كتب لها وقع 2/2 الفكر اليهودي في القرن العشرين لأدريانو فابريس

يتساءل معدّ الكتاب أدريانو فابريس عن مدى مشروعية القول بـ»الفكر اليهودي»، وما دلالة هذا المفهوم؟ وهل تواجد حقًّا فكر يهودي مغاير لأنماط فكرية وفلسفية أخرى؟ وإن تواجد فعلاً فكر يهودي فما هي خاصياته المميزة؟ وما هي حدود اتصاله وانفصاله مع الفكر الغربي عامة؟

شكّل البحث عن الانعتاق شاغلاً من شواغل الفكر اليهودي المعاصر. فقد تواصل النظر للانعتاق في مطلع الحقبة الحديثة ضمن أبعاد صوفية تجلّت في مفهوم المسيحانية، التي باتت تشكّل أطروحة خلاص واعدة للفرد وللجماعة. هذا وشهد الحس المسيحاني تأججًا في ملحمة سبتاي زيفي (1665-1667م)، وهي من الملاحم الكبرى التي هزت العالم اليهودي، لما اختزنته من تهويمات ووعود لم تعرف فتورها سوى باهتداء صاحبها إلى الإسلام.
والمسيحانية كتيّار رؤيوي شكّلت في مدلولها الانعتاقي مراجعة عميقة داخل التاريخ اليهودي، اختلطت فيها النزعات الباطنية بالتأملات الفكرية بحثا عن هوية جامعة على أنقاض الشتات. فقد اُعتبر انعتاق اليهود بمثابة الوعد الإلهي المرتقب، وصارت فضاءاتُ الغربة فضاءات التحقق والتطور لهذا المسار. غدت فرنسا الحديثة الأرضَ المقدسة، وإعلانُ حقوق الإنسان بمثابة الوصايا العشر، والعالم الجديد تجسدا لأورشليم التوراتية. لم ينشأ ذلك النظر عرضًا، بل جاء جراء تأويلات واستنباطات طورها حاخامات بحثًا عن تلاؤم مع العالم الجديد. في البدء عارضت جل القراءات مزاعم الانبعاث في فلسطين والتأسيس ليهوذا بقيادة مسيا يتحدر من سلالة بيت داود النقية والطاهرة، باعتبارها خيارات وهمية تفتقد إلى الواقعية.
وفي أحضان تلك الحركة المسكونة بنزعة طوباوية، تشكلت حركة التنوير الأفكلارونغ (الاستنارة)، نحَتْ صوب تأملات واقعية، وهي حركة تنوير قادها جمعٌ من المفكرين بقصد تعاط عقلاني مع الموروث الديني ولسحبِ اليهود نحو الحداثة وإخراجهم من حيز المنبذ (الغيتو) الذي بات يأسر عقولهم وإن غابت الأسوار. فالغيتو الأكبر الذي ناضل ضده الفكر العقلاني اليهودي، خلال الحقبة المعاصرة، هو الغيتو المنتصب في وعي اليهودي وفكره. مثّل حينها ظهور “علم اليهودية” _Vissenschaft Judentums_، مسعى جادًا من قبل حركة قراءة التراث لبناء وعي علمي بتاريخ اليهود الديني، بقصد تخليص اليهودية من ثقل اللامعقول والأسطورة الطاغيين، وما كان ليتحقق ذلك المسار في غياب التواصل مع المنزع التنويري السائد في الغرب، الساعي إلى ضبط كافة إيقاعات الحياة داخل أطر عقلية ومعايير علمية. حيث نلحظ رغبة لدى عديد المفكرين اليهود لتورخة الدين والتراث، سواء باعتماد منهج النقد التاريخي في معالجة المرويات، أو بجعل النظر إليها محكومًا ببُعدٍ عقلي، بمنأى عن كافة تبريرات اللامعقول.
هرمان كوهين يقول في مؤلَّفه “أخلاق الإرادة المحض”: “يهوديتي في علاقة عضوية مع قناعاتي العلمية.. لم أوكل مسار وعيي اليهودي إلى غريزة التماهي بمعتقد أو سلالة ما؛ بل بالعكس إلى الصرامة الفلسفية، في نطاق ما تيسر لي، وإلى النقد التاريخي، لأنهما أنارا لي السبيل” (ص: 71-72).
فقد كان الخلاص اليهودي في مدلوله البدئي مشوبًا بمنزع صوفي ومدلول باطني، بيْدَ أنه ساد جدل معمّق في الفكر أساسه سؤال محوري: هل على اليهودي أن يتدخل في التاريخ ويساهم في صنعه أم يقتضي الحال أن يتمركز خلاصه في الروح؟ في البدء خلص ذلك الجدل إلى تمحور النظر للتاريخ ضمن أطر ثلاثة: أن الخلاص يأتي بشكل إعجازي، وأنه يتمخض عن عالم طوباوي، وأن المسيا (المخلّص) يأتي في أعقاب أبوكاليبس كارثي. لكن تلك القناعات عصفت بها تحولات شهدتها الساحة الغربية، تمثلت في احتدام موجة العداء لليهود مع اللاسامية، حيث بلغ المقت الأوروبي مداه في ما عُرف بالمحرقة. هذه المجريات المستجدة دفعت إلى تطور رؤى سياسية باتت ترى في الصهيونية سبيل الخلاص الموعود، وإن تواصلت معارضة ذلك مع تيارات أورثوذكسية رأت في قيام دولة لليهود، في غياب المسيا الحقيقي، هو ضربٌ من الخيانة والتنكر لليهودية.
وما كانت نداءات العودة إلى صهيون، “العام القادم في أورشليم”، لتلقى قبولاً في أوساط اليهود لولا حصول انقلاب في قناعة كثير من الحاخامات، باتوا يرون الخلاص سياسيًا وليس روحيًا كما سلف. عندها تزاوج الوعي السياسي (الصهيونية السياسية) بالوعي الديني (الصهيونية الدينية) واشتركا معًا في السير صوب أورشليم. جرى التقليص من غلواء الخلاف المستحكم بين الطرفين، المتدين والعلماني، بإرساء ما يشبه الصلح البراغماتي بين الثنائي، ومن هذا الباب كان البعد الديني حاضرًا في الصهيونية حتى وإن لم تُتَح له فرصة القيادة.
بقي المنزع التأويلي في اليهودية حاضرًا إلى حدود الحقبة المعاصرة، حيث أن جمعًا واسعًا من المثقفين اليهود ومع إيمانهم بسطوة المقولات الدينية، على شاكلة مارتن بوبر، أو ملاحدة عتاة، مثل أرنست بلوخ، قد جمعت بينهم رابطة رومانسية موحّدة في معاداة الرأسمالية، وتقاسموا رغبة عارمة في تشييد مجتمع جديد، تتجسّد فيه مملكة الرب على الأرض، مملكة العدل والحرية. نجد الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائيف يذهب مذهبا داعما يلتقي فيه التأويل الديني مع العالم الراهن، مرتئيًا أن البروليتاريا في مذهب كارل ماركس هي إسرائيل الجديدة، وهي شعب الله المختار، المحرِّرة والمشيدة للمملكة الأرضية الموعودة، وما الشيوعية سوى شكل معلْمَن للعهد الألفي اليهودي. حتى أن المفكر ميكائيل لوفي يتحدث عن تجانس خفي ومضمر بين المسيحانية اليهودية واليوطوبيا الفوضوية، أدى إلى تحالف وثيق تحققت نبوءته فوق أرض فلسطين.
التحول الكبير في الفكر اليهودي، الذي يرصده الكتاب، تدشّن مع التطورات السياسية الكبرى التي هزت أوروبا في أعقاب تضييق الخناق على اليهود مع اللاسامية والتي بلغت مداها مع حدث المحرقة. دفعت تلك الأوضاع إلى طرح تساؤلات عميقة في أوساط الإنتلجنسيا اليهودية التي ركنت إلى فكر الحداثة والعقلانية والعلمانية. بدأ الحديث عن “أوسشويتز”، رمز المحرقة، من أمريكا في أوساط المثقفين اليهود ممن رحلوا عن ألمانيا وتحلقوا في البداية حول مدرسة فرانكفورت ثم لاحقًا في النيو سكول للأبحاث الاجتماعية في نيويورك. فقد كانت حنة أرندت وهانس جوناس وهربرت ماركيوز من الطلاب المباشرين لهايدغر، المهندس البارز للعقل الألماني الحديث الذي بات متهَمًا بالتنكر للعقلانية وموالاة الآلة النازية. طُرحت تساؤلات كبرى عن فحوى تلك المفاهيم في ظل واقع الفرز المفروض على اليهود. فقد اعتبر أدورنو وهركهايمر معتقل “أوسشويتز” ليس نتاجًا لانحدار العقل ولكنه تضخم للعقلانية الأداتية. وقد لعبت حنة أرندت دورًا مهمًا في محاكمة العقلانية الألمانية في ضوء ما حدث في “أوسشويتز”، وكانت من أوائل من أثار قضية ما جرى في “مصانع الموت”، بغرض تفهم المجزرة المصنّعة عقليًا (ص: 265).
من جانب آخر تطارح الفكر اليهودي مسألة الألوهية والشر. ففي محاضرة ألقيت عام 1984 تساءل هانس جوناس عن “مفهوم الألوهية بعد أوسشويتز”، وعن أفول الدين وعن صمت يهوه؟ إجابته مغايرة عن إجابة أدورنو أو أندرس، ليس في جعبته نفيٌ لوجود الرب، بل إعادة تفكير في حضوره من خلال المصادر القبالية. فالمحرقة لا تمثل سقوطًا مفاجئًا في البربرية، بل بالأحرى هي الجانب الخفي، والانعطافة الجدلية للحداثة.


الكاتب : عزالدين عناية

  

بتاريخ : 28/05/2020