قراءة في كتاب «في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات»

المثاقفة، الحقوق الثقافية، الهويات الوطنية في زمن العولمة

يسعى كتاب”الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة” للباحث المغربي الدكتور عبد الرزاق الدواي، الصادر ضمن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ببيروت سنة 2013، يسعى إلى تقديم تحليل نقدي لإشكالية الثقافة في الفكر المعاصر وما يرتبط بها من مفاهيم حديثة النشأة من قبيل: الهوية الثقافية، المثاقفة، العولمة الثقافية، الحقوق الثقافية، الصراع بين الثقافات، الديمقراطية.. ويجد انشغال المؤلف بقضية الثقافة مسوغاته في جملة من العوامل المتداخلة، يمكن الإشارة إليها بإيجاز خاطف كما يلي:
-ارتباط الثقافة بالإنسان في تاريخه المستمر، فهو ينتج الثقافة بمستوياتها المادية والفكرية ويتفاعل مع ما ينتجه ويتأثر به في تطوره وتقدمه.
-تراجع مفهوم الإيديولوجيا الذي هيمن لفترة طويلة على مجال الفكر والسياسة والفلسفة.
-ارتباط الثقافة في الدلالة المتداولة حاليا، بقضايا التنمية والتحديث وحقوق الإنسان، جعلها تمثل رهانا كبيرا تسعى المجتمعات الإنسانية إلى كسبه، خاصة تلك التي تعاني من التخلف وتتخبط في ويلات الهشاشة الاجتماعية.
-تعدد المعاني التي يغطيها مفهوم الثقافة وتباينها حولها إلى مفهوم تلتقي عنده وتجتمع فيه أكثر التساؤلات إثارة للإحراج والجدل منها على سبيل التمثيل: أسئلة الهوية الثابتة والمتغيرات، قضايا الديمقراطية والاستبداد وأسئلة التخلف والتنمية..” وغيرها من القضايا التي تسائل الراهن.
-الثقافة هي مكون أساس لهوية الإنسان الاجتماعية.
وقد عالج المؤلف إشكالية الثقافة بهدوء وإسهاب معتمدا في ذلك، تحليلا نقديا مفصلا، يلم بأكبر قدر ممكن بجوانب الإشكالية وأبعادها المتعددة والمختلفة. فكيف سيتعامل الدكتور عبد الرزاق الدواي مع مفارقات مفهوم الثقافة وإحراجاته المركبة ؟ وماهي أهم الحجج والأدلة التي استند إليها لإقناع القارئ بأن دلالة الثقافة ليست ثابتة، وإنما متحركة؟
يشتمل كتاب “الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة”على خمسة فصول، يتضمن كل فصل منها مباحث نظرية صغرى، دون أن ننسى بالطبع مقدمة الكتاب وخاتمته. ويمكن أن ألخص فصول الكتاب على الشكل الآتي:
+الفصل الأول:” عناصر تصور جديد لإشكالية الثقافة”، وينقسم هذا الفصل إلى مباحث نظرية صغرى أسعفت المؤلف في تفكيك مضامين مفهوم الثقافة ، وهندسة مجمل المعاني الغزيرة التي اكتسبها عبر مسار تطوره الدلالي، مؤكدا أن الثقافة أصبحت مع مطلع القرن الجديد ملتصقة بقيم الديمقراطية ومبادئها وحقوق الإنسان، وقضايا التحرر والتنمية بصفة عامة. وهذه المباحث النظرية هي:
مفهوم الثقافة وتطوره
الثقافة في التحليل النفسي والأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية
الثقافة بوصفها مكونا للهوية الاجتماعية
المثاقفة سيرورة وآليات
الثقافة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما الفصل الثاني:” الخطاب بشأن حرب الثقافات” في الفكر الغربي المعاصر” فقد ناقش فيه المؤلف باقتدار كبير، إحدى الأطروحات البارزة في العالم والمرتبطة بشكل مباشر بإشكالية الثقافة، يتعلق الأمر بأطروحة: “صدام الحضارات وحرب الثقافات”. بينما اعتنى الفصل الثالث:” في أخلاقيات الحوار بين الثقافات” بمسألة الحوار الثقافي، مبرزا أهم العراقيل التي تحول دون إيجاد أرضية عامة لهذا الحوار، ومقترحا في نفس الوقت بعض المبادئ التي يراها ضرورية لإنعاش الحوار الثقافي. إذ عمد الباحث في هذا الفصل إلى التعريف الوافي بإشكالية الحوار الثقافي والتطورات التي لحقت به في الفكر المعاصر، متسائلا عن الشروط اللازمة لإقامة حوار ثقافي مثمر ودائم بين المجتمعات الإنسانية، ومثيرا في نفس الوقت مسألة العوائق التي تتسبب في إفشال الحوار. كما لفت المؤلف انتباهنا في نفس الإطار، إلى ظاهرة العولمة الثقافية المفروضة على جميع البلدان والتي تتطلب الحسم العاجل في قرار لا يبدو سهلا وهو: إما الاندماج فيها أو الانكماش. وقد أكد الباحث أن نجاح الحوار يتطلب أرضية صلبة مبنية على مبادئ هي التسامح والاعتراف بحق الاختلاف الثقافي والنقد المزدوج.
وعندما نصل إلى الفصل الرابع:” صدام الحضارات وحوارها، حصيلة نقاش عربي نقدي” نجد د.ع.الرزاق الدواي يتطرق إلى جانب مهم من جوانب إشكالية الثقافة ونقصد به “صدام الحضارات” الذي يعد في حد ذاته اعتراضا صريحا على أطروحة الصدام.
وفي الفصل الخامس والأخير من الكتاب، والذي يهمنا أكثر في مداخلتنا هذه، فقد خصصه الباحث لمعالجة إشكالية “الهوية الثقافية والعولمة الثقافية”.
وكأي باحث أكاديمي، أنهى د.ع.الرزاق الدواي كتابه القيم هذا، بخلاصات مركزة أوجز فيها أهم النتائج النقدية التي توصل إليها، بعد تحليل القضايا الثقافية المختلفة التي خاض فيها تحليلا ونقدا داخل فصول الكتاب.
لقد انطلق الباحث عبد الرزاق الدواي في تحليل إشكالية الثقافة في زمن العولمة من تساؤلات ضمنية جوهرية أفترض أنها شكلت مدار محاكمته العقلية لمفهوم الثقافة، وما لحقه من تطورات على مستوى الدلالة والمعنى.
ويمكنني أن أرتب الأسئلة التي افترضت- بعد قراءتي للكتاب- أن الباحث يجيب عنها كما يلي:
ما معنى الثقافة؟ وهل يصح اختزالها في المعاني المعهودة؟
-أي علاقات يمكنها أن تحصل بين الثقافة ومفاهيم الهوية الثقافية والعولمة؟
– مامعنى تعدد الثقافات ؟ وما معنى اختلافها؟ إذا كانت كل مجموعة بشرية تعتقد أن لغتها ودينها وتقاليدها هي أفضل مما لدى الآخرين، فهل يستقيم الحديث عن تعايش الثقافات؟ وهل يمكن أن نتصور إمكانية الحوار والتعايش بين الثقافات؟
-هل يمكن الحديث – في زمن انبعاث الاهتمام بالخصوصية والهوية الثقافية- عن نواة ثقافية تتقاسمها الثقافات المتعددة والمختلفة؟ وهل يمكن أن نتحدث عن قيم كونية، صالحة لكل الناس كيفما كانت ثقافتهم ، أم أن على كل ثقافة أن تحتفظ بأفكارها وقيمها وخصوصياتها؟
-ماهي الأسباب التي يفسر بها الباحث عوائق الحوار الثقافي وصراع الثقافات؟ وماهي الوصفة التي اقترحها الباحث لتجاوز العنصرية والحقد وغيرها من تجليات رفض الآخر؟ وبأي معنى يساهم حوار الثقافات في تعزيز قيم النقاش والتفاهم بين الشعوب والأمم؟
قبل أن يجيب المؤلف عن هذه التساؤلات، عمد إلى تحديد مفهوم الثقافة متوقفا عند أهم التحولات الدلالية التي لحقت به، إذ أصبح هذا المفهوم في وقتنا المعاصر، يرتبط بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية، وكلها مفاهيم جديدة انبثقت من قلب التحولات الشاسعة والعميقة التي شهدها الفكر المعاصر.يقول: ” أضحت -أي الثقافة- مرتبطة ارتباطا وثيقا ب: الهوية الثقافية، المثاقفة، الهيمنة والتبعية الثقافية، الديمقراطية والتربية على ثقافة حقوق الإنسان والحقوق الثقافية للشعوب، السياسات الثقافية، العولمة الثقافية، الصراع والحوار بين الثقافات”؛ بمعنى أن مفهوم الثقافة المرتبط بالإنسان بشكل لصيق هو مفهوم متحرك ومرن إلى أبعد الحدود، وبالتالي لا يمكن أن يحنط في دلالة ثابتة.
وقد توقف باحثنا عند التعريف الشهير للثقافة الذي قدمه الأنثروبولوجي الإنجليزي “ادوارد تايلر” والقائل بأن الثقافة مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق..مشيدا بهذا التعريف الوصفي والذي يلخص بكيفية وافية عناصر الظاهرة الثقافية ومكوناتها، حيث تصبح الثقافة تعبيرا عن كل ما اكتسبه الإنسان في حياته الاجتماعية والفكرية والدينية..ورغم ما يتمتع به هذا التعريف من أهمية قصوى، فهذا لم يمنع د.عبد الرزاق الدواي من تسجيل بعض الملاحظات الذكية في حقه، نلخصها بإيجاز خاطف كما يلي:
-تعريف وصفي وعام.
-تعريف لا يعير أدنى اعتبار للطبيعة الدينامية للظاهرة الثقافية.
– هو تعريف لا يهتم بنوع العلاقات التي تربطها ثقافة ما ببيئتها وبالإنسان الذي يحملها وينتمي إليها.
وفي سياق رصد دلالات الثقافة وفهم مظاهرها لدى الإنسان، وقف باحثنا عند معطيات التعريف الذي قدمه كل من سيجموند فرويد و الأنثروبولوجي ليفي-ستراوس، وقد اكتفى بتقديم نظرة مختصرة عند فرويد.يقول: “الثقافة مؤسسة نشأت خلال تطور التاريخ البشري، باعتبارها سلطة رمزية للمراقبة وضبط الطرق التي يتم من خلالها تصريف الغرائز الجنسية العدوانية عند الإنسان” مع هذا المحلل النفسي، صار الوعي الأخلاقي كشعور ذاتي وصوت داخلي مضمر في النفس جزء من البنية النفسية يتضمن تمثلا للمتطلبات الثقافية للمجتمع وإدراكا لا غبار عليه للمنطق الذي تشتغل به ثنائية الحلال والحرام أو عقدة الطيب والخبيث. فما نصدره من أحكام معيارية في حق الأعمال الإنسانية هو انعكاس لمقومات النسق الثقافي.
أما في ما يخص المعاني التي يغطيها مفهوم الثقافة في الأنثروبولوجية البنيوية، فقد اجتهد الباحث في تحليلها بنوع من العمق والتبصر، مؤكدا أن انشغال لفي-ستراوس بمسألة الثقافة توزع عبر هذه المحاور الكبرى:
-مسألة العلاقة بين الطبيعة والثقافة؛ فالإنسان كائن بيولوجي وثقافي في آن. فالطبيعة تعبر عن البعد البيولوجي والوراثي العام والمشترك بين الإنسان والحيوان، بينما الثقافة تطلق على كل ماهو مكتسب بواسطة التعليم والتلقين.
وتبدو في نظر ليفي-ستراوس مسألة التمييز الواقعي بين الطبيعة والثقافة مسألة في غاية الصعوبة، غير أن الانفصال بينهما تحققه هذه العناصر:
اللغة؛ باعتبارها هي الأداة الأساسية التي يتمثل الفرد من خلالها ثقافة الجماعة كما يعتمد عليها لإنجاز عدة وظائف: التواصل والحوار، التعبير عن الثقافة، إنتاج الثقاف ةونقلها إلى الأجيال، أما العناصر الأخرى التي حققت مبدأ الانفصال بين الثقافة والطبيعة الإنسانية فهي: التحريم الجنسي للأقارب، الأدوات والتقنيات والاختراعات الصناعية المختلفة، وابتكارا لمؤسسات والتنظيمات التي تجسد أهم مظهر ثقافي مميز للإنسان بشكل قوي.
كما يعود الفضل أيضا لـ”ليفي-ستراوس”الذي أبرز أن السمة المميزة للثقافات البشرية هي ظاهرة التنوع والاختلاف، وبذلك نعتبر أن من الخلاصات العلمية الهامة التي انتهى إليها هذا العالم الأنثروبولوجي هي بمنزلة نقد بارد وقاسي لمفهوم التقدم، فالإقرار بقبول سلم تصنيفي يسلم بهيمنة النموذج الغربي لا يعني أن المجتمعات الإنسانية المتعددة والمختلفة مطالبة باتباع نفس المسار التطوري الخطي الذي مرت به الثقافة الغربية، لأنه ينبغي علينا احترام الاختلاف الثقافي.
وفي سياق حديثه عن حرب الثقافات، توقف الباحث بنوع من الأناة عند موقفين لا تخلو عناصر أطروحة كل واحد منهما من الاستفزاز والاستعلاء، يرتبط الموقف الأول ب”فوكو ياما” والقائل بنهاية التاريخ، إذ يعلي هذا المفكر الأمريكي بشكل نرجسي مبالغ فيه من شأن الثقافة الغربية وانفرادها بخاصية العالمية، مادام أن قيمها مشتقة من العقل بداية ونهاية.
ويرى المؤلف أن فوكو ياما في عرضه لمقولة نهاية التاريخ قد استفاد من مصدرين فكريين هامين:
أولهما يتمثل في كتابات المفكر الألماني “ماكس فيبر” المدافع بدوره عن نزعة المركزية الأوربية المتسمة بالعقلانية والمبدعة للمعرفة العلمية.
وثانيهما يتجسد في الفيلسوف الألماني “هيجل” الممثل الفعلي لفكرة نهاية التاريخ. ومعلوم أن هيجل سبق له أن رأى في انتصار “نابليون” انتصارا للدولة وللحقوق ولمبادئ الحرية والمساواة. فقد اعتبر أن التاريخ قد بلغ نهايته بظهور الدولة الليبرالية المجسدة لأعلى مستويات العقلانية والحرية ولا توجد دولة غيرها قادرة على تنظيم المجتمعات اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا؛ فالإنسان الأخير في نظر “هيجل”هو الإنسان الليبرالي.
بالرجوع إلى هذين المصدرين اللذين فاضت منهما فكرة النهاية، أمكن للأستاذ عبد الرزاق الدواي أن يوضح كيف تمكن “فوكو ياما” من تطوير الأفكار الفيبرية والهيجلية وتشغيلها بشكل فريد من نوعه بغية التأثير على المتلقي وإقناعه بأن الجنس الغربي هو أذكى جنس وأن الإنسان الديمقراطي على الطراز الغربي هو الإنسان الأخير، وبالتالي فإن ثقافته الغربية سوف تنتصر في صراع الأفكار والمفاهيم والتصورات.يقول الكاتب:”التغيرات التي شهدها العالم المعاصر تنبئ بنهاية وشيكة للتاريخ، وبأن البشرية وصلت في مسيرتها إلى المحطة النهائية، بالنسبة إلى التطور التدريجي للثقافات وللمؤسسات السياسية والاقتصادية، وبصفة خاصة بالنسبة إلى تعميم ثقافة الديمقراطية على النمط الغربي، بوصفها الشكل النهائي للحكم الإنساني.”
أما الموقف الثاني الذي ناقشه باحثنا أيضا، فهو ل”هينتنجتون” الذي يرفض القول بوجود قيم ثقافية، بإمكانها أن توحد العالم كما اعتقد بذلك “فوكو ياما” بل يرى أن الغد سوف يشهد عنفا مدمرا أساسه بالدرجة الأولى الصراع العنيف بين الثقافات. فالاختلاف الجوهري بين “هينتنجتون” و”فوكو ياما” يكمن في كون هذا الأخير، يؤكد أن التاريخ الكوني وصل إلى نهايته عندما تحقق توافق كوني حول الديمقراطية التي وضعت حدا للصراعات الإيديولوجية والتحريض السياسي، غير أن “هينتنجتون” يرى أن طرح زميله لا ينسجم مع معطيات المعيش، فالواقع يطفح بالحرب والعنف الذي ساهم التقدم التقني في نشره بشكل غير مسبوق وجعله أكثر فتكا وفي متناول الجميع، وبالتالي فأطروحة مواطنه “فوكو ياما” مفرطة في التفاؤل ولا تتمتع بصدق أمبريقي، كما أنها ذات طابع لاهوتي، مادامت أوقفت التاريخ وسيرورته في مرحلة معينة، وفي ذلك مس سافر بالحرية الإنسانية وحكم قبلي بنهاية المعرفة الإنسانية.
غير أن هذا الاختلاف في الرؤية بينهما لا يعني بالضرورة أن “هينتنجتون” لا يدافع عن مثل الثقافة الغربية وقيمها، بل يرى أن نشر مقومات الثقافة الغربية تعترضه صعوبات جمة، لعل أبرزها وجود ثقافات عنيفة ومتطرفة كما هو شان الثقافة العربية الإسلامية، فالمنتسبون لهذه الثقافة هم جماعة من المتعصبين الذين يحاربون بشراسة وبعنف متعدد الأشكال الثقافة الغربية.إن هذا الحكم العنصري بكل المقاييس، لا يخلو من تعصب لفكرة التفوق الغربي على حساب الثقافات الأخرى.وهو حكم أزعج المؤلف كثيرا وجعله يجند طاقاته النقدية لتفنيده مع تطعيم هذا المجهود النقدي الشامل باستدعاء أصوات فكرية عربية وازنة في مجال الفكر والثقافة من صنف الجابري-السيد ياسين ونادية المصطفى..
إضافة إلى ما سبق، سلط د.عبد الرزاق الدواي نوره العقلي على قضية حساسة، كان لها مكانتها في الثقافة العربية الإسلامية القديمة، إذ سبق للفلاسفة المسلمين أن انشغلوا بها، وهي ما يعرف في قاموسنا المعاصر بسؤال المثاقفة، أو مدى شرعية الاستفادة والأخذ عن الحضارات البعيدة عنا والمباينة لنا، فنحن نعرف أن اليونان القديمة مثلت بالنسبة للفلاسفة والفقهاء المسلمين ما تمثله الثقافة الغربية بالنسبة لنا اليوم. وينبغي الإشارة هنا، إلى أن باحثنا أكد أن زمن العولمة يفرض –بشكل تكاد إرادتنا لا تتحكم فيه- الانفتاح على ثقافات الآخرين، فكل ثقافة تمنع على نفسها عملية المثاقفة الواعية والنقدية، تقطع عليها ولوج التاريخ، ذلك أن الاندماج في الزمن المعاصر والمشاركة الفعالة في صناعة أحداثه التاريخية، لا يمكن أن يتحقق بسياسة الانغلاق على الذات، بل بتفضيل الميل نحو التفاعل الإيجابي مع نظرائنا في الإنسانية بصرف النظر عن جنسياتهم وهوياتهم.
غير أنه، مع تأكيد باحثنا على ضرورة الحوار الثقافي بين الأمم والشعوب، لم يفته بتاتا أن ينبه إلى بعض العراقيل التي تحول دون أن يأخذ التثاقف بين الشعوب منحى المشاركة والتعاون والتبادل بدل المقاطعة والصدام، والتعويل على الإمكانيات الذاتية في إنجاز المشاريع التنموية. ولعل أبرز هذه العراقيل هي:
-التشبث المتطرف بالخصوصية والانغلاق المرضي على الهوية في مواجهة ثقافة الآخر.
-التنافس المسعور بين الدول وصراع المصالح.
تسلط الغرب وطغيان إرادته وسعيه إلى طمس خصوصيات الآخرين بشتى الوسائل المتاحة.
رغم تسليم المؤلف بهذه العراقيل، إلا أنه لاحظ أن التغلب عليها يقتضي إيجاد أرضية تتشكل أعمدتها الأساسية من مبادئ حصرها في ثلاثة، وهي:
1-التسامح: يقول معرفا إياه: “مجهود، يتوجب على كل ثقافة أن تبذله من أجل الانفتاح على الثقافات الأخرى، وإقرار من طرف كل ثقافة بوجود أمور يمكن تعلمها من الثقافات المختلفة عنها، وبوجود حقائق وقيم ومظاهر ثقافية مختلفة عما ألفته وتتبناه وتعتنقه”.
2- الاعتراف بحق الاختلاف الثقافي وهو مبدأ ينتمي إلى الجيل الثالث المرتبط بمنظومة حقوق الإنسان، والذي يؤكد أن جميع الثقافات البشرية متعادلة ومتساوية، وأن احترام مبدأ التكافؤ بين الثقافات يساهم في تنمية روح التعاون بين شعوب العالم.
3-ممارسة النقد والنقد الذاتي؛ فتقويض مركزية الثقافة الغربية الساعية إلى الهيمنة والتفوق كما تشي بذلك تصورات فوكو ياما وهنتنجتون، لا يعني استبدال التمركز الغربي بمركزية أخرى منغلقة تعيد إنتاج نفس الثنائيات الموهومة والتقسيمات التراتبية من قبيل الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الأنا والآخر.
والحق أن العمل بهذه المبادئ بإمكانه أن يحد من مظاهر العنف والتطرف وما يحدث من إرهاب في عالمنا، غير أن العلاقة بين الثقافات البشرية هي أعقد من أن تختزل في مبادئ أخلاقية تظل رغم رونقها النظري ووقعها السحري على أذن المستمع- عاجزة عن أداء وظائفها الحيوية، ما لم يتم إعداد جيل جديد تعمل كل مؤسسات مجتمعه على زرع هذه القيم﴿التربية على الاختلاف-التربية على التسامح-التربية على المواطنة﴾ المؤسسة لثقافة السلم وحقوق الإنسان باعتبارهما النقيضين المباشرين لثقافة العنف ضد الآخرين.فالعلاقة بين الثقافات البشرية مركبة حد التشابك وتؤطرها المصالح والعوامل الاجتماعية والسياسية والدينية والعرقية، وهذا ما يجعل العلاقات الممكنة بين الثقافات تتأرجح بين الصداقة والعداوة.
وارتباطا بالحوار الثقافي عرج ذ.الدواي إلى إشكالية العولمة الثقافية في علاقتها بالهوية، وقد ناقش هذه المسألة باستفاضة معرفا الهوية الثقافية بأنها شعور بالانتماء.يقول: “الهوية الثقافية هي صورة مثالية تكونها جماعة بشرية معينة عن نفسها مقارنة بجماعات أخرى”. ويتخذ هذا الانتماء مستويات محكومة بالتداخل والتعدد: اللغة الوطنية أو المحلية، العقيدة الدينية، والتراث الاجتماعي والروحي المشترك- وهذه العناصر الأساسية هي التي تؤطر معنى الهوية الثقافية.
وقد أبرز المؤلف بكيفية ضمنية أن الحديث عن الهوية في شقها الثقافي يرتبط في العالم العربي والإسلامي، بشكل مبالغ فيه بالمدافعين عن الخصوصيات الثقافية مثال ذلك الأصولية التيتركن إلى الماضي وتعود باستمرار إلى الموروث الثقافي.إن هذه الرؤية السلفية ذات المضمون الديني تتشبث بفكرة مفادها أنه لا يجب أن نعتقد بقيم مشتركة، وتتشبث بالتراث من أجل تجديده من الداخل، وذلك بالبحث عن الجوانب المشرقة فيه وبعث الحياة فيه من جديد حتى يتناسب ومعطيات العصر وروحه، والعمل في المقابل على إقبار البدع والمحدثات. أسلوبها في ذلك التأويل والاجتهاد: الاجتهاد بغية تقديم أجوبة شرعية على ما استجد، أما التأويل فيتجه أساسا نحو المواقف التقليدية و شرحها حتى تتلاءم مع المطالب الحداثية.
وللإشارة، فإن منهجية التوفيق، أي محاولة الجمع بين بنيتين مختلفتين: الدين/الحداثة، كانت سائدة ولاتزال، ولم تنتج جديدا، مما يجعل البعض يحكم عليها بكونها غير قادرة على العطاء والإبداع والوصول إلى نتائج مهمة، وفشلها في التوفيق بين ما هو عندنا من قيم وما يوجد عند الغرب، جعلها ترى أن على كل ثقافة أن تحتفظ بقيمها وخصوصياتها، غير أنها لا تستقر على الموقف نفسه: فأحيانا تتطلع إلى ما يوجد في الغرب وما يمتلكه من قوة،وتارة أخرى ترى فيه إبليسا كافرا احتل ديار المسلمين وأشاع الفاحشة فيهم. هذا الموقف الحربائي في التعاطي مع قيم الحداثة استوجب طرح تساؤلات حوله، وهو ما قامت به الرؤية المتمردة على القديم والتي تؤكد أن الهوية الحقيقية هي التي تجعلنا نعيش في الحاضر وننفتح على المستقبل.
وغني عن البيان أن قضية الهوية تمثل موضوع نزاع لا ينتهي بين موقفين: موقف سلفي انغلاقي مناهض لقيم الانفتاح والحوار-كما أشرت إلى ذلك في الفقرات السابقة، وموقف ليبرالي يقول بالانفتاح ويدافع عن فكرة المثاقفة والكونية.لقد أمست الهوية عند التيار المنزوي عن العالم والمنكمش على الذات تتحدد بثلاث خصائص هي:
1-هوية لاهوتية؛ لأن محددها الأول والأخير هو العقيدة الدينية.
2- هوية ماضوية؛ بمعنى هوية غير متجهة نحو المستقبل ولا تعيش اللحظة الراهنة ولا تكترث بالتحولات الثقافية والاجتماعية العميقة والعاصفة التي شهدتها كل بلدان العالم، بل مدارها هو الماضي باعتباره عصرا ذهبيا.
3-هوية منغلقة؛ أي هوية مكتملة البناء.
لاشك في أن هذا النوع من الهوية يشكل خطرا حقيقيا على التعايش المشترك حتى داخل نفس المجتمع، ويمثل مصدرا للعنف والعنصرية ورفض الآخر. لهذا لابد ونحن نعيش في مجتمع التحول والتغير المنتظر أن نتجنب التعامل الإيديولوجي والتدبير الديماغوجي لمسألة الخصوصيات الثقافية، بل إن تحقيق التنمية يتطلب الانفتاح الإيجابي على الثقافة الإنسانية، وقد عبر المؤلف بما يكفي من الوضوح عن ذلك بقوله:”الهوية الثقافية…هي الشعور بالانتماء إلى الوطن الذي يحمي الكرامة ويوفر الأمن والأمان ويضمن حق التمتع بالعدالة الاجتماعية”.
في ختام قراءتي المتواضعة لهذا الكتاب القيم والممتع، أشير إلى أن صاحبه الأستاذ عبد الرزاق الدواي، قد ألم بأهم الإشكالات المركزية التي تثيرها الثقافة في وقتنا الراهن ونجح في تقريبها إلى القارئ بلغة واضحة وبسيطة، يؤطرها العمق الفلسفي تبليغا وتفكيرا، وبذلك يكون كتاب ذ.الدواي”في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة” هو بلا شك إضافة نوعية ثمينة في الشهد الثقافي المغربي.

 

مراجع:

1 -عبد الرزاق الدواي، في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات:حوار الهويات في زمن العولمة،المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات،2013،ط.الأولى،ص.21
2-نفسه، ص:16
3- نفسه، ص:26
4-نفسه،ص:63
5- نفسه،ص:103
6- نفسه،ص:154
7- نفسه، ص:159


الكاتب : ذ. خالد تاكمة

  

بتاريخ : 22/05/2020

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *