الأطباء الأجانب بفرنسا في واجهة الحرب ضد جائحة كورونا

 

يواجه الأطباء الأجانب بفرنسا، وبالضبط بمستشفى سان دونين في الضاحية الشمالية لباريس، التي تعتبر إحدى أفقر مدن هوامش العاصمة، وباء كورونا، في ظروف جد صعبة على المستوى المهني .
فمن أصل 18 طبيبا يعملون بالمستشفى، هناك 15 طبيبا أجنبيا غالبيتهم من جنسيات مغربية وجزائرية، وأكثرهم يعمل ساعات طويلة، ودون عطل، لكن وبالرغم من ذلك، فهم يحصلون على نصف ما يحصل عليه الأطباء الفرنسيون، لأنهم نالوا شهاداتهم خارج الاتحاد الأوروبي، أي بالمغرب أو بالجزائر.
هذه الظاهرة نجدها أيضا ببريطانيا، التي ينتمي أغلب الأطباء الأجانب بها إلى الهند وباكستان، أي المستعمرات القديمة لهذه البلدان، أما في ألمانيا فإن أغلبهم من اللاجئين السوريين الذين تم إخضاعهم لتكوين سريع في اللغة على الخصوص.
ورغم التكوين العالي لهذه الأطر، التي تعتبر من النخبة، فإن الميز في الأجور الذي تتعرض له، مقارنة مع نظيرتها الفرنسية، يذكرنا بمعارك مهاجرين آخرين، وهم عمال السكك الحديدية وعمال المناجم من المغاربة الذين استرجعوا حقوقهم ورفع الميز عنهم بفضل القضاء الفرنسي، بعد أن تم حرمانهم منها لعدة عقود.
لقد أبرزت هذه الجائحة مدى الإهمال الذي تتعرض له المؤسسات الاستشفائية بفرنسا، وتدبيرها في العقود الأخيرة بمنطق المقاولة الخاضعة للربح والخسارة والمنافسة مع القطاع الخاص. وفي هذا الصدد وجه عدد من الأطباء نداء إلى الرئيس الفرنسي من أجل التعامل مع المستشفى كمؤسسة عمومية لتقديم الخدمات وليس كمقاولة، كما طالبت النقابات بتحسين وضعية العاملين بالمستشفيات من أطباء وممرضين، والذين يحصلون على أقل الأجور مقارنة بباقي العاملين في هذا القطاع ببلدان الاتحاد الأوروبي.
المستشفى الفرنسي المعروف بكفاءته في العالم، رغم بعض الصعوبات المادية في السنوات الأخيرة، لا يمكنه اليوم أن يشتغل بدون الأطباء المهاجرين الذين ينتمي أغلبهم إلى المغرب والجزائر، بالإضافة إلى بعض الجنسيات الأخرى من إفريقيا والشرق الأوسط، والذين يتقاضون أجورا أقل بسبب ديبلوماتهم الأجنبية، وكانت السلطات الفرنسية قد حاولت القضاء على هذا الميز في الأجور خاصة تجاه الأطباء، فقد سن البرلمان الفرنسي قانونا سنة 2019 يحد من هذه الفوارق ويحقق جزءا من مطالب هؤلاء الأطباء الأجانب لكنه مازال لم يطبق حتى الآن.
ولكن ومع تفشي وباء كورونا بات هؤلاء الأطباء يرغبون في أن تأخذ مطالبهم بعين الاعتبار لكون الاهتمام أصبح كبيرا بالمستشفيات، ووعد الرئيس الفرنسي إيمانييل ماكرون، في زيارته لأحد مستشفيات باريس، بالاهتمام بوضعية القطاع الصحي، من خلال رفع الإمكانيات المادية المخصصة لها والاهتمام بأجور العاملين بها.
وهؤلاء الأطباء الأجانب الذين تكونوا في الخارج دون أن يكلفوا هذه البلدان أي سنتيم، يشكلون ربع الطاقم العامل في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وهي أغنى بلدان العالم تقريبا، والذين أصبحوا أداة ضرورية لوظيفة المستشفيات بهذه البلدان الغنية، واليوم يوجدون في الواجهة في الحرب ضد الوباء ويعتبرون من أول الضحايا، فقد سقط أول طبيب ضحية الوباء القاتل في بداية تفشيه، ويتعلق الأمر بجون جاك رازا فيندرانزي وهو من جزيرة مدغشقر، الذي توفي في 21 من مارس الماضي، وكان طبيبا متقاعدا، عاد لمساعدة زملائه بمستشفى كومبيان بالضاحية الباريسية، التي كانت إحدى بؤر الفيروس.
المجهودات التي يبذلها الأطباء الأجانب في المعركة ضد الوباء لا يمكن تجاهلها، وفي هذا الإطار لايزال الجميع يتذكر الشكر الخاص الذي قدمه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون للممرضين والأطباء الأجانب الذين أنقذوه من الموت عندما أصيب بالوباء، كما قدم شكرا خاصا لهؤلاء الأجانب الذين يسهرون على المستشفيات البريطانية ويوجدون في الواجهة .
فمن أجل سد الخصاص الكبير الذي يعرفه قطاع الصحة في مجال الموارد البشرية تلجأ البلدان الغنية للأطباء المهاجرين، وتقوم عدد منها باستقطابهم وإغرائهم للعمل بمستشفياتها، رغم ظروف اشتغالهم الصعبة سواء لمواجهة الأمراض أو في المستعجلات التي تشتغل ليل نهار، وفي إحصائيات نشرتها منظمة الصحة العالمية في سنة 2013، فإن العالم يعرف خصاصا كبيرا في مجال الأطر الصحية، قدرتها بأكثر من 17 مليونا، وهو عدد مرتفع في مناطق مثل إفريقيا، في حين تغطي الدول الغنية على خصاصها بفتح الأبواب أمام الأطباء الأجانب، بل أصبحت تعتمد عليهم بصفة أساسية، وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن نصف الأطباء بأستراليا هم مهاجرون، ومنهم 33 في المائة في بريطانيا و30 في المائة بالولايات المتحدة الأمريكية. بالإضافة إلى كندا. هذه البلدان الغنية والتي لها إمكانيات تكوين الأطباء والأطر الصحية، تلجأ إلى هؤلاء الأطباء الأجانب لأنهم لا يكلفونها أي شيء في التكوين الطويل والشاق، وبالتالي تقوم بنهب هذه الثروات البشرية من بلدان الجنوب التي تعاني من خصاص كبير في الموارد البشرية وفي نفس الوقت ليس لها الإمكانيات لإغراء هذه الكفاءات التي تختار البلدان الغنية، رغم معاناتها من الميز في الأجور والمسار المهني، كما هو الشأن بفرنسا، لكنها أجور تبقى أفضل بكثير من تلك التي يحصلون عليها بالبلدان الأصلية. بهذه الطريقة تحصل البلدان الغنية على حاجياتها في المجال الصحي دون صرف ميزانية كبيرة، ويمكنها وقف هذه الهجرة عند تلبيتها حاجتها منها، بل إن المستشفيات يمكنها تسريح هذه الأطر الطبية في حالة الاستغناء عن خدماتها، لأنها تعمل بعقود عمل محددة، وبالتالي فإن رفع أو الحد من عدد المهاجرين الأطباء يتم حسب الطلب وحاجيات هذه البلدان الغنية.
المفارقة اليوم أن هذه البلدان الغنية، وبفعل الشيخوخة، في حاجة إلى المزيد من الأطر الصحية، وعوض تكوينها بشكل كاف في مؤسساتها المحلية تختار أغلبها الاعتماد على الهجرة وعلى موارد بلدان الجنوب من أجل سد هذا النقص الكبير في الأطر الصحية بدون أي كلفة.
ورغم توصيات المنظمة العالمية للصحة منذ سنة 2000 التي تنبه البلدان الغنية إلى هذه الظاهرة، وتدعو إلى الكف عن استقطاب هذه الكفاءات الطبية التي تعاني بلدان الجنوب من خصاص كبير فيها، فإن ألمانيا وحدها من بين البلدان الغنية التي تحترم هذه التوصية، في حين تستمر باقي البلدان الغنية مثل فرنسا، بريطانيا، كندا والولايات المتحدة الأمريكية في الاعتماد على هذه الموارد البشرية الرخيصة في المجال الصحي القادمة من بلدان الجنوب.


الكاتب : باريس: يوسف لهلالي

  

بتاريخ : 21/05/2020