الأم مدرسة .. في زمن الكورونا

تساهم في التدريس عن بعد .. تتحمل أعباء الحياة اليومية .. تتكفل بالأسرة .. وتكون عرضة للانتكاسة الصحية عضويا ونفسيا 

 

«الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعبا طيب الأعراق». هكذا تحدث يوما حافظ إبراهيم شاعر النيل، وعاشت الأجيال بعد ذلك تنظر للأم كمدرسة، للقيم والتربية والتهذيب وتعليم السلوك القويم، وكلما كانت الأم تتوفر على حظ من الخلق الكريم الطيب، وانضاف إليه قدر من التعليم، إذا توفر، لأن الوعي لم يكن مرتبطا بالتمدرس يوما، بالنظر إلى الفوارق الكبيرة المجسّدة في هذا الباب، كان الأمر إيجابيا على فلذات الأكباد، ومن خلالهم على المجتمع.
الأم، التي تحبل وتلد وترضع وتربي، وتواكب الأبناء في تمدرسهم، من خلال مراجعة التمارين والمساعدة على الحفظ والاستظهار، إلى جانب القيام بأعباء البيت اليومية، وربما حتى العمل خارجه للمساهمة في مواجهة ثقل الحياة وتكاليفها المادية والاقتصادية، هي اليوم مدرسة فعلا، بعد أن وجدت نفسها لم تعد تقوم بتلك الأدوار «التقليدية»، وإنما باتت مضطرة لتوفير الحاسوب والهواتف النقالة، لأبنائها، خاصة تلك التي تتوفر على اثنين وثلاثة وربما أكثر، لا سيما الصغار منهم ومن هم مقبلون على الامتحانات الإشهادية، لكي تتابع معهم الدروس التي يتلقونها عن بعد، وتعمل على الشرح والتفسير، وتجد نفسها موزعة ما بين مساعدة الأبناء والقيام بباقي الأعباء؟

 

الوقع النفسي على الأمهات يرتفع ويهدّد توازنهن النفسي
الحجر الصحي لحظة ضغط جماعية يجب الاستفادة من إيجابياتها

 

في زمن فيروس كورونا المستجد، أصبحت الأم مدرسة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، واقعيا وعمليا، تعاني الأمرّين، تجدّ وتجتهد، تكدّ وتتعب، دون أن يستوعب الكثير من الأشخاص والمؤسسات هذا الدور الجبار الذي تقوم به اليوم، في زمن التدريس عن بعد، على حساب صحتها العضوية والنفسية، مما قد يعرضها لعدد من الانتكاسات، وهو ما يفرض اتخاذ جملة من التدابير اليومية على مستوى الأسرة، التي يساهم فيها إلى جانب الأم، الأب بدوره، وكذلك الأبناء، حتى لا يؤثر الحجر الصحي على العائلات برمّتها بشكل سلبي، وأن يتم تحويله إلى لحظات إيجابية، يكون لها وقعها الصحيح.

الدكتور محمد هاشم تيال (*)

(*) اختصاصي في الصحة النفسية والعقلية

أكد الدكتور محمد هاشم تيال، في تصريحه لـ «الاتحاد الاشتراكي»، أن وضعية الحجر الصحي خلقت مشاكل عديدة لمجموعة من الأمهات اللواتي يتواجدن مع أبنائهن باستمرار، صباح مساء، مما فرض عليهن ضغطا كبيرا جدا، بالنظر إلى أنه يجب عليهن الحرص على ملء أوقات فلذات أكبادهن، وملائمته وفقا للحاجيات المطلوبة، من خلال الحرص على متابعة الدراسة، وكذا تنظيم فترات الراحة، وعدم خلق المشاكل التي تكون بسبب المشاحنات الأخوية في الكثير من الحالات.
هذا الضغط، قد يكون ضعيفا، وقد يكون قويا، وذلك بحسب الوضعية النفسية للأم، وبالنظر إلى سن الأبناء وطبيعة شخصيتهم، وكذا مدى حضور الأب والمساعدة التي يقدمها أو العكس، لأن هذه العوامل قد يشكل البعض منها أو هي بأجمعها سببا مباشرا في إلحاق الضرر النفسي البالغ للأمهات، وهو ما يجب لتفاديه أن تحرص النساء والأمهات على اتباع جملة من الخطوات.
وأشار الاختصاصي في الصحة النفسية والعقلية إلى أن الأمّ، في خضم كل هذه الأجواء والمطالب والانتظارات، خاصة التي لها أطفالا صغارا وقاصرين، يجب عليها أن تجد لنفسها وقتا للراحة، وأن تتخذ كل التدابير اللازمة من أجل توفير متنفس ولحظات للسكينة والهدوء في وسط أسرتها، دون أن تكون في اتصال مباشر مع الأبناء، وأن تحرص على تخصيص وقت لها مع زوجها، وأن تنام الساعات الكافية في الوقت الطبيعي والاستيقاظ مبكرا، وأن يكون أكلها صحيا متوازنا، مع القيام ببعض التمارين الرياضية تحت سقف البيت.
هذه الخطوات، يشير الدكتور تيال، يمكن أن تساعد الأمّ على تنظيم أوقات أبنائها، وفقا للجدول الزمني الدراسي لكل واحد منهم، خاصة إذا كانوا أكثر من اثنين، علما بأن تزامن الحصص الدراسية في نفس التوقيت يخلق إشكالات جمّة، لا على مستوى توفير مستلزمات الدراسة عن بعد أو على مستوى التتبع، وهنا تجب الاستعانة بالآباء، يضيف الخبير، وإن كان هناك إكراه العمل، الذي قد يكون مباشرا أو غير مباشر، من أجل تقسيم المهام، والعمل على توضيح المعطيات الدراسية وشرحها للأبناء، ومساعدتهم على فهمها من أجل الاستيعاب، مع اطلاعهم بالموازاة مع ذلك، على الوضع الصحي الذي يعيشه المغرب والذي أدى إلى اتخاذ هذه الخطوة المتمثلة في التعليم عن بعد والعمل كذلك، وغيرهما من الإجراءات الاحترازية التي تم اتخاذها، حتى يستوعب الأبناء دقة اللحظة وحساسيتها، على أن يكونوا على وعي بأن هذا الوضع هو مؤقت وبأن الحياة ستعود إلى طبيعتها لاحقا.
وشدّد الدكتور تيال، على أنه متى كان الأبناء على وعي وفهم بنا يحيط بهم، أمكن لهم تفادي الضغط وعدم السقوط في المناوشات والمشاحنات بين بعضهم البعض، وتفادي أن يرخي هذا الوضع بهذه الحمولة السلبية على الأسرة برمّتها، فيضاعف مشاكل الأمّ في الحياة اليومية في علاقتها بأسرتها، مبرزا أن الدراسة عن بعد تعتبر منهجية جديدة للتدريس، في هذه المرحلة التي هي ليست مرحلة عطلة، وإنما تم اعتماد هذه الطريقة لمواصلة التعليم، وبالتالي يجب أن يتطبعوا على خصائص هذا المنهج، حتى يتم تنظيم الوقت لاحقا، ويجب مرافقتهم وتنظيم برنامجهم بإشراكهم لكي يحسوا بأن هذا البرنامج نابع من قرارهم، مؤكدا على أن الجدول اليومي يجب أن يحتكم لقاعدة أساسية وهي عدم الصرامة بشكل قوي، لأنه تجب مراعاة الضغط المقابل، الذي قد يجد الإبن نفسه في خضمه، وفسح المجال نوعا ما لأوقات الراحة واعتماد وسائل الترفيه التي تغري الأطفال والقاصرين، وأن نلاعبهم ونلاطفهم، وأن يتم فتح باب الإبداع أمامهم، حتى يتم تفريغ كل شحنة سلبية بشكل إيجابي.
وإلى جانب ما سبق، أوضح الدكتور تيال، أنه يجب كذلك مطالبة الأبناء الكبار بمساعدة الصغار، لكي يكون هناك عمل جماعي ودينامية إيجابية مبنية على التعاون وتكاثف الجهود، لكي يساهم كل من موقعه في تقديم الدعم لغيره من باقي أفراد الأسرة، مؤكدا على أن الضغط في مثل هذه الظرفية الدقيقة، يكون عصيبا على الأمّ، ويؤدي إلى تبعات صحية وخيمة، خاصة على المستوى النفسي، لافتا الانتباه إلى أن هذه الوضعية قد تؤدي إلى وقوع نقاشات حادة واختلاف بين الوالدين، وهو ما يجب الحذر منه وحماية الأبناء من تداعيات هذا الوضع، الذي قد يقع في أية لحظة، وأن يتم التأكيد على إيجابية التجربة التي نعيشها اليوم، والتواصل ولو عن بعد مع الأقارب والأصدقاء، وأن يعيش الجميع تفاصيل إنسانية ويتم استحضار أهمية المساعدة والتضامن والتآزر، وكل ما هو إيجابي يطبع هذه المرحلة.
وشدّد الخبير في الصحة النفسية والعقلية، على أنه يمكن للأمّ أن يتعذر عليها القيام بهذه التدابير داخل المنزل لمساعدة الأبناء، وألا تتوفق في ترتيب هذه الأولويات، ولا تتمكن من مسايرة هذا الإيقاع وما يولّده من ضغط عليها، الذي يتحول إلى ما يشبه العدوان الذاتي الذي تعيش فصوله، علما بأنه يمكن لها أن تقاومه، هذه المقاومة التي تختلف على حساب الإمكانيات المختلفة من شخص لآخر، ففي الوقت الذي قد يتغلب البعض على هذه التبعات النفسية دون أن تؤثر فيه وعليه، فإن هناك من لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع التعامل مع محيطه والتكيف مع الضغوطات التي من حوله.
ضغوطات يؤكد الدكتور تيال، أنها تظهر على الأم على شكل أعراض، تبين أن توازنها النفسي ليس على ما يرام، فتعيش صراعا نفسيا، وعدم الراحة، إضافة إلى الخوف وتشنج الذات برمتها، وارتفاع منسوب القلق، بحيث تضخم كل ما يقع، وتنظر إلى كل خبر جديد بنظرة سلبية، وتتوقع ألا يكون إيجابيا، وبالتالي تصبح تفاصيل حياتها كلها سلبية، وهذا يؤثر على علاقتها مع أبنائها وزوجها، ويتطور الأمر إلى ظهور أعراض نفسية جسدية، من قبيل مشاكل النوم، ومشاكل على مستوى المسلك البولي، والعادة الشهرية، وكذا الحياة الحميمية كذلك، إلى جانب الإحساس بالآلام في الجسم برمته، في الجهاز الهضمي، في الجهاز التنفسي، مع ارتفاع نبضات القلب، وانتفاخ البطن، وغيرها من المتغيرات المختلفة الأخرى، وأمام هذا الوضع يمكن للأم أن تتعرض للانهيار العصبي، ويتبدد جهدها العضوي والنفسي، ويصبح كل ما هو حولها بدون نفس إيجابي، فتطغى الأفكار السلبية عليها، وتصبح في حاجة إلى العلاج.
واختتم الدكتور محمد هاشم تيال، تصريحه لـ «الاتحاد الاشتراكي»، بالتأكيد على أنه يجب تفادي الوصول إلى هذه المرحلة، وذلك بالبحث عن حلول شخصية أو بالتواصل مع مختصين نفسانيين، والحرص على الاسترخاء وممارسة الرياضة، والارتباط بكل السبل التي تقلص من الضغط النفسي، حتى يتم إضفاء الأجواء الإيجابية على الحياة الأسرية، في ظل هذا الحجر الصحي، لتحويل ضغطها إلى شحنة إيجابية جماعية.

 

******************

الطوارئ الصحية أخلت الشوارع وغيّرت وجهة التنقلات إلى داخل المنازل

استعمال المطهرات والإرهاق البدني أثرا في ربات البيوت وتسببا في أعراض صحية عضوية

 

الدكتورة منى السمامي (*)

(*) طبيبة طب عام بالقطاع الخاص

o هل غيّر الحجر الصحي من العادات اليومية للأسر المغربية؟
n قد يبدو للكثير من الأشخاص أن وباء كورونا المستجد، ألزم الصغار والكبار بيوتهم، وأضفى نوعا من السكينة على حركة المدن وضوضاءها، وأعفى التلاميذ والآباء من التنقل والمضي يوميا إلى مدارسهم و عملهم، لكن الحقيقة أن الحركة انتقلت إلى البيوت، وصغرت رقعة التنقلات داخل منزل، قد يتسع لذلك عند بعض العائلات وقد يكون ضيقا عند الكثيرين.
إضافة إلى ذلك، فإن الالتزامات لم تتغير، لأن التلاميذ ظلوا ملزمين بالتمدرس عن بعد، بل ويحتاجون تأطيرا من أوليائهم، مع توفير معدات إلكترونية لذلك، علما بأن أغلب الآباء والأمهات استمروا في العمل عن بعد télétravail ، وبعضهم لا يزال يتنقل بصعوبة إلى عمله وهو في رهبة شديدة من نقل الوباء من محل عمله إلى عائلته.

o هل كان لذلك أية تداعيات على الأمهات؟
n بالفعل، فهذا التخوف من الوباء أصبح هاجسا عند ربات البيوت، اللواتي لا تهدأ لهن حركة طول اليوم، بين غسل وتعقيم لكل من وما يدخل منازلهن، خصوصا بعد كل تسوق، بل إن اضطرار المشتغلات منهن للتخلي عن مساعداتهن في هاته الظروف للحد من العدوى، أدى إلى بذل مجهود أكثر مما اعتدن عليه، مما ينتج عنه إرهاق جسدي ونفسي، يضطرهن لأخذ مكملات غذائية و فيتامينات، وفي بعض الأحيان يتسبب في أعراض مرضية لها علاقة بالقلق plaintes psychosomatiques كآلام في الرأس وشقيقة، والسرعة في دقات القلب، والآلام في المعدة والقولون…. فضلا عن الأعراض النفسية الصرفة.

o ماهي أبرز الملاحظات الصحية التي وقفتم عليها خلال هذه الفترة؟
n لقد لاحظ الأطباء في هاته الآونة الأخيرة ظهور طفوح جلدية واكزيما عند الأمهات من فرط استعمال مواد التنظيف والمعقمات، وتفاقم الألم في المفاصل، خصوصا عند السيدات اللواتي كن يشتكين من قبل من نوع من أنواع الروماتيزم، أو احتكاك المفاصل Arthrose أو sciatique، من طول مدة وقوفهن في المطبخ لإعداد الطعام، وغسل الأواني، وحتى تحضير الخبز اضطرارا لعدم الخروج أو نظرا لإغلاق المخابز في بعض المناطق، أو بسبب تكرار عمليات تنظيف المنزل عند كل حركة دخول، أو لكثرة حركة الأطفال الذين حرموا من اللعب في الفضاءات الخارجية.
كما سجلت حالات تدهور لمصابات بأمراض مزمنة كالسكري، وضغط الدم، وأمراض القلب، التي تفاقمت جراء الضغط النفسي أثناء الحجر الصحي، بسبب التزامات عائلية ومهنية وكذا مادية، ونوبات القلق المستمر الذي يسببه التخوف من وباء كوفيد 19 ، خاصة أن هاته الفئة هي الأكثر هشاشة عند الإصابة به، أو لخرق للحمية وتناول للطعام العائلي رغم عدم مناسبته لحالتهن الصحية.

o ما هي أبرز الاستشارات الصحية التي سٌجّلت خلال هذه الفترة؟
n لقد تم تسجيل نسبة كبيرة من الاستشارات الطبية التي تتعلق بصعوبة التنفس عبر الأنف والصدر، وآلام في الحنجرة، تعزى لحساسية الجهاز التنفسي إثر استعمال غير مقنن للمواد المنظفة، وخلط بعضها ببعض، مما ينتج عنه تركيب كيميائي ليس بالهيّن ومواد خطيرة، أو بسبب حساسية موسمية أو ربو، خصوصا أننا في فصل الربيع، وبعض المرضى انشغلوا بالوباء ولم يلتفتوا لضرورة استعمال أدويتهم المضادة للحساسية وللربو، بل إن أغلبهم أحس بأن هاته الأعراض هي أكثر حدّة هذه السنة، وهو الأمر الذي يرجع للتوجس من داء الكورونا، التي تتشابه أعراضه بالحساسية الموسمية أو الربو في بعض الحالات، كما لوحظ أن عددا من هاته الأعراض كانت نتيجة لاستنشاق أعشاب مباشرة عبر الأنف أو لاستعمالها كمعقم للجو.

o خلال هذه الجائحة الوبائية، هل واصلت المصابات بأمراض مزمنة اهتمامهن بوضعهم الصحي؟
n لقد لوحظ انشغال الفئات الهشة، من نساء حوامل ومسنّات بوضعهن الصحي رغم التزامهن بالحجر الصحي لعدة أسابيع، مع اتخاذ التدابير الاحترازية وعدم ظهور أعراض مقلقة، و عبرن عن رغبتهن في الفحص وإجراء التحاليل للتأكد من سلامتهن من وباء الكورونا الفتاك، رغم أن خروجهن من منازلهن وتنقلهن للعيادات يشكل خطرا على صحتهن، تخوفا من العدوى التي قد يجلبها لهم أحد أفراد العائلة ممن يضطرون للخروج للعمل أو التبضع، وكانت تتابع حالاتهن عبر الهاتف ولا يسمح بولوجهن للعيادات إلا في الحالات التي تقتضي ذلك، ونفس الأمر بالنسبة للأطفال الذين لم يسمح لهم أيضا بزيارة العيادات إلا للتلقيح أو لأسباب مرضية تستوجب ذلك، وتبين كيف أن الأعراض النفسية من آثار الحجر الصحي والضغط النفسي كانت واضحة على الأغلبية.

o كلمة أخيرة؟
n إن حالة الطوارئ الصحية التي تمر بها بلادنا وما تستدعيه من تدابير احترازية وحجر صحي، سواء طيلة الشهر الماضي أو بعد تمديده، قد أخلّ بالعادات والنظام اليومي للأسر وبالتوازن النفسي والصحي للكثيرين، لكننا نتمنى أن يكون فرصة للتقارب العائلي رغم البعد الجسدي الذي يوصى به، وأن تكون الجهود التي يبذلها كل فرد مثمرة لحمايته وحماية أسرته من هذا الوباء، وأن يعي كل شخص أن أولويات الحياة قد تتلخص في دفء عائلي وصحة جيدة.

 

 

 


الكاتب : حاورهما : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 25/04/2020