أن ترفع يدك في محكمة مسيحية، أو تقسم بقسم إسلامي، أن تكون شاهدا على الذات أو على الآخر . أن تكون شاهد قضية أو شاهد قبر، يعني أن تكون ثالثا أو خامسا مخترقا طمأنينة الأزواج ومنتهكا حرمة اللاحقيقة . أن ترتدي لباس الشهادة ، يعني أن توجد بين يد ويد ، بين عين وعين ، بين قاض ومتهم، بين ظلمة القبر ونور الشمس .
الشاهد مولود هذا الوضع البيني، حامل ليد زائدة وعين ثالثة، متمتع بقدسية الكائنات الفرقانية . فيه يحيا الكلام بعد موته ، وتظل صورة الميت حاضرة بعد فنائه . الشهادة ظلت دائما حكاية ومحكيا . لنستحضر محورتا أفلاطون « الكريتون « و الفيدون « الممتعتين ، حيث كان أفلاطون يحكي عن الكيفية التي اختار بها سقراط موته . هما شهادتان متلبستان في شكل المحاورة ، والشاهد فيهما هو أفلاطون وليس « الفيدون « أو « الكريتون « . لقد كانا معا منحازين لقضية سقراط ، بينما كان أفلاطون شاهدا غير منحاز لأول مرة وآخر مرة . لم يكن أفلاطون حاضرا لحظة ارتشاف سقراط جرعات سمه الأخيرة، لأنه كان مريضا . لقد اختار وضع الغائب، و قد اخترت يا أبي وضع الغائب كي أرى صورتك، و لأن الغائب لا يصلح للشهادة، ففي شهادتي أنت الحضور .
الشهادة يا أبي لحظة من لحظات الموت، مثلها مثل الحقيقة . ذاك صديقي موريس بلانشو الذي لا أعرفه قال لي يوما « الحقيقة صديقة حميمة لفراش الموت «.
إذن يا أبي ، وإذن حرف يعلن ولوج عالم الموتى لأنه يقترن بالكلام الأخير، الشهادة تعلن من داخل الموت ، ولا يبقى منا سوى صورنا بوصفها الشهادة الأكثر حقيقية . صورنا ليست غير ظلنا الذي نقذف به خارج وجودنا . هي جوهرنا الشبحي المظلم الذي لا يقبل الفناء ويرفض الانزياح عنا كلما كان هنالك ضوء شمس . في ظلنا نتشابه في صورنا نتغاير . في ظلنا يحمل كلنا موته وفي ظلنا يحمل كلنا وجوده .
يا أبي لسنا غير ظل تجعله صورنا شاهدا على وجودنا الذي ولى ولم يعد . لا أرغب في رؤية جثمانك ولا التراب الذي سيحجبك . أنا أمام صورتك وأرى فيها حقيقتك . الحقيقة لا تظهر إلا تحت ضوء الموت . لكن ما هي هاته الحقيقة التي تظهرها الموت ؟ لا شيء، لا شيء ، سوى رأي الموت في الحياة .
الموت تجربة نحياها في صورنا، وحياة نثأر لها بوضع الصورة في إطار يجعلها ضريحا تستبرك به العين كلما زاغت نحو عيون الصورة . سأنظر إليك بوصفك كائنا مات وانقضى وسأقدسك مثلما يقدس الموتى وسأحرم وطء صورتك . سأنظر إليك من زاوية الحياة لأنتصر لحياتي رغم أني أدرك أنك ستظل تنظر إلي بعنف صمتك كمن يستدعيني للكلام . لن أحضر جنازتك ولكن سأنظر إلى الصورة لأننا كلما اتسعت فينا بؤرة الموت غادرتنا الحياة نحو صورنا . اللعبة كلها يا أبي أن الحياة ليست مسكنا بل معبرا ، لذلك تهيئنا صورنا جميعا كي نخوض تجربة الموت منذ طفولتنا .
هذه شهادتي في صورتك .. هذه شهادتي يا أبي الذي قررت ألا أحضر جنازتك
الكاتب : نور الدين الزاهي
بتاريخ : 06/12/2019
اترك تعليقاً