عبد الرحمن اليوسفي.. الحقوقي متعدد الجبهات

اشتهر اليوسفي بدوره في الأممية الاشتراكية وفي الدفاع عن حقوق الإنسان مشاركا في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكان كذلك مدافعاً عن المساواة بين الجنسين.
وقد نعته المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في بيان بها، معتبرة أن «مسيرته مثلت رمزا في التناغم المنشود بين النضال من أجل حقوق الإنسان والتشبث بالوطنية».
وأضافت: «تقلد الراحل العديد من المواقع السياسية والحقوقية على الصعيدين الوطني والدولي، وكان واحدا من الآباء المؤسسين للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وفي مقدمة قياداتها عبر انتخابه لموقع نائب رئيس مجلس أمناء المنظمة، وقيادته للجنة التي خاضت الكفاح لحصول المنظمة على الصفة الاستشارية لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة.
وبادر اليوسفي مع جيل من رواد حقوق الإنسان في المغرب في تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والتي أسهمت في إنتاج الرافد الرئيسي لعملية الإصلاح الواسعة التي شهدتها المملكة المغربية في مطلع عهد الملك محمد السادس، وتحت إدارة أول حكومة تناوب على السلطة ترأسها الراحل عبد الرحمان اليوسفي في العام 1999.
وقالت المنظمة: «قادت حكومة اليوسفي، أكبر عملية إصلاحات في تاريخ البلاد منذ الاستقلال، وكانت من أولى الحكومات التي ضمت وزارة مختصة لحقوق الإنسان، وتأسست خلالها هيئة الحقيقة والمصالحة التي نفذت أول مسار عدالة انتقالية مثمر في المنطقة العربية ودعمت روح المصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي في البلاد.
كما تطورت في عهده التشريعات ذات الصلة بحقوق الإنسان، وتم توسيع وتطوير البنية المؤسساتية لحماية حقوق الإنسان، بما في ذلك تطوير استقلال وولاية المجلس الوطني لحقوق الإنسان.»
وقد أقبل اليوسفي، منذ شبابه، على دراسة القانون، فحصل على شهادة جامعية ثم نال درجة «الماستر»، وفي وقت لاحق، أحرز دبلوما من المعهد الدولي لحقوق الإنسان.
وبفضل هذه الدراسات القانونية، انصرف اليوسفي مبكرا إلى العمل السياسي والحقوقي والنقابي، ففي الفترة ما بين 1944 و1949، كان ينشطُ لأجل رص صفوف العمال في مدينة الدار البيضاء، غربي المغرب.
ولم ينحسر نشاط اليوسفي في المغرب بل تعداه إلى الخارج، لأن «سي عبد الرحمن» نشط أيضا لأجل الدفاع عن حقوق العمالة المغربية في فرنسا بين سنتي 1949 و1952.
وعقب نفي السلطان محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر من قبل سلطات الحماية الفرنسية، ساهم اليوسفي في الحركة الوطنية والمقاومة بين سنتي 1953 و1956.
ولم تخل مسيرة اليوسفي السياسية من المتاعب، وبدأت الاعتقالات في سنة 1959، حين جرى إلقاء القبض عليه بتهمة التحريض على العنف والمساس بالأمن الوطني. إذ اعتقل في ديسمبر 1959 مع محمد البصري مدير «التحرير» بتهمة التحريض على العنف والنيل من الأمن الوطني للدولة والأمن العام ثم أفرج عنه، اعتقل في يوليو 1963 مع جميع أعضاء اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتهمة التآمر وصدر عليه حكم بالسجن مدة سنتين مع وقف التنفيذ، وقد عفي عنه عام 1965، كما توجه عبد الرحمن اليوسفي في نوفمبر 1965 إلى باريس للإدلاء بشهادته كطرف مدني في محاكمة مختطفي المهدي بن بركه وبقي منذ ذلك الوقت في فرنسا لمدة 15 سنة مختارا النفي، وتمت محاكمته، وقتها، بشكل غيابي، وطالب المدعي العام بأن يدان بالإعدام، لكن عفوا صدر بحقه في 1980، فعاد إلى البلاد. لكن العودة إلى المغرب لم تضع نهاية للمشاكل مع السلطة، ففي سنة 1993، احتج على ما اعتبرها عيوبا شابت الانتخابات التشريعية واستقال من مهامه السياسية، لكن مساره تواصل بعد ذلك.
وفي مذكراته يستعرض اليوسفي تلك المرحله=ة، أي عند خروجه من المعتقل، التقى بالملك محمد الخامس في ديسمبر، 1959 في جنيف، وكان هذا آخر لقاء، حيث توفي الملك بعد ذلك كما يذكر اليوسفي في 26 فبراير 1961 وتولى الأمير الحسن الذي أصبح الملك الحسن الثاني مقاليد العرش في مارس 1961.
ويذكر اليوسفي الصراعات التي أعقبت تولي الحسن الثاني إدارة البلاد، ابتداء من الاستفتاء على دستور عام 1962 ومروا بإشكالات المجلس الدستوري والانتخابات التشريعية، تلك التي يتناولها بمرارة حيث تمت الإطاحة به فيها، وكان الحزب قد رشحه عن طنجة، بينما نجح جميع اعضاء الأمانة العامة للاتحاد الوطني للقوى الشعبية، وقد شهدت تلك المرحلة حملة ضد الصحافة وحرية التعبير، إضافة إلى حملة من الاعتقالات تعرض لها العديد من المناضلين (حوالي 100 ) بإشراف الجنرال محمد أوفقير (مدير الأمن الوطني آنذاك) والرائد احمد الدليمي. وقد تم تقديمهم للمحاكمة، وصدرت الأحكام بإدانتهم (1964) لاتهامهم بمؤامرة مزعومة،. بينهم من حكم عليه بالإعدام (11 من المتهمين)، وجاهيا وغيابيا، والقسم الآخر بأحكام غليظة. وحكم على اليوسفي بسنتين مع وقف التنفيذ.
ويقول اليوسفي إن هناك محاولة أولى للتناوب ابتدأت في ذكرى 20 غشت 1964، حيث أصدر الملك الحسن الثاني عفوا بتحويل بعض الأحكام من الإعدام إلى السجن المؤبد، ثم إطلاق سراح 65 معتقلا بمن فيهم الفقيه البصري وعمر بنجلون ومؤمن الديوري.واستقبل الملك عبد الرحيم بوعبيد وأبلغه بالتفكير بتكوين حكومة وحدة وطنية. وأرسل ابن عمه مولاي علي لإقناع المهدي بن بركة بالعودة إلى المغرب. وتم اللقاء في فرانكفورت، وابدى بن بركة تحفظاته حول الجنرال أوفقير وعصابة الإجرام كما يسميها اليوسفي، لكن اختطاف المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965 بدد تلك المحاولات، وأدخل البلاد في دوامة جديدة من الصراع، وشغل الرأي العام الوطني والدولي.ولايزال مصير بن بركة مجهولا حتى الآن. وكان الرئيس ديغول قد اتهم أوفقير بالضلوع في العملية حسب ما يذكر اليوسفي.
ويروي اليوسفي في مذكراته جانباً من حركته في المنفى وهو متابعة دراسته واهتمامه بحقوق الإنسان وعمله في إطار اتحاد المحامين العرب (الأمين العام المساعد) ويشير إلى مشاركته بتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليماسول (قبرص) 1983 والدفاع عن المناضلين الفلسطينيين أمام المحاكم الأوروبية وكذلك ضد الجرائم التي ترتكب في الفيتنام، كما عمل في إطار منظمة التضامن الأفروآسيوي (الأبسو) .
ويشير مبارك بودرقة إلى أن اليوسفي أسهم هذا التطور في ثلاث جهات أساسية:
أولها – توفر إرادة ملكية سامية بالانتقال السلمي للديمقراطية والعمل على تطويرها بخطوات تدرّجية وتراكمية.
وثانيها – مجتمع مدني ناشط وأجواء حقوقية مساعدة راصدة وناقدة وتسعى لتكون «قوة اقتراح» وليس «قوة احتجاج» فحسب، بل تبذل ما في وسعها لكي تكون شريكا في اتخاذ القرار وفي تنفيذه لتحقيق التنمية المنشودة.
وثالثها- حركة سياسية وطنية التقت رؤيتها مع الإرادة الملكية العليا ومع تطلّعات المجتمع المدني، ويضاف إلى كل ذلك شجاعة من جميع الأطراف بمواجهة الصعوبات ومجابهة التحدّيات للوصول إلى المشترك الذي يخدم البلاد والعباد ويطمح للحاق بركب البلدان الديمقراطية تأسيساً على قيم إنسانية مشتركة، وفقاً لثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول- تجاوز مآسي الماضي وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الأطراف المعنيّة في إطار مسار طويل الأمد ونضال متعدّد الجهات والوجوه والأشكال.
والاعتبار الثاني- تطبيق معايير العدالة الانتقالية وفقاً للظروف المغربية، سواء بكشف الحقيقة أم بالمساءلة أم بجبر الضرر أم بالتعويضات للوصول إلى إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني ووضع آليات لمنع تكرار ما حصل، والهدف هو تحقيق المصالحة الوطنية، في إطار الاعتراف والتسامح بعيداً عن الانتقام والثأر والكراهية. وتعتبر التجربة المغربية بسياقها التاريخي أولى تجارب العدالة الانتقالية في العالم العربي، علماً بأن بعض من تولى مسؤولية قيادة مثل هذا التحوّل الحقوقي المهم هم من ضحايا العسف سابقاً الذين شاركوا بفاعلية في عملية التحوّل الديمقراطي، أذكر منهم الصديق إدريس بن زكري الذي قضى 17 عاماً في السجن وكنت قد أهديت له كتابي « الشعب يريد… تأملات فكرية في الربيع العربي» (2012) وكان قد غادرنا قبل هذا التاريخ.
أما الاعتبار الثالث- فهو التطلع للمستقبل، خصوصاً باحترام معايير حقوق الإنسان والشرعة الدولية، والانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وإطلاق حريّة التعبير والحرّيات الديمقراطية بما فيها الحق في التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي والحق في الشراكة والمشاركة وعدم التمييز. وقد كانت للتغيرات الدستورية في المغرب التي حصلت بعد فترة ما سمي بالربيع العربي أن أرست قواعد دستورية جديدة لأفق تطور لاحق للانتقال الديمقراطي توّجت بدستور العام 2011.


بتاريخ : 30/05/2020