أسئلة الكتابة : في ضرورة الانفصال

1
الثقافة المكتوبة،
أية جدوى؟

هل سنجادل في حقيقة أن الثقافة المكتوبة ظلت أساس المعرفة الإنسانية لقرون طويلة ؛ الكتابة المدونة والمقروءة ظلت الوساطة المركزية لتناقل المعارف وحلقة التواصل الفكري واللغوي؛ هذا ما أطلق عليه ريجيس دوبري Debray ب: «عصر الكتابة» Graphosphère الذي امتد من اختراع المطبعة إلى التلفزيون وجاء كثورة على عصر سابق له استمر بدوره لقرون طويلة هو «عصر الخطاب» Logosphère الذي بدأ مع الكهف، واستمر حتى المطبعة وهيمنت فيه المعارف الشفهية (انظر ريجيس دوبري «حياة وموت الصورة» ترجمة فريد الزاهي ص: 166). والربط والمقارنة بين العصرين السابقين يكشف أننا اليوم صرنا في لجة عصر ثالث يسميه دوبري «عصر الشاشة» Vidéosphère وركزوا في التسمية: عصر الشاشة وليس عصر الصورة؛ لأن الصورة كانت دائمة الوجود ولكن الوسيط الذي تتحقق من خلاله هو الذي اختلف؛ وهذا له دلالاته. إذن بالعودة إلى موضوعنا حول الكتابة وباستحضار الفروق بين العصور الثلاث؛ فإنه يحق لنا أن نتساءل:
أية جدوى للكتابة في عصر انتهى فيه الإنجاز اللغوي لصالح التحقق البصري ؟
أية جدوى للكتابة – ولندقق أكثر ونقول الكتابة الأدبية – في زمن يشهد أفولا متصاعدا للأدب بأجناسه المعهودة، نتيجة تحول الصورة الفنية من بعدها الذهني/ التخييلي (استعارة/ كناية/ ترميز) إلى التحقق الفعلي على الشاشات (زيف وتصنع Simulacre/ Simulation) ؟
تفترض مثل هذه الأسئلة خطأ بأن الكتابة فعل مرتبط بالتدوين والطباعة والنشر الورقي؛ ولكن ذلك كله وساطات للكتابة وليس هو الكتابة ذاتها؛ لأن هذه الأخيرة نشاط ذهني بالأساس وجد قبل ظهور وساطات مثل: النسخ أو الطباعة أو النشر، وحتى لو انقرضت الوساطات الورقية (الواقعية) لصالح الرقن الرقمي (الافتراضي) فإن الكتابة مع ذلك ستظل حاضرة في مركز النشاطات البشرية؛ لكن ذلك كله لا يلغي التساؤل التالي الذي يظل ملحا:
أي شكل للكتابة في مستقبل قريب تزداد فيه هيمنة ثقافة الميديا، ويشيع فيه الحديث عن السومولاكر والزيف والتصنع في مقابل استنفاد الوساطات التقليدية لأدوارها وأقصد بهذه الوساطات الكتاب الورقي بأجناسه التقليدية المعهودة التي تقوم على خطاب يتميز بالانزياح، والترميز والأسلبة والحجاج وبلاغة المحسنات ؟
بصيغة أخرى: كيف نفهم التحولات التي مست الكتابة والقراءة تحت التأثير الرقمي لعصر الشاشة ؟ وكيف يمكن تقييم تأثير التكنولوجيات الجديدة في رسم خطوط هروب جديدة للكتابة وللكتاب وحتى للمتلقين ؟
لا شك أن أرباب الكتابة الحريصون على دوام ربطها بالنشر الورقي، لا يخفون هلعهم من انقراض الكتاب الورقي ومن أفول الأجناس الأدبية بما فيها الرواية التي ظلت تعتبر إلى وقت قريب جدا ملحمة المجتمع البرجوازي الحديث؛ وذلك لصالح أشكال جديدة من الكتابة البصرية كالفيلم الروائي والمسلسل الدرامي والفيلم الوثائقي والنشرات الإخبارية المباشرة من قلب الحدث ومقالات الرأي القصيرة وبرامج الإعلاميين اليومية، وأخبار مقتضبة تهطل علينا كالمطر الغزير من لدن ما لا يعد ولا يحصى من الشاشات الافتراضية ونستهلكها يوميا كالوجبات السريعة؛ هي كتابات فاست Fast أو كتابات لايت Light سريعة التحضير، ومتخففة من كل المحسنات البلاغية من غير أن تتخلى عن اسم «كتابة» يتم إنجازها وتلقيها بسرعة كبيرة توازي سرعة وقوع الأحداث، وبسرعة أكبر يتم نسيانها، وهذا في اعتقادي مهم جدا؛ ولكن كل هذا الهلع لا يلغي أو يخفي حقيقة أن أشكال الكتابة البصرية الجديدة يسحب جمهور الكتابات التقليدية التي سادت في عصر الواقع والطباعة الورقية يوما بعد يوم، بل هي قادرة على استقطاب شرائح واسعة لم يسبق لها أن كانت يوما من مدمني القراءة الورقية.

2
الكتابات على الشاشات

الكتابة التقليدية كما مارسناها وعرفناها، منذ الكهف وحتى بعد ظهور المطابع، لم تكن سوى محاولة لمجابهة الموت وأداة للتخليد ومقاومة النسيان؛ لكن وعلى عكس ذلك كله: أليست الكتابة ذات الحوامل الافتراضية اليوم كالريح تخط لتمحو، لا هدف من ورائها سوى تحقيق Buzz ؟
هذا ينعكس اليوم كل أشكال الكتابة بما فيها الأعمال الأدبية نفسها، فدار الشروق المصرية الرائدة عربيا في نشر الروايات الورقية هي نفسها التي تستعد لنشر أول رواية صوتية ليوسف زيدان على النت، وهو الكاتب الشهير الذي لم تحقق رواياته الورقية الأخيرة نفس النجاح الكبير الذي كانت تحققه منذ بضع سنين، بل هو نفسه تحول بذكاء إلى ظاهرة بصرية- صوتية تستضيفه أشهر البرامج التي وسع من خلالها رقعة انتشاره. هي إذن كتابة بصرية تعيد الاستعانة بوساطات مغايرة للتدوين من قبيل إنشاد المنادي (وساطة الصوت) والمونطاج الفيلمي وكاميرا الحدث (دردشات مواقع التواصل الاجتماعي) بغية مواكبة تغيرات السياق وتبدلات طرق إنتاج المعنى بترتيب متحرك ومفتوح ويسير المنال (اليوتيوب نموذجا).
من الطبيعي أن نعتبر كل ذلك ردة واندحارا إذا قمنا بنعت هذه الكتابة الجديدة بالشعبية في مقابل الكتابة القديمة الرفيعة؛ هذا ما ذهب إليه أدونيس مثلا عندما اعتبر كتابات اليوم مثل تقارير عن الحياة اليومية انعدمت فيها المسافة بين الكلمات واليومي؛ هي الابتذال بعينه ما يجعلها بعيدة كليا عن الأدب الرفيع الذي يصبو من وجهة نظره نحو فهم أعمق للعالم. يعتبر أدونيس بأن لصق الكتابة باليومي العابر أشبه بمن يلصق وجهه بالمرآة، فلا يعود يرى أي شيء. (أدونيس الهوية غير المكتملة ص: 47). إذن الانزياح والتباعد عن الواقع أساسي من وجهة النظر هاته لتحقيق لذة الكتابة الخالدة. لكن:
ألا يزال الحديث ممكنا عن الواقع حتى نحقق التباعد عنه ؟، ثم:
أليست سمة العصر الذي نحياه هو الاستهلاك؟ فكيف يستقيم الحديث عن الكتابة دون النظر إليها كمنتوج قابل للاستهلاك؟
ليس في ذلك ما يعيب لأن السلعة هي التي تحدد طبيعة وجودنا المعاصر كما يرى غي دوبور، وكل ما يفتقد لخاصية الترويج أي الإنتاج والاستهلاك هو فاقد للصلاحية.
من الخطأ تصنيف الكتابة إلى راقية وشعبية لأن الكتابة الشعبية لا تعني بالضرورة تلك غير الراقية؛ بقدر ما هي كتابات ذات ارتباط بخاصية الاستهلاك، ولأجل ذلك فهي تكتسب خاصية لايت Ligth بمعنى تتحرر وتتخفف من المحسنات والترميز والتمطيط وكل الأجهزة المفاهيمية الجافة التي تتوجه بالخصوص إلى الذين لم يتخموا بعد من المفاهيم المنهجية. قد ندعي بأنها كتابات عابرة وزائلة ولكن ذلك هو سمة هذا العصر، حيث علاقة الإنسان بالسلعة علاقة عابرة Jetable. قيمة الوسائط الافتراضية اليوم أنها قادرة على اختراق كل أساليب التفكير وكل أشكال التلقي الوضيعة والراقية.. قادرة على الخروج من تاريخ الكتابة إلى ممارسة فعل الكتابة في حد ذاته؛ لذلك مفعول القراءة الافتراضية اليوم مغناطيسي وحراري ومعدي إذ لم نعد نعاني من ندرة الكتاب والقراء بل صرنا متخمين من كثرة ما يكتب على الألواح الافتراضية وكثرة متلقيه (تحقق بعض المدونات أكثر من مليون قارئ افتراضي في اليوم الواحد، وتصل بعض البرامج الإعلامية إلى مئات الملايين من المشاهدين)، ومن ثم صارت هذه الوساطات البصرية عماد الكتابة الجديدة التي تنجز على الشاشات؛ أي عماد النشاط الذهني المعاصر وآلية لا غنى عنها لإنتاج المعارف وتسويقها كنتاج حتمي للتحولات الحاصلة في المجتمعات الجديدة، نتيجة تحول النشاط الذهني من الإنجاز اللغوي المدون إلى الإنجاز البصري المتحقق فعليا.
ألا يجعلنا ذلك نقر ببساطة باستنفاد التدوين الورقي لأدواره ؟
بالتأكيد ولكن لصالح أنشطة جديدة وتمظهرات مغايرة لهذا النشاط الذهني الذي يحقق كل يوم انفصالا لا متناهيا عن البداهة واليقينية لصالح التفتت والتشذر والتكثيف واللا استقرار. يقول نيتشه: (مناي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتب.. ما لا يقوله في كتاب بأكمله).

3
طرائق القراءة الجديدة

هل لا يزال بالإمكان اليوم في عصر الكتابة على الشاشة الحديث عن قارئ يكتفي بالتلقي كما كان الأمر عليه في زمن النشر الورقي رغم ما كان يقال عن إسهام هذا القارئ في إنتاج المعنى (نظريات التلقي التقليدية)؟
أفترض بأن الشاشات الافتراضية تمكنت من تحويل الكتابة إلى لغة تواصل؛ بمعنى تحويل المعرفة إلى نتاج جماعي بشكل غير معهود؛ فقارئ اليوم لا يحصر اهتمامه في النص في حد ذاته بقدر ما يشمل اهتمامه التعاليق واللايكات Like/Dislike؛ التي هي مفتوحة للجميع؛ والتقييم النهائي للنصوص لا يمكن أن يتم بمعزل عن استحضار هذه التعاليق التي قد تتسع مساحتها لتفوق المنتج في حد ذاته. النشاط العقلي إذن الذي نعتبر الكتابة ترجمة له، لم يعد مقتصرا على نخبة من الأنبياء والمنظرين وأصحاب الألواح بقدر ما صار بفضل التكنولوجيات الجديدة نشاطا جمعيا متعدد الأصوات، يولي اهتماما خاصا للمشاركة؛ هو مجتمع التواصل والاستهلاك Communication / Consommation الذي يشكل جوهر هذه الحياة الجديدة التي تقدم نفسها اليوم ضمن شروط إنتاج مغايرة، باعتبارها تراكما لا نهائيا من الصور.


الكاتب : دة. أمل بنويس

  

بتاريخ : 23/05/2020