نظرات في التصوف الإسلام عشقًا: فرضيّات عامّة في موضوع التصوّف

الحلّاج شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل.

5

لعل في بحث الناس عن أصل غير إسلامي لأجزاء من الثيولوجيا الصوفية أو للمشترك بين تلك الثيولوجيا وغيرها من أديان الأرض ـ وهو بحث مبرر ومثمر بل وما زال ناقصا، إذ مازالت كنوز البوذية شبه مجهولة للباحث العربي ولغيره إلى حد كبيرـ وفيما توصّل إليه أولئك الباحثون دليل على عالمية الفكرة التي تكمن في جوهر التصوّف وقابليّتها للدخول في قلب كل من يحتاج إلى التديّن. وهذا يمكن إيجاد مئات الأمثلة عليه، بل إنني لمسته شخصيا لدى كثير من الأوربيين الباحثين عن حياة روحية تغني نزعاتهم الماورائية. غير إنه ربما ليس من نافل القول الإشارة هنا إلى شيء من “التوصية” أو حتى النصيحة لأولئك الذين تهمّهم عالمية الإسلام أن يتوقفوا عند هذه الفكرة قليلا، فقد تكون فعلا الفرصة الثمينة لإعادة الوجه الحضاري العالمي لهذا الدين.
غير أن الجذور النظرية والممارساتية المشتركة بين التصوّف والنزعات الروحية في أديان أخرى كثيرة لا تعني على الإطلاق أن التصوّف هو شيء وافد وغريب على الإسلام. لا يمكن لباحث واحد أن يشك بحقيقة أن المتصوّفة كانوا يستندون في كل ما يقولون تقريبا إما إلى آية قرآنية أو إلى حديث نبوي. صحيح إنهم استندوا في فهمهم للآيات والأحاديث إلى نظام تأويلي مختلف عن نظام الفقهاء الرسميين، وصحيح أيضا إن كثيرا من الأحاديث التي استندوا إليها قد تكون موضوعة أو ضعيفة الإسناد، و هذا لا يخرجهم من دائرة الإسلام. لنقل إنها مدرسة مجتهدة! ديدنها في ذلك ديدن فرق اجتهاد أخرى لا تعد ولا تحصى في التاريخ الإسلامي. ولا أجد سببا يمنع من اعتبار هذه الفرق كلّها التي نجمت عن الخلاف بين الفقهاء والمفسّرين والذي يخفي خلفه خلافا بين السياسيين وذوي المصالح نوعا من “ألف زهرة متفتّحة” –حسب التعبير الصيني- تمنح حدائق الإسلام غنى في اللون والرائحة والشكل الجمالي كان سيفتقر إليه لو لجأنا إلى اعتبار كل من لم يلتزم بالتفسير الرسمي الوحيد (هذا إذا وجد تفسير رسمي وحيد) مارقا مكانه الطبيعي بين السيف والنطع أو في غياهب السجون.
وهكذا يمكن للباحث أن يجد في التصوف كلا الأمرين، العالمية والإسلامية، عالمية الروح وإسلامية المرجعية.
6

وكما ألمحت أعلاه، فإن إحدى الميزات الأساسية للممارسة الدينية لدى المتصوّفة هي ميّزة الاتصال المباشر بالمقدس، وذلك بالتفريق عن تلك التيّارات الدينية التي “توسّط” في هذه العلاقة. غير أن هذه الميّزة ظلّت للأسف ممارسة تكاد تكون استثنائية تقتصر على “الواصلين”. فأكثرية “السالكين” وسّطت “شيوخها” في اتصالها بالمقدس[9]. غير أن وجود ممارسة الاتصال المباشر وتنظيرها بل وتحوّلها إلى ممارسة أنموذجية وهدف لكل ممارسة صوفية يكفي لاعتبارها فتحا حقيقيا جديرا لا فقط بالدراسة، ولكن بان يحتل مكانا دالا في النظرية الصوفيّة. ولعل من أهم نتائج هذه العلاقة المباشرة بالمقدّس فتح الطريق من أوسع أبوابها لأن يصبح الدين شأنا فرديا بالكامل. إذ أن الروح تتصل وحيدة مفردة بمعشوقها المقدّس لا تشرك في حبّها هذا ولا في أسرار اتصالها أحدا. تماما كما لا يرضى أي عاشق ان يشرك في أسرار اتصاله بمحبوبه أحدا، ناهيك عن أن يسمح لأحد بأن يقرر طرق اتصاله بالحبيب.
وفردانية الدين هي -على ما يبدو من استعراض تطوّر البشرية- المحطّة الأخيرة لتطوّره في تلاؤمه مع تطوّر المجتمعات التي يرعى شؤونها الروحية. والحالة الإسلامية مازال أمامها الكثير لتنجز هذه المرحلة. وأنا أكتب الآن في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، حيث تكاد تطغى على العقول في العالم الإسلامي نزعة تبدو قهرية إلى خلط الدين بكل شيء وفرضه على كل أشكال التجمّع. بل إلى درجة أن المتعصّبين من أتباع الديانات الأخرى بدؤوا – سواء بسبب العدوى أو المنافسة أو انتهاز فرصة الذعر العام الذي ينتج عادة نوعا من الغباء العام- يحاولون إعادة عجلة التطوّر في بلادهم إلى الوراء ليعيد الدين احتلال مواقع في النظام الاجتماعي كان قد فقدها منذ زمن طويل. فكون الدين شأنا فرديا وفصله عن السياسة وشؤون الدولة هو أمر أنجزته الكثير من شعوب الأرض منذ قرون. أي إن المتعصّبين من المسلمين بجرهم الشعوب الأخرى إلى تبنّي الدين كهوية اجتماعية وسياسية يلعبون بهذا دورا رجعيا على الصعيد العالمي.


الكاتب : حسين شاويش

  

بتاريخ : 19/06/2020