الشعر والمعرفة : قراءة في«الأرض الأخيرة لعشاق الترامواي» لحسن بحراوي

على هذه الأرض الأخيرة لعشاق الترامواي تتفاعل القصيدة باعتبارها مجموعة شعرية في كليّتها نتيجة تحولات سوسيو- ثقافية، تتمظهر من خلال صور شعرية تتنوع بتنوع الدلالة واللغة والرمزية وقوّة الكلمة باعتبار أن القصيدة ليست سوى إلا سلسلة لا متناهية من الإحالات وفق سياق ما. فبقدر ما نعرف قليله نحاول من خلال هذه الورقة مقاربة ما لا تبصره الأذن من خلال عوالم القصيدة، وفق نسق مركب: فضائي/زماني وذهني عميق يرتكز على الذاكرة والقوّة التخييلية، هذه الفضاءات والأزمنة والذاكرة تختلف من قصيدة إلى أخرى في تناغم عمودي، هذا التنوع يمكننا التمثيل له كالآتي:
-جغرافية الفضاءات، المدينة وشوارعها، الحدائق العجيبة، البار، حانة بيتري، ساحة الشهداء، صومعة حسان، المقهى، درب الفقراء، الصحراء .. وهي أماكن تلعب دور الوسيط في نقل المعرفة،
-الذاكرة، شخصيات تاريخية، أدبية، فنية : ( حمو الزياني، محمد زفزاف، دوستويفسكي، إدريس الخوري، ماياكوفسكي، بازوليني،بيرطولوشي، يوسف فاضل). الموحدون، تراتيل إنجيلية (المسيح)…
هذا النسق الشعري في ديناميته وتفاعله وفق مسافة ثقافية تمتد إلى أربعة عقود من الممارسة، يطرح سؤال العودة إلى الإبداع الشعري بألمه وأمله واللذة الأبدية في المقام الأول، مشروطا بقانون التحدي:
( أيها الأبله الأبدي
لماذا عدت إلى الشعر
مثلما يعود المجرم إلى
موقع الجريمة؟ ) الديوان، صفحة،7.
إن اللعب باللغة والبناء والزمنية، باعتبار أن اللعب فنٌّ والإنسان من يصنعه ويمتلكه وحده، ((هذه الزمنية هي أيضا ملك للإنسان وحده، هو من يجدد مضمونها وإيقاعها في جميع الاتجاهات، ما مضى وما سيأتي وما بينهما)) (1)
إن سؤال العودة باعتباره خطابا له مقصدية، يندرج ضمن ماضي مُحاطٍ بالغبار لتشييد فعل تواصلي من خلال الكتابة الشعرية، فكذلك القراءة تطرح سؤال الراهنية لتشييد معنى ما ضمن مجموعة معاني لا حصر لها تندرج ضمن سيرورة التأويل، فعملية القراءة كما آتى بها الباحث تودوروف باعتبارها بناءً، فكذلك هي عملية التأويل تتطلب قراءات تلو الأخرى –لا يتسع لنا الوقت للدفع بها في اتجاه عمودية القصيدة- أو ما يمكن أن نصطلح عليه بإعادة القراءة Re-lecture، وهي عملية إعادة إنتاج من جديد في صيغة مُبسطة. على اعتبار أنّ التلفظ الشعري الأول مهدت له شروط ثقافية قبل أربعين عاما، من خلال حالة التذوق القرائي. في حين أن التلفظ الثاني أو ما يمكن أن نَسِمه بإعادة التلفظ ré-énonciation، هذه العملية تعيد طرح أسئلة قوية تتجاوز سؤال لماذا عُدتَ مقرونا بنداء القُرب أيها وقرينة القول الساخر verbale ironie المشروطة بالتطهير، الأبله؟
يبدو أن عملية إعادة التلفظ الشعري هي الصيغة الأفضل لإزالة الصدأ والعثور على الخطأ وتثبيته بصيغ تعبيرية حداثية ترتكز على القوة الحركية للفعل:
(يملأ، أريد، تتيه، أرغب، أفاجأ، يلتهم، أحني، فأعثر)
( أريد أن أهديها وردة
فتتيه منّي الحديقة
أرغب في استرجاع الذكريات
التي جمعتني بها
ذات غرام طفولي
فأفاجأ بالصدأ يلتهم حنجرتي
أحني رأسي للعاصفة
فأعثر على الخطأ
(…)
هو هذا بالذات
الطريق إلى غموض القصيدة) الديوان، ص،110.
هذا الغموض الموغل في اللغز والحلم والرمز لتشييد الإثارة الذهنية والذوقية، إنه ( لعب بالبنية) (2) بتعبير رولان بارث.
هذا البناء الشعري تشيده اللغة كأداة حيث إنّ: (الأشياء والأفكار والمبادئ تخرج بواسطة اللغة من عالم النسيان الخام والمبهم إلى عالم الوجود القيِّم والمعقول) (3)
إن مذاق الشعر والحياة يرتبط ارتباطا وثيقا بمعلومات سابقة ومصاحبة للذات في تحوّلاتها وتغيراتها لتشييد تواصل معرفي.
هذا التواصل نجده يُشيَّدُ وفق مقولات المبالغة والسخريةIronieبتعبيرية قوية، التي تخاطب الفكر وتستنفر طاقة من التأويلات للركض واللهاث وراء المعنى:
(ولكن البحر لا يزال في مكانه
وكذلك الحدائق العجيبة..) الديوان ص،119.
هذه السخرية من اللاحركية نجدها تندرج ضمن قانون التكرار كما جاء به الباحث تودوروف: (داخل كل عمل أدبي يوجد ميل إلى التكرار، سواء تعلق الأمر بالفعل action، الشخصيات personnages، أو بتفاصيل الوصف، إن قانون التكرار يتسع من خلال العمل الأدبي ويتحدد في أشكال عديدة) (4)
(البحر بعيد ولا شأن له بالموضوع
وكذلك الحدائق العجيبة) الديوان، ص،120.
هذه السخرية تنم عن معرفة لفضاءين متناقضين وكذلك عن وعي ناقد مرتبط بهموم وآلام الكادحين الذين يعانون الإقصاء والحرمان داخل المجتمع، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا:
(ولكن النادل الشلحي
وحارس السيارات
متورطان حتى العظم
في شقّ طريق الترامواي) الديوان،ص،120.
هذا الخطاب الساخر يتمفصل إلى التعقيد من جهة ومن جهة أخرى البساطة:
(لا تخرج لسانك
ثمة العديد من المارة
في ناصية الشارع
يترصدونك بالأقاويل
والمقصات) الديوان،ص،21.
فمعلوم أن اللسان عقل المرء. فقصيدة الأرض الأخيرة لعشاق الترامواي، تتمنع مجازيا من خلال القول الساخر وفق الحوار بين الذات –الأرض- والموضوع –عشاق الترامواي-
(صديقي الترامواي
تمهّل قليلا)
(أيها العابر بنعال من فولاذ
أنظر لحظة لهذا البناء الشامخ) الديوان،ص123.
هذه البنية الحوارية التي تقوم على الأمرية (تمهلْ، أُنظرْ) ذات العلاقة القربية–أيها- التي تمثل قلبا للقيم: قطع الأشجار، اللامحبة، شكوى الفضاءات، غربة الكؤوس، تسعى إلى توقف الحركية ليتحقق شرط النظر والعِبرة، إنه حوار يفتقد الشرط الضروري الذي آتى به يوري لوتمان: (وهو الحب، انجذاب المشاركين كل واحد للآخر) (5)
هذا الحوار سنغامر بالقول: إنه يتمظهر في صيغ تكثيفية مركزة جدّا، شاسعة الدلالة، مشبعة بالحلاوة اللغوية والذوق المجازي التخييلي من خلال ميكرو-قصيدة خامّة:
(قالت الكأس الفارغة
للكأس الممتلئة
انتظري لحظة،
سوف يقتلك الكبرياء) الديوان،ص،33.
فالقصيدة يبدو أنها أمسكت بالتصوير الكاريكاتيري الساخر في:
(ساعي البريد جد حزين
بسبب الأنترنيت وأعطاب الدراجة) الديوان، ص،45.
(فالموضوع المسخور منه من وجهة نظر الجاحظ شخص عميت بصيرته عن البديهي الجوهري، (6) وانفتح بصره وشُغِل ذكاؤه بالثانوي الذي لا يبقى له نفع مع غياب الجوهري) فتبخر الحمام الزاجل والراتب والأرض.
إن القصيدة في تفاعلها مع الحياة تشيد خرقا للقاعدة، باعتبار أن (اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية، ففي الشعر كما في الحياة، وأن الشعر وليد أحداث الحياة (…) واللغة إن لم تركض مع الحياة ماتت) (7) (سعادة التمساح وحده يبتسم ببلاهة لعدسات المصورين)، (صديقي الصرصار)، (حديث الببغاء).
ونختم معرفيا من خلال تفاعل القصيدة مع المنجز السنيمائي الإيطالي “شاي في الصحراء” للمخرج الإيطالي بيرنارد بيرطولوتشيوالسفر نحو عوالم شعرية السينما، كما أنه استحضار أيضا لزبدة “التانغو الأخير في باريس”، هذه المعرفة السينمائية تتوالد ثقافيا بحضور باولو بازوليني كرمزية روائية سينمائية وشعرية. روائيا من خلال “الغيمة في البنطلون”.
فالقصيدة هي حديث عن الأرض في علاقتها بالتاريخ وبأبناءهاورمزيتها، هذه الأرض يقول رولان بارث:( هي الأم التي لا تموت أبدا، تأكل الخبز والملح، وتقول الحقيقة) (8)
وجوابنا على سؤال العودة هو انتصار للشعر، انتصار للأرض وللحياة ( إن شعبا بلا شعر هو شعب مهزوم) (9) محمود درويش.


الكاتب : فؤاد بنبشينة

  

بتاريخ : 26/05/2020

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *