يوميات بلد موبوء -3- 

فنجان قهوة على الشرفة 

كان يا ما كان في قديم العصر والأوان، منذ عقود خلت، كنا مستبشرين بانتهاء عام عصيب وبداية آخر، عام يقفل عشرين سنة بعد الألفين ، عشرين سنة رأينا فيها أهوالا جسام وأحداثا أثقلت كاهل التاريخ بزخمها ووحشيتها،  كان يحذونا أمل دفين في أن هذا العام سيكون عام الخير، عام التغيير ، بدأنا نخطط ونرسم لمستقبل أجمل.

سعيدة صدقي

استيقظت في رابع يوم من العزلة القسرية على نقر متواصل على الجدار الذي يفصل بيتي عن بيت الجارة.
جارة لا تعرفني ولا اعرفها. شأننا في ذلك شأن أغلبية الجيران في المدن الكبرى، بسبب وتيرة الحياة اليومية التي تعتصر ذواتنا وأيضا احتراما لخصوصية الفرد أو ما نسميه بلهجتنا المغربية: «التيقار». ​
سبقني ذعري وتوثبي الى الباب. ماذا حصل يا ترى؟ هل دقت الساعة المحتومة خلال غفوتي؟ هل فني العالم وانا لا أدري؟
سألتها ما الخطب؟ فقالت والخجل يلعثم صوتها: «عفوا سيدتي، هل يمكنك أن تقرضيني كاسا من الزيت؟ لا يمكنني أن أخرج للتسوق. لقد عانيت من التهاب في الرئتين في بداية الشتاء وبالتالي فأنا معرضة للعدوى أكثر من غيري».
سارعت بالطبع لتلبية طلبها ورجوتها ألا تتردد في طلب أي شيء تحتاجه، ثم رميت بنفسي على الكنبة أفكر في أطوار هذا الوباء اللعين.
واعجباه! لم أر طيلة هذه الأعوام التي عشتها في هذا البلد، وهي ليست بالقليلة، جارا يطلب من جاره كوبا من الزيت. أو أي شيء أخر.
ذكرتني بأيام طفولتي حين كنا نفتح حسابا جاريا لدى الجيران. صباحا ومساء: كأس زيت، قالب من السكر، علبة شاي، قبطة نعناع….
لقد مرت ما يقارب ثلاث عقود على هذه الممارسات. اعتقد أنها انقرضت، لم تعد موجودة حتى في الأحياء التي تربيت وعشت فيها والتي ملأتها أنا وأقراني صخبا وشغبا.
ما الذي يحدث بالضبط؟ ماذا فعل بنا السيد كورنا؟ ماذا يريد منا بالضبط؟ من ناحية يقطع وشائجنا ويصادر كل ما هو إنساني فينا.
يصاب الواحد منا بلعنته ولا يجد أخا أو ولدا يسنده في محنته، ويموت الميت ولا احد يواريه التراب. ومن ناحية أخرى ينفض الغبار على كل ما كان جميلا وعفويا في حياتنا اليومية، ذاك الجو الحميمي الذي كان يسود في الأحياء والأزقة، تلك العفوية التي كانت تحكم تصرفاتنا والتي اندحرت أمام الاجتياح الكاسح لما يسمى بالتقدم وبالعولمة.
كنا قبل عصر كورنا نستجير بهواتفنا «الذكية» من كل العلاقات، يعطي الواحد منا موعدا لصديقه أو لصديقته يجلسان في مقهى ويدفن كل واحد منهما ذاته في هاتفه بحثا على صديق أو صديقة افتراضية.
بل كان أفراد العائلة الواحدة لا يكلمون بعضهم إلا لماما.
ثم استيقظنا ذات ربيع على وقع خطى السيد كورونا. أعاد الناس إلى الشرفات وأصبح سكان العمارات يتواعدون على فنجان قهوة في الصباح وعلى كأس نبيذ في المساء، يجلسون على طاولاتهم في الشرفات كأنهم يجلسون في مقهى مترامي الأطراف، بل إن البعض منهم يرتدي ملابسه وحذاءه وكأنه ذاهب الى موعد.
نفض العديد منهم الغبار على اللات موسيقية واخذ يعزف مقطوعات من الموروث الشعبي يطرب بها جيرانه ويطرد عنهم وعن نفسه شبح الخوف ويراوغ الملل.
لأول مرة انتبه أن الشقة المقابلة لبيتي تسكنها أسرة متعددة الأفراد. كانت نوافذها دائما مغلقة أو لعله انغلاقنا على ذواتنا هو الذي كان يحجب الرؤيا.
أصبحنا مؤدبين ومنضبطين، نقف في طابور طويل وننتظر بالساعات دورنا لندخل إلى السوبر ماركت دون أن نتدمر ودون أن نحاول المرور قبل من يسبقنا كما كنا نفعل من قبل.
عادت تلك الأناقة في التعامل…يقف الواحد منا في تأني ويفسح الطريق أمام القادم من الاتجاه المعاكس ليس أدبا منه ولا احتراما بل خوفا ورعبا من العدوى التي حصدت أرواحا لم تعد فقط من عداد العجزة وأصحاب الأمراض المزمنة كما كنا نعتقد بادئ الأمر. بل أيضا من شباب في مقتبل العمر.
قلقنا وعجزنا أصبح مضاعفا فالأخبار الآتية من بلدنا الحبيب لا تبشر بخير، بل إن مجرد تصور ما قد يحدث لأهلنا هناك يقض المضاجع.
يتبع..

 


الكاتب : سعيدة صدقي

  

بتاريخ : 28/04/2020