يعد التراث العربي المخطوط جزءا نفيسا من ذاكرة العالم العربي ، يبين الإسهام العلمي الأصيل في الماضي ، الذي نستفيد منه في حاضرنا ، ونستلهمه عند التطلع إلى المستقبل .
ونظرا إلى الأهمية الكبرى التي ينطوي عليها تحقيق المخطوطات ، بوصفه إحياء للموروث الحضاري ورافدا للبحث الأكاديمي ، فقد نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وحدة تكوين الدكتوراه «آداب وفنون متوسطية» بتنسيق مع مركز دراسات الدكتوراه ، الدورة التدريبية الثانية لفائدة طلبة الدكتوراه في موضوع : «المخطوط العربي : مناهج ونماذج في التحقيق» يوم الخميس 5 مارس 2020 .
افتتحت الندوة بكلمة مسير اللجنة الأستاذ محمد الداهي نوه فيها بهذه النوعية من اللقاءات العلمية، التي تهدف إلى ترسيخ المناهج العلمية الصحيحة لدى الطلبة في التعامل مع التراث، منبها إلى أنه من المستبعد تقييم عمل المحقق، لأن التحقيق مثل الترجمة، كلاهما بمثابة إضافة جديدة للثغرات التي تشوب العمل السابق، فهما ورشان مفتوحان ، أعقبتها كلمة الأستاذ محمد السيدي أشار فيها إلى أن التحقيق يقتضي معرفة بالتاري ، وإلماما بجوانب معرفية متعددة ، فهو أشبه بالتشخيص المسرحي ، وأردف» أننا فقدنا قيمة المخطوط ولم يعد هناك اهتمام بالتحقيق» .
مداخلة الأستاذ قاسم الحسيني كانت قراءة نقدية لأهم النصوص الأندلسية والمغربية المحققة ، وشدد من خلالها على ضرورة أن يراعي المحقق خصوصية المنهج الذي سار عليه المؤلف ، وأن يستشف دواعي اختياره لهذا المنهج عن طريق المقارنة، إضافة إلى وجوب استدعاء مجموعة من العناصر التاريخية للاستعانة بها في تقديم تخريجة مناسبة للأعلام وللنصوص مع إحالاتها، وكذلك البرهنة على المصداقية ، وذلك في سبيل إحاطة شاملة بكل ما يتعلق بالمخطوط .
الأستاذ محمد التعمرتي أكد في مداخلته بعنوان «المخطوط : المعرفة والتهميش» أنه لنكون مواطنين عالميين، لابد أن نكون مواطنين محليين أولا، وعلى إدراك بهويتنا وتراثنا، ليسهل علينا محاورة الآخر، فمن لا يملك ماضيه، لا يمكن أن يؤسس لمستقبله، حيث تساءل: ما هي معرفة المغربي بتراثه، وهل يدرك قيمته؟
ومن جهة أخرى أضاف أن تركيا تتوفر على أكبر عدد من المخطوطات العربية في العالم ، تليها إيران وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أما المغرب فلديه ما يقارب 200000مخطوط ، منها 541 متواجدة في مكتبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وهي بحاجة طبعا لنفض الغبار .
(1)
أولت الأستاذة سعاد اليوسفي في مداخلتها الموسومة بعنوان «دور الزوايا في حفظ المخطوط العربي» عناية لثلاث زوايا وهي : الدلائية – الناصرية – الحمزاوية ، كان لها دور فعال في نشر الثقافة ، وقد قيل عن مؤسسيها : لولا هؤلاء لانقطع العلم من المغرب .أما الأستاذة نزيهة الجابري فقد تضمنت مداخلتها «منهج التحقيق وتقنياته» تعريفا لغويا ومصطلحيا للتحقيق ، وشرحا مستفيضا لعلم المخطوطات (الكوديكولوجيا)، استهلته بطرح مجموعة من الأسئلة، سعت من خلال مداخلتها للإجابة عنها :
كيف يمكن أن نحقق مخطوطا ؟ هل لكل مخطوط منهج خاص به ، وهل المحقق حر في اختيار المنهج ؟
يعتبر المنهج المتبع في تحقيق المخطوطات -حسب الأستاذة الجابري- ، من القضايا التي تشغل وتؤرق بال المحققين، حيث إن لكل نص مميزاته التي ينفرد بها عن غيره ، لذا يستعصي توفر منهج واضح يصلح لكل التحقيقات، إلا أن هناك قاعدة عامة من الثوابت الأساسية تحول دون الخروج عن غاية التحقيق ؛ فالتحقيق له شروط وضوابط وضعها المختصون حرصا على العلمية، بغية إخراج النص في الصورة التي ارتضاها صاحبه .
وأكدت الجابري أن سلاح المحقق ثقافته الواسعة التي تضمن له التعامل الجيد مع المخطوط ، فالتحقيق فسحة النظر إلى ماضينا، واكتشاف ذواتنا من خلال أسلافنا ، ولا يتحقق ذلك سوى بتوكيد الاهتمام بما تحقق في الماضي، سعيا نحو وصل الزمنين، واعترافا بجهود القدماء .
«تحقيق النص البلاغي» كان عنوان مداخلة الأستاذ المعتمد الخراز ، استعرض من خلالها الجوانب المادية والمعرفية والجمالية للمخطوط، مفصلا في كل جانب على حدة، ومستعينا بمجموعة من الخطاطات التي عرضها على مشاهد الطلبة والحضور .كما أشار إلى أننا أمام جيل جديد يجهل المخطوطات، يجب أن يتعرف عليها أولا بواسطة إعادة الكتابة التي تخول له اكتساب لغة عربية عتيقة عند الممارسة والمران ، ليتمكن لاحقا من تصحيح أخطاء النساخ .
إن تأليف النصوص من حر القلم أيسر بكثير من تحقيق نص واحد، إذ تقتضي الأمانة العلمية من المحقق أن يتكبد مشقة التحري وتتبع ما خطه السلف، فالتحقيق مرحلة أساسية لكل باحث ، ولا يمكن النجاح دون الانطلاق منه .