الإبستمولوجية الجابرية 2/1

 

ما عاد أحد من المهتمين بخريطة الفكر العربي – الإسلامي المعاصر يجهل المشروع الفكري(النهضوي التنويري)، الذي خلفه الراحل المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري(1936-2010م) تغمده الله بواسع رحمته، بعد التنظير له بشكل عقلاني؛ فهو مشروع قائم بكل تجلياته على نقد العقل العربي، ويستدعي استيعاب مرتكزاته، وأبعاده ورهاناته في تصورنا الأخذ بعين الاعتبار، تلك التوجهات الفكرية العامة التي ألزم بها هذا المفكر نفسه، لممارسة ما يسمى بالنقد الإبستمولوجي للثقافة العربية-الإسلامية.
ليس في مقدورنا بعد هذا كله تجاوز التوجهات الفكرية التي توخى الجابري اتباعها لإنجاز مشروعه، أو صرف النظر عنها لا لأنها تدخل في صميم اختياراته و طموحاته فحسب، بل لأن طبيعة مجال اشتغاله تقتضي ذلك، فمشروعه كما لا يخفى علينا لم يأت دون سند علمي أو فكري، وإنما جاء نتيجة التفكير والتأمل، وهذا ما قاده عموما إلى طرح تساؤلات وإشكالات بعد إعادة النظر في جملة من المسائل الأساسية والفرعية، ليس من أجل الوقوف عندها، ودراستها بالشكل المطلوب فقط، بل سعيا لصياغة بدائل وطرائق، تجعل مشروعه ينال اهتمام المشتغلين بقضايا الفكر العربي – الإسلامي المعاصر، و بحكم اهتمامنا بشؤون هذا المجال الفكري – إذا جاز لنا ذلك – فقد ارتأينا تناول القضية التي أشرنا إليها في العنوان «الإبستمولوجية الجابرية».
تفاديا لسوء فهم ما يراه مناسبا لمنهجه، فقد حدد في أكثر من مرة معنى النقد الإبستمولوجي، وموقعه في مشروعه؛ ولرفع الالتباس عن ذلك أكد أن النقد غير التفسير، فهذا الأخير ببساطة يعرقل المنهج النقدي بالمعنى الإبيستمولوجي الصرف؛ لأن عملية التفسير أي ربط الفكر بالواقع بصورة ما، قد تعفي الباحث عن فحص مكونات هذا الفكر، ومن تحليل أدواته ومن التعامل معه،إذ المفسر لوضعية معينة اجتماعية أو فكرية إما أن يطلب الفهم والتوضيح، وإما أن يطلب التغيير التاريخي والاجتماعي.
بيد أن النقد الإبستمولوجي كما ينظر الجابري يطلب التغيير كهدف، ولكن لا تغيير المجتمع الذي يعكسه الفكر بل تغيير الفكر أولا، لتغيير المجتمع في نهاية المطاف، بعد إدراك مكوناته الأساسية، وثوابته ومتغيراته.
النقد الإبيستمولوجي في تقدير الجابري يستهدف نقد السلاح «نقد العقل العربي» الذي سيمارس النقد الإيديولوجي المطلوب، بغية الوصول إلى مرحلة التغيير الاجتماعي، وبالتالي فإن «استعمال سلاح النقد يتطلب في فترات معينة البدء بنقد السلاح».
إذن فنقد السلاح»شرط لاستعمال سلاح النقد»، وإذا كانت الإبستمولوجيا تتعلق بالمعرفة العلمية بمعناها المعاصر، فهذا لا يعني أن المعرفة العلمية محصورة في العلوم الطبيعية والرياضية أو نحوها، بل إن كل معرفة حسب الجابري يمكن أن تتصف بهذا الوصف العلمي، فهي ببساطة تعد بمثابة علم، ويمكن أن تكون موضوع توظيف إبستمولوجي، لما تغدو ميدانا لإنتاج وصناعة مفاهيم ورؤى جديدة، قد لا تتوفر في العلوم الحقة التي هي موضوع الدرس الإبيستمولوجي الذي يهتم بتناول الإبستيمولوجيا وجعلها علما؛ وهذا ما سعى الجابري إلى تحقيقه في مشروعه الضخم.
حسبنا أن نشير هنا إلى أن الجابري ذكر الحقائق السالفة الذكر قبل أن يبين لنا فحوى إبستمولوجيته، وموقفه من الإبستمولوجيا عموما، حتى لا يبتعد الدارس عن منهجه الذي استند إليه في مشروعه النقدي، وهذا ما أكده بقوله « الإبستمولوجيا كعلم ليست شغلي الآن، أما مكتسبات هذا الدرس ومنجزاته فإني أحاول، كما يحاول صاحب العلوم الإنسانية، أن أوظفها في موضوعي، ولكن لا توظيفا قسريا ولا توظيفا توجهه «موضة» بل … توظيفا إجرائيا «براغماتيا»، ولكن دون أن يكون براغماتيا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة…»
لذا نجد أن الجابري يقوم بتوظيف بعض المفاهيم الرياضية والفيزيائية والسوسيولوجية والسيكولوجية في مشروعه، ولكن دون التقيد بجميع المؤطرات التي كانت وراءها، لأن طبيعة الموضوع هي التي تحدد كيفية التوظيف، أما السقوط تحت إغراء المفاهيم الجاهزة، وإقحامها بأي شكل من الأشكال، فهذا يخالف توجهاته. وإذا كانت طبيعة البحث العلمي تقتضي استعمال أدوات البحث(المفاهيم)، فإنه من المستحيل اختراعها، من هنا كان لابد من الاعتماد على أدوات البحث، منها ما يستعار من علوم أخرى، ومنها ما ينشأ بالممارسة.
بإمكاننا أن نؤكد بأن الجابري بحكم امتلاكه لآليات التحليل، وتمكنه منها فقد نجح في صياغة أدوات تنسجم مع المواضيع التي يتناولها، وهذا ما يصبو إليه، ولو لم تجد هاته الأدوات معناها في الإبستمولوجيا كما هي معروفة في الدرس الإبيستمولوجي. لكن كيف يوظف الجابري المفاهيم والكلمات والنظريات التي تنتمي إلى الإثنوغرافيا أوالسيكولوجيا أو السوسيولوجيا…أو أي علم من العلوم؟
جوابا عن هذا السؤال دعا الجابري إلى ضرورة توظيف هذه المعطيات لا كعلوم، بل ينبغي أن نوظفها على شكل ما تبقى في ذهننا من خلال معرفتنا لها، وبشكل عفوي، وبكيفية مبدعة، بعدما تتحول إلى ملك لنا، وهذا ما عبر عنه بقوله»أنا لا أنزعج لشيء أكثر من انزعاجي من اللحظة التي أجد نفسي فيها استعمل مفهوما في ميداني بنفس المعنى الذي استعمله فيه صاحبه في ميدان آخر. حينئذ أحس أنني أشرب وآكل بملعقة ليست لي، ليست هي الملعقة التي لا تلائم عاداتي في الأكل والشرب»، والعكس صحيح لما يؤدي ذلك إلى الإخلاص للموضوع.
إنها إبستمولوجية الجابري الخالصة؛ فهي من إبداعه الخاص يسير فيها كيف يشاء دون عناء، بعدما خلص إلى أننا اليوم بحاجة ماسة إلى تأسيس انطلاقة فكرية عربية-إسلامية جديدة على أساس من النقد المنهجي للفكر، وأدواته لتحقيق النهضة.
فالنهضة الأوربية لم تشيد معالمها، ولم تعرف نقلتها النوعية إلا بعد ممارسة النقد، فقد كانت بدايتها نقدية جديدة مع جاليلو وديكارت، ثم بعد ذلك استمر النقد ونقد النقد ملازمين لمسار نهضتها، لذلك فإن تأسيس بداية جديدة كما يزعم الجابري تستدعي منا الانطلاق من نقد القديم؛ أي الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني، أو بعبارة أوضح ما «يبقى في فكر الإنسان بعد أن ينسى كل شيء».
هذا ما صرح به الجابري في كتابه «نحن والتراث»؛ حيث أكد أن الغاية من ممارسته للنقد الإبستمولوجي في دراساته لنصوص التراث العربي-الإسلامي هي جعل هذا التراث معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية، والمحتوى المعرفي، والمضمون الأيديولوجي من جهة، ومن جهة أخرى جعله معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية.
أي محاولة إضفاء المعقولية على المقروء من طرف القارئ، وبالتالي نقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ، وهذا ما يسمح بتوظيفه من طرف هذا الأخير في إغناء ذاته، أو حتى في إعادة بنائها.
لنعد قليلا إلى الوراء لنؤكد أن الجابري استند لتأسيس مشروعه الضخم على المنهج الإبيستمولوجي، إلا أن حضوره لم يكن واضحا بالشكل الذي أراده البعض، فلم يكن توظيفه كليا بل كان محدودا، ويمكن اختزاله كما يعتقد البعض في توظيف بعض المفاهيم التي اقتبسها عن كانط وفرويد وبياجيه وألتوسيرودريدا وفوكو وباشلار ولالاند…
الجابري وظف ما يسمى «بالتحليل التكويني»، أو»الإبستمولوجيا التكوينية» في كتابه «تكوين العقل العربي»، وتعود أصولها إلى عالم النفس السويسري جان بياجي، وتقوم على دراسة الذكاء، والقدرات العقلية للطفل، ومن خلالها اقتبس مفهوم «اللاشعور المعرفي»، ووظفه في منهجه لنقد العقل العربي، كما استعمل مفهوم «القطيعة الإبستمولوجية» الذي اعتمد عليه ألتوسير في قراءته للمنظومة الفكرية لماركس، رغم أن هذا الأخير استعاره كما هو معلوم من غاستون باشلار.
أما تقسيم الجابري للنظم المعرفية للعقل العربي إلى ثلاثة: البيان والبرهان والعرفان فأصلها يعود كما يرى بعض الباحثين إلى العالم الصوفي القشيري. هذا وقد استند أيضا في دراسته لتكوين العقل العربي على نظرية الفيلسوف الفرنسي لالاند التي تفصل بين العقل المكوّن أو الفاعل والعقل المكوًّن أو السائد،ويراد بالأول العقل المتغير ولو في حدود،كما يوجد في حقبة زمنية معينة. أما الثاني فيقصد به نشاط فكر الفرد الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ.
هذه الأمور كلها لا يخفيها الجابري، فهي جزء من مكونات منهجه الذي لا يخفى على أحد من الدارسين لفكره، وعليه فإننا نجده يركز في معظم كتاباته على مقدمات تعد بمثابة مدخل لمعرفة ما يصبو إلى تحقيقه، لذا لا يمكن الاستغناء عنها، ومن ثم فإن القارئ سيغرق في عالم النقد ونقد النقد ونقد نقد النقد… -السلبي في معظم الحالات- ، وسيصاب بالحيرة تارة، والتيه بشتى أشكاله تارة أخرى في حالة عدم قراءته لها، أو عدم استيعابه لمحتوياتها، وهذا ينطبق صراحة على معظم المؤلفات، إلا أن هذا الأمر يبقى خاصا ببعض الكتابات التي يغلب عليها طابع الإبداع والاجتهاد والتجديد، والحق أن جل كتابات الجابري تدخل في هذا المضمار، وهذه في الحقيقة كما هو ثابت، سمة من سمات المفكرين والمجتهدين والمجددين والمبدعين على مر التاريخ، والجابري واحد من هؤلاء رغم القيل والقال عنه، فهو رجل من رجالات الفكر المعاصر، والذي سيبقى اسمه محفورا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر.
غرق البعض في تقديم انتقادات لمنهج الجابري القائم على توظيف بعض المفاهيم التي تنتمي إلى فلسفات، أو منهجيات، أو قراءات مختلفة – كما أشرنا إلى ذلك- ناسيا أن الجابري نفسه لمح إلى هذه القضية بشكل واضح في مقدمة كتابه «الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية»، بقوله»إننا لا نتقيد بتوظيفنا لتلك المفاهيم بنفس الحدود والقيود التي تؤطرها في إطارها المرجعي الأصلي، بل كثيرا ما نتعامل معها بحرية واسعة» وبصريح العبارة قال» لا كانت ولا فرويد ولا باشلار ولافوكو ولا ماركس ولادريدا، ولاغير هؤلاء كان بالنسبة لنا مثالا يحتذى دون غيره، لقد تركنا المادة التي تعاملنا معها تشاركنا الاختيار…لقد كنا حرصين على احترام موضوعنا فلم نترك أية سلطة مرجعية تمارس هيمنتها عليه «.
هذا ما خلص إليه سالم يفوت حينما أكد أنه رغم التشابه الواقع بين منهج المفكر الفرنسي فوكو ومنهج الجابري، فإن هذا الأخير لا يقتفي أثر الأول، «ذلك أن ثمة خصوصيات، ينبغي أخذها بعين الاعتبار لدى تناول تحليل الثقافة العربية والعقل العربي». فالجابري يرى أن ما سماه فوكو « الحفريات» أو «الأركيولوجيا» هو أسلوب مرتبط بالمجال الإبيستمولوجي، يحدد كيفية التعامل مع غير الرياضيات والفيزياء، أي كيفية التعامل مع بعض القطاعات المعرفية الهامشية بالنسبة إلى هذه العلوم المكتملة.
هذا ما دفع الجابري يتساءل هل نحرم أنفسنا من الاستفادة من منجزات العلوم الأخرى، وفي مقدمتها منجزات الإبيستمولوجيا في دراسة قطاع المعارف التي لا تدخل في إطار العلم الرسمي، سيما وأن التراث كله من هذا القبيل؟
لا يحتاج هذا السؤال في الحقيقة إلى جواب ما دام الجواب عنه يتمثل في المشروع النقدي الذي أنجزه الجابري رحمه الله، وهذا هو خير جواب يمكن أن نقدمه في نظرنا على سؤاله .
لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن الإبستمولوجية الجابرية لا تحتاج إلى نقد، أو لا يحق لأحد أن يمارس النقد عليها، والحق أن مشروعا مثل مشروع الجابري لا يمكن أن يخلو من النقد لسببين: أولاهما لكونه يتناول أهم قضايا التراث العربي الإسلامي بمختلف اتجاهاته، وهذا ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى تعدد المواقف وتباينها، ولا يمكن وضع حدود لهذا الأمر، مادام الناظر في قضايا التراث يملك الحق في إبداء رأيه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك كما هو ثابت إلا بعد التسلح بالأدلة والمنهج المتبع في دراساته.
ثانيا: إن إبستمولوجية الجابري(كمنهج) لا تترك النقد ينفذ في إطار الغوص في قضايا التراث، كما أن مجهوداته كما هو واضح جليا لن تترك النقد يبتعد عنها، أو يهدأ وهو قريب منها، بحكم تعدد المقاربات المنهجية الأخرى، والمتعلقة أساسا بتعدد القراءات في التعامل مع التراث العربي- الإسلامي؛ كالقراءة التراثية كما عند خريجي الجوامع الإسلامية، والقراءة الاستشراقية كما عند المستشرقين، والقراءة التفكيكية كما عند عبد الكبير الخطيبي وعبد الله الغدامي، و القراءة التاريخانية كما عند عبد الله العروي، والقراءة التأويلية كما عند نصر حامد أبو زيد.. وهذا ما سيؤدي في الغالب إلى استمرار الاحتدام بين تيارات الفكر العربي – الإسلامي بمختلف توجهاتها. فكم من انتقادات، وجهت لمشروع الجابري بعد توجيه أصابع الاتهام إلى منهجه الذي شكل زوبعة في فكر بعض نقاده( سواء المعترفين بمشروعه أو غير المعترفين).
أيا كان الأمر فإن الجابري ينظر إلى أن الدراسات الإبستمولوجية هي دراسات نقدية، كما أن الفكر الإبستمولوجي هو فكر نقدي يقوم على نقد العلم، للكشف عن خطوات وآليات الفكر العملي، وبهذا المعنى تكون الإبستمولوجيا هي مراقبة الفكر العلمي لنفسه باستمرار، ومن ثم فإن الدراسات الإبيستمولوجية تمكننا من الروح النقدية (العقلانية)، البعيدة عن الجانب الإيديولوجي ما أمكن؛ وإن كان من الصعب تصور ذلك عمليا في كل الأحوال.
لا يمكن للجابري أن يقوم بجميع الدراسات الإبيستمولوجية، لذلك أكد غير ما مرة أن مشروعه ليس سوى جزء من مشروع يجب أن يعمل كل المثقفين في العالم العربي الإسلامي من أجل إنجازه، فعمله يقتصر كما تبين على بعض قطاعات الثقافة العربية العالمة،( العلوم العربية الإسلامية، الفلسفة..)؛ فهناك قطاعات أخرى يجب أن يتناولها التحليل النقدي مثل قطاعات الفكر التاريخي و الأدب والثقافة الشعبية، حتى نتمكن جميعا من تحقيق حداثتنا، لأن طريق الحداثة يجب أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها، وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل.
بهذا الاعتبار فإن الحداثة حداثة المنهج وحداثة الرؤية والهدف،ومن هنا يحق لنا أن نتحدث عن حداثة عربية –إسلامية لأن الحداثة حداثات بحكم غياب حداثة مطلقة، كلية وعالمية، فالحداثة ككل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها، محدودة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور.
لا يمكن تحقيق حداثتنا وفق ماذهب إليه الجابري بغض النظر عن العقلانية و الديمقراطية، لذلك يتساءل قائلا:هل يمكن تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية؟ وهل يمكن تحقيق نهضة بدون عقل ناهض؟ بطبيعة الحال فإنه يستحيل تصور حداثتنا بدون مرتكزات العقل والعقلانية، فهذه الأخيرة تعد على حد تعبيره «مصباحا يوقده الإنسان ليس وسط الظلام وحسب، بل قد يضطر إلى التجوال به في واضحة النهار».
في هذا السياق فإنه يدعو إلى التعامل العقلاني النقدي مع جميع مظاهر حياتنا، والتراث من أشدها حضورا ورسوخا، وبالتالي فإن الحاجة إلى الاشتغال بالتراث تمليها الحاجة إلى تحديث كيفية تعاملنا معه خدمة للحداثة، وتأصيلا لها لتحقيق النهضة.
هذا لا يعني أن التراث العربي – وفقا لما سبق التأكيد عليه – سيحل مشاكل مستقبلنا كما يعتقد البعض، بل إن بناء ثقافة نستطيع بها مواجهة مشاكل المستقبل لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الارتكاز على إعادة بناء التراث، ومن ثم إعادة بناء الفكر العربي-الإسلامي بالصورة التي تمكنه من النظر إلى الحاضر والمستقبل، بعين غير مسجونة في الماضي، ولا مغتربة خارج مكان وزمان العالم العربي-الإسلامي.
لكي نصل إلى مرحلة المطابقة بين الفكر والواقع، وتجاوز مرحلة الانفصام التي تجعل ذات الفرد دوما خارج ذاته، وذلك إما بجعلها متحققة في التراث العربي- الإسلامي الذي يشكل بالنسبة إليها إيديولوجية الحاضر والمستقبل، وإما بجعلها متحققة في فكر الغير الذي يتخذ منه إيديولوجيا لحاضره ومستقبله.
هذا يتنافى بكل صراحة مع مبادئ العقلانية التي تعكس مطابقة الفكر للواقع مطابقة علمية تقوم على الترابط السببي، أو تطمح إلى تحقيق هذا النوع من المطابقة. فالفكر الذي لا يطابق واقعه؛ أي لا يفهمه فهما سببيا، لا يمكن أن يكون عقلانيا على حد تعبير الجابري، وهذا ما يجعلنا بالضرورة نراهن على العقلانية لبناء مستقبل يجد فيه الفكر العربي-الإسلامي المعاصر عموما ما دعا إليه في خططه المستقبلية المنبثقة من واقعه، لتشييد معالم الحداثة والنهضة النابعة من عالم الفكر، وتحركاته المتعددة التي لا تتوقف بحكم قوة درجة غليانها، ولا تجعل الظلام يسطو عليها، لأن قسطا كبيرا منها تسطع عليه في كل حين أشعة ذات بريق الإبستمولوجية الجابرية.

*باحث في شؤون
الفكر العربي والإسلامي


الكاتب : عزيز بعزي*

  

بتاريخ : 22/05/2020