكر أننا نقترب من الرعب الأعظم، وهو السباق إلى حافة الكارثة، وهو حدث أسوأ بكثير من أي شيء حدث للإنسان عبر التاريخ. ترامب وأتباعه هم في صدارة هذا السباق نحو الهاوية. الهاوية التي تتمثل في الواقع بتهديدين هائلين وجوديين. الأول، التهديد المتزايد لاندلاع حرب نووية، والآخر، هو التهديد المتزايد للاحتباس الحراري. يمكن التعامل مع التهديدين لكن لا يوجد الكثير من الوقت لتداركهما. الفيروس التاجي «كورونا» يمكن أن تكون له عواقب مرعبة لا يمكن بعدها العودة إلى الوراء، حتى لو تم التعافي وحدث الانتعاش. هكذا تأتي ذكريات الطفولة لتعود وتطاردني، ولكن ببعد مختلف». ويقول تشومسكي أنّ منذ انتخاب ترمب، يمكن رؤية ثلاثة أشياء: تهديد الحرب النووية، وتهديد الاحتباس الحراري، وتدهور الديمقراطية. ومع أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للتغلب على الأزمة إذا سعى الجمهور إلى السيطرة على مصيره، وإذا لم يحدث ذلك، وتركنا مصيرنا لهذا «المعتل الاجتماعي» سننتهي. هذا الخطر يقترب، وترمب هو الأسوأ بسبب قوة الولايات المتحدة الساحقة التي يترأسها. فهي الدولة الوحيدة القادرة على فرض عقوبات مدمرة والقتل وعلى الجميع أن يتبعوها. حتى أوروبا. قد لا تحب أوروبا في الواقع أعمال الكراهية وفرض العقوبات ضد إيران، لكن عليهم أن يتبعوا «المعلم»، ومن لا يمتثل له يطرد من النظام الدولي المالي والاقتصادي. هذا ليس قانون الطبيعة. بل هو قرار أوروبا أن تبقى تابعة لـ»المعلم السيد» في واشنطن، هي وبلدان أخرى كثيرة. ليس لديها خيار حتى، إلا أن نعوم تشومسكي يضع القارئ أمام مفارقة صارخة لا تترجم هذه التبعية أثناء حدوث الكارثة ، فحين حصل ما حصل لم تجد أوربا مثلا إلا إحدى الدول التي عانت ولاتزال من العقوبات والحصار والتي قدمت لها المساعدة ، حيث قدمت كوبا درسا في التضامن الإنساني بعرضها المساعدة على أوربا، وإرسال مساعدات الى إيطاليا. وهنا يقول تشومسكي إن «الأزمة أزمة حضارية والغرب في هذه المرحلة أصبح مدمرا».

سؤال الديمقراطية

يرى تشومسكي أن الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة، قد يتسبب في تدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم، يضاف إليها انهيار الأسواق والنظام الاقتصادي العالمي، واستخدام ترامب خطاب «الحرب» وماكرون أيضاً والعديد من السياسيين الأوروبيين والدول والتحدث عن الأطباء بوصفهم جنود الجبهة الأمامية بمواجهة «العدو» غير المرئي «الفيروس». الخطاب ذاته يجري استخدامه في وسائل الإعلام كافة حول العالم، مما يطرح تساؤلاً عن أثر هذا الخطاب في فرض حالة من التحكم.
ويقترح تشومسكي للتعامل مع أزمة الفيروس تحركا جماعيا يشبه التعبئة العامة في زمن الحرب، معتبرا أن «هذا أمر غير مبالغ فيه. ففي بلد غني كالولايات المتحدة لديه الموارد للتغلب على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الفورية التي يتسبب بها التعامل مع الفيروس، كما حدث في الحرب العالمية الثانية حين أعلنت الولايات المتحدة التعبئة العامة وقادت البلاد إلى دين كبير وأكبر مما هو متصور اليوم، لكنها كانت تعبئة ناجحة للغاية، عملياً تضاعف حينها التصنيع أربع مرات وتم إنهاض الكساد واستعادت البلاد القدرة على النمو»، مضيفا «أننا اليوم نحتاج إلى أقل من ذلك للتعامل مع الوباء، نحتاج إلى عقلية الحركة الاجتماعية. عقلية الحركة الاجتماعية من أجل التغلب – وعلى المدى القصير- على أزمة شديدة تعّبر عن فشل ذريع للنيوليبرالية، واقتصاد السوق لا يكف عن التزايد. ويمكن هنا أن نتذكر كيف تم التعامل مع إنفلونزا الخنازير عام 2009، وتعافى مئات الآلاف من الناس من الأسوأ، وتم إيجاد لقاح للقضاء على الوباء حين تحركنا بسرعة».
ويضيف: «هذا لم يحدث اليوم، على الرغم من توفر المعلومات منذ دجنبر 2019، عن أعراض وباء فتاك غير معروف مسبباته، والتي قدمتها الصين إلى منظمة الصحة العالمية حين تفشى الوباء في «ووهان» وتم تعميمها في العالم أجمع. كان تحرك ترامب وقادة أوروبا بطيئاً وغير مسؤول. ذلك لحسابات تجارية واقتصادية للنيوليبرالية التي تحكم العالم خشية الخسائر التي سيتسبب بها العزل الاجتماعي، وإغلاق المؤسسات والشركات وتعطيل الحياة العامة ولمصلحة هؤلاء الأثرياء. وبسبب عقلية اقتصاد السوق، فضلت شركات الأدوية تصنيع كريمات البشرة على إيجاد لقاح أو علاجات للأوبئة المحتملة لأنها أكثر ربحاً. هم كانوا يعرفون منذ تفشي فيروس السارس بوباء كورونا المحتمل. فقد تم القيام بأبحاث منذ فيروس السارس وتم تحديد التسلسل الجيني لسلالة سارس والتي ينتمي إليها فيروس كورونا كتطور جيني محتمل للسلالة تم التأكد منه. ماذا حدث؟ لم تعمد الحكومات وشركات الأدوية العملاقة على الانكباب لتصنيع العلاجات أو اللقاحات لحماية الناس».

إلى أين نتجه؟

رغم كل الآلام والخسائر التي تسبب فيها فيروس كوفيد 19، يرى تشومسكي أن الفيروس التاجي حمل معه أشياء إيجابية.. «هي إشارات تحذيرية لنا من الخطر الداهم الذي يلوح في المستقبل القريب ليحثنا على التحرك والاستعداد، خاصة على مستوى الديمقراطية التي أصبحت اليوم في خطر بسبب حالة الاستثناء التي قد تتواصل بسبب السياسات النيوبرالية . ،برأيه، إن لم تتم الإجابة عن سؤال وجودي» يطرحه تشومسكي وهو: أي عالم نريد أن نعيش فيه؟
هنا يضعنا تشومسكي أمام خيارات عديدة تتراوح «بين تركيب استبدادي للغاية» في العالم تتحول فيه الدول إلى أكثر وحشية، أو خيار الراديكالية وإعادة إعمار المجتمع، أو خيارات أخرى كالعودة إلى المصطلحات الإنسانية المعنية بالاحتياجات البشرية، وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمصلحة النيوليبرالية، التي سيسعدها التضخم الهائل لعنف الدولة الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس كورونا، لا سيما إن طالت الأزمة.
«إن الاستماع إلى ما سمّوه «الصوت الاقتصادي لليبرالية الجديدة في عشرينيات القرن الماضي، يقول تشومسكي، أسعد الفاشية البدائية في فيينا وقامت الدولة النمساوية بتحطيم النقابات العمالية وحطمت الديمقراطية. وهو ما حدث في تشيلي على يد بينوشيه الذي قام بتركيب قاتل لديكتاتورية وحشية بحجة حماية الاقتصاد». لذا من المتوقع- باعتقاده – أن يتصرف النظام النيوليبرالي العالمي بهمجية مفرطة عبر دول قوية عنيفة استبدادية.
يخلص تشومسكي الى أننا اليوم أمام لحظة تاريخية حاسمة للإنسان لأن الفيروس يحضرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية. «فالعالم معيب وليس قوياً بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله، واستبداله بنظام عالمي إنساني كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء» مضيفا أن فيروسكورونا «علامة تحذير ودرس للبشرية، وعلينا أن نبحث في الجذور التي تؤدي إلى الأزمات، التي ربما تكون أسوأ مما نواجهه اليوم، والتحضير لكيفية «التعامل معها ومنعها من الانفجار»! ويتساءل تشومسكي: «في الوقت الذي تزداد فيه المسافة الاجتماعية في إجراءات العزل المنزلي والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي بين ملايين البشر في البلد الواحد، أو بين مليارات الأشخاص عبر العالم، كيف يمكن الحديث عن خلق حركة اجتماعية نشطة لتواجه ما نعيشه اليوم أو ما هو مقبل وقريب جداً من تهديدات وجودية؟

 


الكاتب : عن «الأندبندنت عربية» بتصرف

  

بتاريخ : 20/04/2020