«عبد الله العروي هو، وفق التعبير الجاري، مفكر غني عن التعريف، كما تدل على ذلك غزارة وتنوع إنتاجه، واتساق و عمق أطروحاته الفكرية، وكثرة ما كتب عنه (…).
«لقد اغتنمنا فرصة صدور كتابه الأخير «المغرب والحسن الثاني»، وإتمام عملية نشر مذكراته «خواطر الصباح» لنسعى إلى ملاقاته في حوار ـ مناقشة أردناه منصبا على الجوانب العملية. إذ حاولنا من خلال أسئلتنا أن نعرف بعض عناصر قراءة عبد الله العروي للتاريخ المغربي الراهن (1956 – 1999)، وكيف تلمس شخصيا، كمفكر وكمثقف وفاعل سياسي ملتزم، طريقه في متاهات زمن سياسي طبعته من بين ما طبعه المواجهات الدرامية والفرص الضائعة.
«قراءة عبد الله العروي لعهد الحسن الثاني وللتجربة السياسية المغربية المعاصرة بصفة عامة، تتميز، على غرار إنتاجه النظري، باستحضار متواصل للوقائع في تعقدها وتداخلها، مما يجعلها في قطيعة تامة مع النظرة المانوية والدوغمائية الإيديولوجية. فقد شدت انتباهنا في حديث العروي عن التاريخ والسياسة وموقعه الذاتي كـ «متفرج ملتزم» (عبارة وصف بها آنفا المفكر الفرنسي ريمون آرون)،
عناصر ثلاثة:
«- قراءة إرادوية للتاريخ كمسار منفتح يتحدد بأفكار واختيارات وأفعال البشر، وذلك بعيدا عن كل قدرية عمياء أو تأويل كلياني للتاريخ.
«- إصرار على إعمال العقل في وصف ومقارنة وتأويل الوقائع والأحداث، باعتباره الأداة المتوفرة للبشر لتنظيم وتأويل معيشهم. وهذه العقلانية النشطة باستمرار تجعل قراءة العروي للسياسة ـ عكس السائد في الحقل العربي ـ أبعد ما تكون عن المقولات الأخفاقية (الخير والشر).
«- ويتمخض عن العنصر السابق انحياز عميق للواقعية في الفكر والفعل السياسيين، وذلك ضد الطوباوية والرومانسية التي تؤثث الخطاب السياسي في المجال العربي ».
بهذه الفقرات الدالة افتتحت مجلة «مقدمات» عددها الصادر في صيف 2006، والذي تضمن ملفا عن فكر عبد الله العروي، وخاصة حوارا/نقاشا مطولا معه أجراه باحثون من هيئة تحرير المجلة في 25 نونبر 2005.
تعميما للفائدة، ونظرا لأهمية الحوار، نقدم ترجمته كاملة لقرائنا.
محمد الصغير جنجار:
نقترح أن يتمحور النقاش بين اعضاء هيئة تحرير «مقدمات» وذ. عبد الله العروي حول الكتب الأربع الأخيرة التي نشرها ضيفنا خلال السنوات الخمسة الأخيرة. تتضمن هذه النصوص نوعا من الوحدة الموضوعاتية، ذلك أن موضوعها هو التاريخ الحديث للمغرب ( 1956 – 1999 )، ويتعلق الأمر بالأجزاء الثلاث من «خواطر الصباح» المنشورة بين 2001 و 2003، والكتاب الأخير الموسوم بـ «المغرب والحسن الثاني» الصادر في 2005. جاء المؤلف الأول على شكل مذكرات سجل ضمنها الكاتب، يوما بعد يوم، ملاحظاته وانطباعاته وتحليلاته المتولدة عن بعض الأحداث التي أثرت فيه والتي حصلت بين 1967 و 1999 . ويمكن القول إن المؤلف جمع في هذه المذكرات المواد التي سيحللها لاحقا ضمن كتابه الأخير.
هكذا، فخواطر الصباح تشبه كراسات ملاحظات الأنثروبولوجيين أو التخطيطات الأولية للرسامين. ولذا فهذه المذكرات ضرورية بالنسبة لمن يريد قراءة «المغرب والحسن الثاني».
غني عن البيان أن هذا الكتاب الأخير كان منتظرا بتهلف، خاصة بعد نشر خبر صدوره في الصحافة. كان البعض ينتظر أن يضمنه عبد الله العروي معلومات مثيرة، وأن يكشف بين طياته بعض أسرار حكم الحسن الثاني، وهو تمرين عودتنا عليه عناوين صحفية وطنية وأجنيبة معينة منذ 1999.
الكتاب، في الواقع، نص تحليلي وتأملي يوظف المنظومة النظرية والأدوات التاريخية التي لم يتوقف المؤلف عن تطويرها منذ «الإيديولوجية العربية المعاصرة» (1967 ). ونظرا لكونه كذلك، فإن الكتاب خيب ظن الذين كانوا ينتظرون قراءة معلومات غير معروفة مدوية في صفحاته. وبالمقابل، اكتشف هؤلاء نصا جديدا في تركيبه (شهادة)، لكنه نص يتضمن العديد من عناصر الاستمرارية مع فكر تطور خلال مدة تفوق أربع عشريات.
طلبنا من ذ. عبد الله العروي النقاش مع ثلاثة باحثين، هم أعضاء في هيئة تحرير «مقدمات»، قرأوا مؤلفاته وسيحاولون عبر تساؤلاتهم وتأملاتهم، دعوته إلى تبيان فكر تميز، في الحقل الفكري العربي، بقوته النظرية و استمراريته وعمق تحليلاته لإشكالية الحداثة والتحديث والتأخر النظري للمجتمع المغربي.
الحسن الثاني، الوطنية والديموقراطية
حسن رشيق:
«المغرب والحسن الثاني» كتاب مكثف وغني بالمعلومات، الوثائق، التقييمات والشهادات. إنه يتضمن بورتريهات لفاعلين بصموا التاريخ السياسي الوطني، وأنا أتحدث هنا عن بورتريهات الحسن الثاني، بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، رضى اكديرة، وكذلك بورتريه علال الفاسي ولو بدرجة أقل. المؤلف ثري لدرجة تمنح القارئ سبلا عديدة لمقاربة مضمونه، وسأركز، من جانبي، على سبيلين اثنين: الأول يتعلق بالفاعلين والثاني بالكاتب نفسه.
سؤالي الأول هو التالي: ما المضمون الذي يمكن أن نعطيه للوطنية في مراحل ما قبل، أثناء وما بعد الحماية؟ بالطبع، لا يمكننا مناقشة شهادة على أساس كونها تحليلا ، او على أساس كونها إيديولوجية سياسية، ومع ذلك، سأتصرف كما لو أن عبد الله العروي يصوغ بعض التعريفات حول الوطنية، رغم أن هذا ليس بالضبط الموضوع المباشر للكتاب.
لماذا نزع الحظوة عن وضع الحسن الثاني كزعيم للوطنية؟ لماذا عدم إضفاء صفة وطني عليه، على غرار الآخرين، بالنسبة للمرحلة التي تمتد إلى 1974، مع بصم وطنيته بكونها مختلفة عن وطنية الآخرين بالطبع؟ تقول إن الحسن الثاني كان، إبان مروره بفلورانسا وهو ولي العرش، كان منذ ذاك رئيسا للحزب المناهض للوطنية؟
يجد هذا السؤال سنده في سببين اثنين. السبب الأول ذو طبيعة نظرية: يمكن للوطنية أن تتوافق مع الاستبداد، ذلك أنه لا يوجد، تاريخيا، تناقض بين أن يكون الإنسان وطنيا وعنصريا، ويكفي لتحقق هذا أن يمنح الولاء الأسمى للوطن.
ويمكن للإيديولوجيا أساس هذه الوطنية أن تكون التياسر، الشعبوية، الخ، كما تقول ذلك في كتابك. إن شكلا من أشكال الوطنية ينبعث عن المضمون الذي تضفيه على التقليد وإحياء التقليد لدى الحسن الثاني. لقد كان بهذا المعنى، وطنيا حيث فشلت الحركة الوطنية التاريخية، الكتلة والآخرون.
إذا ما رجعنا إلى الإنتاج العالم للحركة الوطنية الذي وصلنا على شكل كتب أو صحف مكتوبة، على سبيل المثال، فسنلاحظ أن أسس هذه الحركة كانت اللغة العربية، القومية العربية والإسلام. وقد تمت تعبئة الجماهير حول هذه الأسس وحول الانتماء للمغرب: «عاش المغرب». لم يكن الانتماء للمغرب يترجم عبر الكتابات، بل عبر المظاهرات والشعارات والملبس وعيد العرش، عبر الاحتفالات… لقد وضع أول عيد للعرش، مثلا، حدا فاصلا بين من هم مسلمون ومن هم عرب. لأول مرة أحتفل المغاربة بعيد بشكل مستقل، ليس بوصفهم مسلمين أو عربا، لكن بصفتهم مغاربة.
أصل الآن إلى سؤالي الثاني. ونحن نقرأك، نشعر أن الوطنية متعارضة مع كل ما هو خصوصي وكل ما هو تقليدي. أو بصيغة أخرى أنه لا يمكن للوطنية أن تتوافق لا مع التقليدانية وإعادة خلق التقليد، ولا مع القبلية والخصوصية والانتماء الأمازيغي، الخ. ونشعر أيضا أن هذا الموقف يتمفصل مع فكرة استحالة أن يكون مستبد وطنيا، وأنه كان يجب انتظار سنة 1974 ليصبح الحسن الثاني كذلك، وأنه لم يكن بإمكانه أن يصبح وطنيا إلا عبر اعتناق أطروحات الكتلة. بالفعل، لقد حصل تقارب في وجهات النظر بين الطرفين، لكنه تقارب بين أسلوبين لممارسة الوطنية. فعل الحسن الثاني ذلك بشكل مضمر، فطري، وربما يكون أحمد العلوي هو من وضح أكثر هذا النزوع أفضل من غيره. لماذا إذن تم قبول وطنية مستندة على «الشرع» من قبيل وطنية الحركة الوطنية الممثلة في الكتلة، وخاصة وطنية حزب الاستقلال، وفي نفس الوقت رفض الوطنية القائمة على التقليد نظرا لاعتبار أنها ليست وطنية؟ ومع هذا، فنحن نعلم أن الوطنية في العديد من الدول الأوربية قامت أولا على الثقافة، الحكايات واللهجات الشعبية. لقد شكل المحلي مصدرا للوطنية المغربية، والثقافة الشعبية حاضرة في هذه الوطنية.
عبد الله العروي:
لقد خصصت أطروحتي لدكتوراه الدولة للوطنية المغربية واستمر اهتمامي بالموضوع منذ ذاك. لقد قارنت إيديولوجيا الحسن الثاني التي وسمتها بالملكية، مع إيديولوجيا الوطنية كحزب وليس بوصفها مرادفة لمحبة للوطن. يمكن للمرء أن يكون محبا لوطنه دون أن يكون وطنيا. الوطنية، كما تطورت في المغرب في القرن التاسع عشر، تبدو جوهريا أنها من خلق الطبقة الكهنوتية بمكونيها الاثنين: طبقة العلماء «المستقلين»، أي الذين لم يكن ينفق عليهم المخزن، والآخرين، الكتاب، الذين كانوا موظفين لدى هذا المخزن. مما جعلني أعتقد، خلافا لما اعتقده بعض الباحثين ولما صرح به الوطنيون أنفسهم في حقبة معينة، أعتقد أنه لم تحدث قطيعة إبان قيام الحماية. إن من استلم المشعل هم سليلو هذه الطبقة الكهنوتية التي حاولت عصرنة البلاد، بتوافق مع العائلة العلوية الحاكمة خلال القرن التاسع عشر، والتي لم تنجح في مسعاها هذا. وهؤلاء هم من قالوا إبان الحصول على الاستقلال: المغرب الجديد من صنعنا.
والحال أن المنظرين الإيديولوجيين للحماية قاموا بتحليل مغاير لتاريخ المغرب. لقد كانوا يؤكدون على وجود مغربين: مغرب ناطق بالعربية وآخر بالأمازيغية، كما تمحورت سياستهم برمتها على الحفاظ عن هذه الازدواجية راسخة. مما أدى إلى أن الحركة الوطنية مجبرة، بقوة الواقع، على أن تظل أقلية، وذلك كيفما كانت شرعيتها التاريخية من جهة أخرى. نحن لا نتوفر على الإحصائيات، ورغم ذلك، وبما أن السكان الحضريين كانوا يمثلون بين 15% و 20% من مجموع السكان في 1955، وحتى لو أضفنا سكان المناطق القروية، فبإمكاننا التأكيد على أن الوطنيين، الموسومين كذلك على غرار الشيوعيين في البلدان الغربية، لم يكن باستطاعتهم أن يتجاوزوا ربع المغاربة. هكذا إذن، يتوفر لدينا تصوران اثنان: واحد سياسي والثاني سوسيولوجي. من يمثل البلاد سياسيا ومن يمثلها سوسيولوجيا؟ هذا هو النقاش الذي تواجهت عبره الوطنية كحزب مع الحسن الثاني. جوابا عن كل الذين كانوا يؤكدون عاليا وجهوريا: إننا نتكلم باسم جميع المغاربة، كان الحسن الثاني يرد: أنتم لا تمثلونهم جميعا لا سوسيولوجيا ولا تاريخيا. كان يعتقد أن المناطق القروية، بلاد السيبة في لغة المخزن والحماية، منغلقة في وجه الإيديولوجيا الوطنية. وفضلا عن ذلك، فقد كان متأثرا ثقافيا بإيديولوجيا لليمين الفرنسي مفادها أن الوطنيين جمهوريون بالقوة، يستمدون مشروعيتهم من الشعب وليس من التاريخ. وبصيغة أخرى، فإنه، بالنسبة للوطنيين، إذا كان هناك ملك، فلا يمكنه أن يكون سوى ملك المغاربة، وليس ملك المغرب. هكذا، ففي 1958، حين أسس الخطيب وأحرضان الحركة الشعبية وأعلنا نفسهما ناطقين باسم الأغلبية الصامتة، فإنها دعما تحليل الحسن الثاني الذي كان حينها ولي العهد فحسب.
وأنا أتناول كل هذه القضايا، فرض علي توضيح أنه كان ثمة معسكران، وأن الحسن الثاني، بفعل المصلحة السياسية والمعتقد الإيديولوجي، اختار خندقه، وذلك عبر احتضان ما أسميه المغرب الفولكلوري: الرزة، الجلباب، الفروسية، الخ.
بعدها، انضافت، إلى هذه الخصومة حول الشرعية التاريخية، مشكلة أكثر جدية وذلك أثناء صياغة الدستور. الحسن الثاني دافع بقوة عن الخصوصية المغربية، وعارض صراحة النزعة القومية العربية لدى اليسار، كما عارض بشكل أقل جلاء الإيديولوجية المالكية التقليدية لعلال الفاسي. هذا الأخير كان يريد، في أعماقه، تحويل النظام الملكي المغربي إلى خلافة أو إمامة شرعية. وهو ما رفضه الحسن الثاني، لأن ذلك كان سيقلص من اختصاصاته ويخلق مشاكل مستعصية مع الخارج. مثلما كان يرفض الديماغوجيا الشعبوية.
حين أقول هذا، فأنا أعطي للحسن الثاني بعد منظر سياسي، ملكي، متشبث بالشرعية ومناهض للوطنية التي لا يمكنها أن تكون، من وجهة نظره، إلا كليانية ويعقوبية، أي معادية للاختلافات الجهوية. وهي الاختلافات التي بذل الحسن الثاني كل ما في وسعه لكي لا تتلاشى. وإذ يُذكر الدستور أن للملك صيانة حقوق و حريات المواطنين و الجماعات، فإن هذا يشكل البصمة المميزة للمحافظة الليبرالية الأوربية، تلك التي تعتقد أنها هزمت الفكر الثوري في القرن التاسع عشر والشيوعية في القرن العشرين.
– محمد العيادي:
هناك إشارتان في كتابك تولدان التساؤل بالنسبة لمسألة الوطنية. أولا، تتحدث عن الحسن الثاني وقد تحول إلى زعيم يجادل الوطنيين، وتضيف أن هذا أثر على مفهوم الهيبة مما أدى إلى الانقلابين العسكريين. ثانيا، حين تشير إلى اختيار المساعدين، فإنك تتحدث على إفقاد الأفراد الجنسية، وإعادتهم للجماعات.
– عبد الله العروي:
لنحدد أولا مفهوم الزعيم: إنه القائد الذي يصل الحكم عن طريق انقلاب عسكري. انطلق الأمر في سوريا، ثم استمر بالتتابع في مصر، العراق، الجزائر، الخ. ولكي يصبح هذا القائد شعبيا، فإنه يتسلح بالديماغوجيا. الأمر يتعلق إذن بأسلوب في العمل السياسي، يبدأ بشكل لا واعي قبل أن يصبح مُقعّدا أكثر فأكثر في خطابات طويلة بل وكتب كذلك. في مرحلة معينة، تأثر الحسن الثاني بلا ريب بهذا الأسلوب. كان عليه أن يجد مساعدين لحكم البلاد. أين سيعثر عليهم؟ لقد كان عددهم جد محدود في الأحزاب، مما ولد شكلا جديدا من المنافسة مع الوطنيين.
إذا توفر لجهة حظ إنتاج شخص مقتدر، فإنه كان يتم اختياره ليصبح، بقوة الواقع وسواء سعى إلى ذلك أم لا، ممثل مصالح جهته لدى السلطة المركزية. وعلاقة بهذه الظاهرة، التي عرفناها جيدا والتي يمكن للذين عاشوا هذه الفترة أن يقدموا أسماء مرتبطة بها، فإنني استعملت صيغة إفقاد الجنسية. كان الفرد، بعد تأميمه داخل الحزب، يعود مجددا إلى أصوله طوعا أو كرها.
أما المجادلة، فهي تقلص دائما من قيمة كل من يتعاطاها بطيبة خاطر.
– محمد العيادي:
وماذا عن الإشكالية الجوهرية المتعلقة بالتناقض بين الوطنية والديمقراطية الجديدة؟
– عبد الله العروي:
في أيامنا هذه، وحتى في بلدان مثل الولايات المتحدة أو فرنسا، انطلقت التساؤلات حول العلاقات بين الجمهورية والديمقراطية. ويوجد مفهوم الدولة الوطنية في قلب هذه الإشكالية بالطبع. إذا ما استندنا إلى أرسطو، فإننا نلاحظ منحى الديمقراطية للتحول إلى ديماغوجيا. و هي تجد، اليوم، أفضل تعبير لها في إيديولوجيا حقوق الإنسان، الإيديولوجيا التي تدعو، كيفما كانت النتائج، إلى الدفاع عن حقوق الفرد في كل مكان ودائما، حتى حين يشكل ذلك مسا واضحا بمصالح الأمة والدولة. بينما من البديهي أنه يجب، من وجهة نظر الوطنية، التوقف عند حد معين، وأنه لا يمكن الذهاب إلى آخر حد في المنطق الديمقراطي. إننا ننسى وجود مذهب للحقوق المطلقة للفرد، مذهب معروف وجدير بالاحترام هو الفوضوية التي تطالب، بكل منطقية، بالتلاشي التدريجي للدولة. وإذا لم نذهب إلى هذا الحد، فإننا نقع في مآزق ونضطر للبحث على توافقات.
أعتقد جازما أنه من المستحيل تحديث بلد دون اعتماد النظام الديمقراطي. وحيث لا تتوفر شروط ذلك، فمن واجب القادة فعل كل شيء، بلا مماطلة، لخلق هذه الشروط، لأنه بدون ديمقراطية لا توجد مسؤولية سياسية. ومن جهة أخرى، كيف نحكم راهنا بلدا يسود فيه الفقر والأمية والزبونية؟ إنها مسألة تقدير، وليس من البديهي أنه بالاستطاعة القيام بالاختيار ذاته في كل مكان.
التقليد والثقافة السياسية
– محمد الطوزي:
«المغرب والحسن الثاني» مصدر ثري للمعلومات، شهادة رجل عاش عددا من الأحداث والأشياء. انطلاقا من هنا، يمكن أن نطرح عليك سؤالا لمعرفة الشروط التي أنجزت في رحمها تسلسل الأحداث. التسلسل يحيطنا علما بوضع الحدث لنقرأه ونفك شفرته. وبصيغة أخرى، نحن في حضرة كرونولوجيا لشيء ما يخترق المؤلف، أي بناء الدولة. ومع ذلك، من الواجب أن أسجل كون غياب بعض الأحداث من كرونولوجيتك، وهي أحداث ليست مهمة بالنسبة لك ربما، لكنها قد تكون كذلك بالنسبة لآخرين. أشير هنا إلى المحاكمات المختلفة والمتكررة. وبصفة شمولية، ما هو إذن الحدث الذي درسته بالنسبة لهذه الحقبة؟
– عبد الله العروي:
ربما هولت الوقائع وأنا أجعل من حكم الحسن الثاني مواجهة دائمة بينه وبين الخندق الوطني، مع حضور شاهد يشرح بين الفينة والأخرى لماذا يقول ما يقوله. لنذكر، مع ذلك، بأن الحسن الثاني لم يكن يكل ولا يمل من ترديد أنه عضو في عائلة المقاومين، وذلك خطابا إثر خطاب، وأن له الحق في انتقاد الأخطاء السياسية لرفاقه في السلاح. وفي رأيه، فالمحاوران الوحيدان الجديران بأن يتناقش معهما كانا علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، ذلك أن بن بركة عرف المصير المعلوم لدى الجميع. وكان يرد عليهما إما مباشرة وإما بواسطة أحمد العلوي. لم أخطئ تماما لما قدمت الأحداث كما فعلت. هل جعلت منه منظرا بالرغم منه؟ لقد حُكم المغاربة من طرف الحسن الثاني طوال 39 سنة، فهل سيكونون سعداء لو قيل لهم إنهم رُوضوا من قبل رجل بلا قدرات كبيرة؟
– حسن رشيق:
لنعد إلى سؤال الثقافة السياسية، ثمة طريقتان لتعظيم الأولياء، الأبطال، الملوك، الخ. تعتقد أنه كان يجب إقامة جنازة الحسن الثاني على أساس كونه بطلا وليس وليا. وتقول، وهذا صحيح، إننا لو كنا خضعنا لحماية ألمانية أو بريطانية، لعرفت جنازة الحسن الثاني مراسم عسكرية. قلت إن الأحزاب السياسية الوطنية كانت قليلة الإبداع لما طرحت عليها معالجة الذاكرة والمراسم.
– عبد الله العروي:
أصر على القول إن المثقف المغربي ينقصه الخيال.
– حسن رشيق:
كباحث أنثروبولوجي، أؤكد على وجود مئات التخصصات الثقافية… هناك ثقافة سياسية تنسى الشخص، التاريخ، تنسى الحدث بمجرد وقوعه. والحال أننا، حين نتكلم عن الديمقراطية، عن الوطنيين، الخ، فإننا نمتح من تراكم للذاكرات. لكنه ليس لدينا متحف تذكاري، في الدار البيضاء مثلا، كل ما نتوفر عليه يتمثل في أسماء شوارع مكرسة لبعض الوطنيين.
ولذا، فإن الثقافة الوطنية، ثقافة تكون ديمقراطية في الآن نفسه، تستحق علاقة مغايرة مع الماضي غير إعادة إحياء الطابع التقليدي. ليس هناك علاقة ديمقراطية «تقدمية» أخرى مع الماضي. كيف ترى علاقة مغايرة لا تكون تقليدية مع الماضي، العلاقة مع الأولياء، الأبطال والأحداث، الخ.
– عبد الله العروي:
يجب التذكير أننا كنا، إبان الحدث، نتوفر على حكومة تستحق هذا الاسم ورئيس حكومة كان يؤدي فعلا هذه المهمة. كان لدينا أمل في المضي نحو الإعمال التدريجي للدستور. وكان لزاما أن يدفع هذا الأفق المسؤولين، وفي مقدمتهم الحسن الثاني، إلى استشراف المستقبل. لكن روح الروتين منعتهم، حسب رأيي، من ذلك، وخاصة جدار التطير. لقد كان الحسن الثاني متطيرا على غرار كل المغاربة. ارجعوا إلى ما كتبته في هذا الصدد في «خواطر الصباح». ليس ثمة ما هو أكثر حزنا، أكثر إثارة للإحباط النفسي، من جنازات المسلمين. ذلك أن علاقتنا مع الموت شبه حيوانية، ومن ثمة، فمن العسير توضيحها والتفكير فيها، ثم تغييرها عقب ذلك. الطقس مثبت منذ قرون تحت عنوان «أدب الموت» في كتب التقاليد، وله دلالة قانونية، اجتماعية وأخلاقية كبيرة لدرجة لا يمكن معها لأي أحد التجرؤ على التفكير في إدخال أدنى تغيير عليه.
يمكن تفهم هذا الأمر على المستوى الشخصي، لكنه يمتلك، للأسف، تأثيرا على مستوى العقل العمومي. رئيس دولة ليس شيخ زاوية، ليس رب عائلة. ويجب التعامل معه على هذا الأساس (رئاسة الدولة)، لكننا نصدم في هذا المجال بالشعور المساواتي للمسلمين الذين يعتبرون الموت أكبر محقق للمساواة. لقد بقينا فعلا، بالنسبة لهذه النقطة، خارج سلطة روما التي كانت تضع نصب أعينها ترسيخ معنى الدولة لدى مواطنيها، فتنظم، من أجل بلوغ هدفها، بشكل فخيم تربع قادتها على العرش وجنازاتهم في نفس الآن، بل إنها كانت تذهب إلى حد تأليههم. وبالطبع، فالإسلام قد قام، منذ بدايته، ضد هذا الإفراط. لكنه مضى، بدون شك، أكثر من اللازم في الاتجاه المعاكس حيث نلاحظ، طوال تاريخنا، أن هذا أضعف معنى الدولة. وبما أننا غير مشاركين في هذا التقليد الروماني، فإن الجلوس على العرش والجنازة يتمان عندنا بارتجال، مما يفاجئ كثيرا ضيوفنا المنتمين لثقافات أخرى ويجعلهم يصفوننا بعدم النضج سياسيا. نحن لا ندفن أبدا الملك، بل أبانا جميعا. هذا أمر لطيف، هذا إنساني، إنساني أكثر من اللازم، والجميع يتذكر المثل القائل «ابن أو علي، سير أو خلي». في ظل هذه الشروط، كيف نرسخ إذن في العقول طموح بناء دولة قوية، غير مشخصنة، شيء غير ملموس لكنه منذور للبقاء؟ الحسن الثاني كان هو الوحيد القادر على فهم هذا الانشغال، لأنه ظل يحمل هم تشييد دولة تستحق صفتها هذه بجدارة، لكنه لم يكن ليتجرأ يوما على مس التقليد بسبب تطيره. ربما كان عقله سيقول نعم، لكن قلبه كان سيقول لا بكل تأكيد. هو ذا الحد الذي وصلنا إليه.
– محمد الصغير جنجار:
تقول إن الحسن الثاني كان يشعر بنوع من الحصر كلما تعلق الأمر بالقضايا الدينية. وهناك مثال تسوقه في هذا الإطار: كان يريد إصلاح التعليم، لكن طرح سؤال الدين في المدرسة كان يولد الانحصار في كل المستويات.
– عبد الله العروي:
مرة أخرى، هذه حالة جميع المغاربة. إنهم لا يتكلمون سوى على الدين، لكنهم لا يتحدثون عنه أبدا بروح نقدية أو ساخرة، بمعنى أنهم يخضعون له، لكن دون أن يشعروا به فعليا.
الدستور، إمارة المؤمنين وانتقال العرش
– محمد العيادي:
أشرت إلى المنافسة بين الوطنيين والحسن الثاني، الذي صار زعيما، وبسطت أطروحة علال الفاسي الذي كان يريد تحويل الملكية إلى خلافة، كما حددتها، وقيامها مكان الدولة. أربط هذا بتقييمك لدستور 62، وهو دستور تسمونه بالعلمانية، لكن شهودا مباشرين يؤكدون أن صيغته الأولى لم تكن تتضمن أي إشارة إلى إمارة المؤمنين. كيف تفسر إدراج هذا الفصل حول إمارة المؤمنين؟ كيف حدث الانزياح عن المنطق العلماني أو مسلسل العلمنة الذي كانت تشارك فيه الدولة والأحزاب السياسية قبل 65؟ وكيف يمكن أن نقارب مفهوم الإمامة في علاقته مع مسلسل إحياء التقليد الذي انتشر بعد 65؟ يبدو لي أنها أسئلة تستحق توضيحات أكثر.
النقطة الثانية: تقول إن الحسن الثاني كان وحده المؤهل لتغيير مراسم الجنازة، وأن هذا كان يجب أن ينجز من أجل نجاح انتقال العرش. تقول إنه كان بالإمكان انتقال العرش وتقديم البيعة وفق سيناريو آخر يمر عبر عمل الوزير الأول والبرلمان، وتضيف أن الحسن الثاني هو الوحيد الذي كان بإمكانه الإقدام على هذا التغيير.ألم يكن هذا سيشكل قطيعة مهمة في تاريخ السياسة المغربية؟
– عبد الله العروي:
أذكر أولا أن الحسن الثاني لم يكن يعير كثير أهمية لمنطوق الدستور في حد ذاته. لقد كان متيقنا أنه سيوظفه لصالحه في جميع الأحوال. ما يجب أن يهمنا إذن هو الممارسة السياسية. إذا طرحتم علي أسئلة تتعلق بالعقيدة، فسأجيبكم بأن مواقفي في هذا الصدد معبر عنها، في نفس الوقت، في الاستشهادات التي تفتتح فصول الكتاب وفي الملاحق الخاصة بالخصوصيات المغربية. لقد تحدثت ضمنها طويلا عن الإمامة وإمارة المؤمنين.
في القرن التاسع عشر، كان الحسن الأول يقيم تمييزا بين الشؤون المندرجة ضمن اختصاصات المخزن (الشؤون المخزنية) وتلك المتعلقة بالشرع. وكان واضحا للجميع أن الأمر يتعلق بمجالين مختلفين، وهو ما نتج عنه الفصل الوظيفي بين الكتاب والعلماء، حيث لم يكونوا يخضعون لنفس التكوين، ولم يكن لهم نفس الفكر، مثلما لم تكن علاقات السلطان مع الهرمين الوظيفيين متماثلة.
بعدها جاء الفرنسيون الذين عانوا الأمرين لتنظيم الحقل الديني في الجزائر، لدرجة أنهم لم يقروا مدونة الأسرة الخاصة بالمسلمين إلا قبيل الحرب العالمية الأولى، وهذا معطى كثيرا ما يتم إهماله.
ازدواجية السلطة التي وجدها الفرنسيون بالمغرب سهلت مأموريتهم. لقد بسطوا سيطرتهم كاملة على المخزن، أي الحكومة الدنيوية، بينما بقي السلطان الشريف يمارس دوره كرئيس لهرم العلماء التراتبي. لم تكن التسمية تهمهم (سلطان، إمام، خليفة، أمير المؤمنين)، فالسلطان بالنسبة لهم زعيم ديني، وهو ليس ملكا بالمعنى الغربي. وهذا هو الرأي الذي سعوا إلى مأسسته في 1955 بتعيينهم لبن عرفة سلطانا بمباركة حلفائهما، الگلاوي والكتاني.
مع الاستقلال، لم ينتبه الوطنيون إطلاقا لكون المسألة مستعجلة. وتم نقاشها في أوساط رجال الدين. اللقب لم يكن مهما بالنسبة للفرنسيين، لكنه كان كذلك بالنسبة للعلماء. ومحمد الخامس لم يعد سلطانا، بل صار ملكا، فهل هو أيضا، أو في نفس الوقت، خليفة، إمام، أمير المؤمنين، أمير المسلمين؟ وهو النقاش الذي حصل بين مختلف التيارات التقليدانية أو السلفية. الحسن الثاني، على غرار الوطنيين، لم يعر الموضوع كثير اهتمام حينها. لكنه استوعب أهميته شيئا فشيئا، وفي جميع الأحوال، فإنه فعل هذا أسرع من منافسيه. وحسب تحليلي، فإن الحسن الثاني، إذا كان قد قبل في نهاية المطاف حل إمارة المؤمنين المقترح رغم الإشكاليات الدينية التي يطرحها، فإنه أقدم على ذلك لوقف زيغان آخر كانت تمثله الخلافة المساندة من طرف علال الفاسي وعبد الله گنون، وهو المقترح الذي كان سيخلق مصاعب مستعصية الحل داخليا وخارجيا.
هل كان الوطنيون سيستفيدون من هذا النقاش لو أتيحت لهم فرصة المشاركة فيه؟ أعتقد ذلك. كان بإمكانهم التذكير بازدواجية السلطة في المغرب التقليدي وفي مغرب الحماية، وجعل هذا أساسا لانطلاق علمنة واقعية.
إن الموضوع صعب، ويستلزم توضيحات أكثر. ومع ذلك، لا يمكننا مؤاخذة وطنيي تلك الحقبة على عدم الاهتمام به، ذلك أننا نحن كذلك لا نتوفر على نظرة جلية حوله اليوم. يستشهد بعض الإسلاميين بابن حزم أو ابن تيمية، ويقولون إن العاهل الشرعي الوحيد هو أمير المؤمنين وإنه يجب توحيد السلطتين المدنية والدينية، المخزنية والشرعية، وذلك في قطيعة تامة مع التقاليد المغربية. وهم يغضون الطرف على كون الأول صاغ نظريته والأندلس على وشك التلاشي لأنها عجزت عن بناء دولة عقلانية مستقرة. أما الثاني، ابن تيمية، فقد أنشأ آلة حربية ضد التركمان الذين طردوا العرب من السلطة ولم يعترفوا لهم إلا بحظوة رمزية. المنظران معا لم يفعلا سوى القيام برد فعل حيال أزمة تدوم منذ قرون. فكيف نقدم ما شكل أصل الأزمة على أساس كونه حلا لها؟ ومع ذلك، فهذا ما يقوم به الناس الذين لا يمتلكون أي حس تاريخي، أية معرفة بالتسلسل الفعلي للأحداث.
– محمد العيادي:
سيناريو انتقال العرش!
– عبد الله العروي:
قضية انتقال العرش جد مهمة. وحولها اندلعت أول أزمة كبرى في الإسلام. وحول هذا الموضوع بالضبط، كان الحسن الثاني متشبعا بالشرعية بمعناها لدى الملكيات الغربية. ولذا، فرض انتقال العرش إلى الولد الأكبر سنا، وفعل هذا دون أن يعترض العلماء.
– محمد العيادي:
في الواقع، كنت أعني أساسا انتقال العرش في 1999 حين أثرت الموضوع، وفاة الحسن الثاني وتربع ابنه محمد السادس على العرش ودور البرلمان.
– عبد الله العروي:
من أجل فهم نمط تفكير الحسن الثاني، يجب الاهتمام بالجانب الآخر من تكوينه، الجانب التقليدي. ويتعلق الأمر بالعائلة، العلاقة مع الأم، آداب المعاشرة، الخ. وهنا نكون أمام مستوى شعوري أعمق من مستوى التحليل السياسي. نظريا، كان من الممكن إدخال عناصر تجديدية اعتمادا على الدستور. وعلى كل حال، فالملكية معرفة بكونها شعبية واجتماعية، وهكذا فإنه كان يكفي توسيع معنى الكلمات. بدل أن يضمن انتقال العرش عبر بيعة الأسرة، الحكومة ومجموعات مختلفة مثلما ظل هذا يحصل باستمرار، يمكن أن يتم ذلك من طرف الشعب ممثلا بالبرلمان. لقد مات الملك، لكن الدولة مستمرة. فمن يمثل هذه الاستمرارية خلال برهة وجيزة من الزمن؟ إنه الوزير الأول وهو يقف أمام ممثلي الشعب المجتمعين. مات الملك، عاش الملك، ليس ثمة قطيعة إذن. هكذا، نغادر المنطق العائلي، الشريف، لنلج منطق الدولة. وهذا لا يمنع المراسم الخاصة في أوساط العائلة. أما الجانب العسكري في تنظيم الجنازة، فهو يبرز أننا ندفن القائد، المنظم.
– محمد الصغير جنجار:
فيما يتعلق بما تسميه «المنعطف التقليدي»، ألا تظن أن اعتماد قانون للأحوال الشخصية، في 1957 _ 1958، متخلف بجلاء عن الاختيار التونسي المعتمد في نفس الحقبة، كان عملا دالا، علاوة على مباركة مختلف القوى السياسية المغربية له، وأنه شكل، منذ ذاك، مؤشرا على هذا التوجه التقليدي؟
-عبد الله العروي:
لا يمكن الحكم على نظام، كيفما كان، بدون أخذ وضع المجتمع بعين الاعتبار. نصف قرن بعد الاستقلال، توفرنا على وزير أول من اليسار، رجل قانون يعرف جيدا المعاهدات والمواثيق التي وقعت عليها البلاد، والذي عليه، من ثمة، تطبيقها. ومع ذلك، فقد كان هذا الوزير الأول عاجزا عن تطبيق برنامجه. لماذا؟ بكل بساطة، لأن المجتمع المغربي ليس مستعدا، في الواقع، لقبول مبدأ المساواة بين الجنسين.
لماذا تونس؟ لأنها كانت تنتمي، مبدئيا، للإمبراطورية العثمانية، وكان يجب، أوتوماتيكيا، أن تطبق بها الإصلاحات التي اعتمدتها هذه الأخيرة. الحماية الفرنسية هي التي أوقفت هذا العمل الإصلاحي. في 1955، كانت أغلبية النخبة التونسية متشبعة بالتغيير.
كان بإمكان الحسن الثاني فرض الإصلاح، لكنه لم يكن مقتنعا بضرورته، بأن الوقت ملائم. ومرة أخرى، لم يكن هذا رأيه بمفرده. راجعوا نصوص علال الفاسي، وحتى المهدي بن بركة، وسترون أن مشكلة الأسرة لم تكن في نظرهما مستعجلة. وهو ذات الموقف الذي ساد، طويلا، في أوساط أحزاب اليسار الأوربية. الدفاع عن النساء لم يجد مجالا مناسبا إلا في البلدان الأنجلو-ساكسونية البروتستانتية.
– محمد العيادي:
حين تتحدث عن الانتقال من عهد محمد الخامس إلى عهد الحسن الثاني، نشعر أنك تعتقد أنه كان ثمة، مع الأول، نزوع تحديثي، إصلاحي، بالنسبة لزوجته نفسها ولابنته، الخ، وأن الحسن الثاني كان أقل عصرية، أقل إصلاحية من والده.
– عبد الله العروي:
هذا رأيي، وهو يعتمد على التجربة التي عشتها. وبدون تكرار ما سبق لي قوله، فإنه من اللازم توضيح نقطة تتعلق بظروف نهاية نظام الحماية. الوطنيون سقطوا في فخهم الذاتي. لقد طالبوا، طوال سنين، بالتطبيق الحرفي لمعاهدة الخزيرات التي هي الإطار القانوني الدولي الذي يندرج في إطاره عقد الحماية لمارس 1912. إن إلغاء الثاني، يجعلنا في مواجهة الأول. والحال أن معاهدة الخزيرات تشير إلى سيادة السلطان، وليس إلى سيادة المغرب. هكذا، وجد محمد الخامس نفسه، في 1955، متوفرا على مجمل سلطات الحسن الأول. في تلك الفترة، لم يكن أحد واعيا بالأمر، باستثناء الحسن الثاني ربما.
لو كان الإنجليز محل الفرنسيين، لقالوا بدون شك: نعيد لكم السيادة، لكن شرط أن تُعملوا حالا مسلسلا تفوضونها عبره لممثلين منتخبين، مثلما فوضتموها لنا في الماضي. لم يفعل الفرنسيون هذا، فوجدنا نفسنا في نقطة البداية. وفي 1958، استخلصت النتائج. طالما ليست هناك انتخابات، فلا حزب يمثل الشعب، إن العاهل هو الذي يجسد الإرادة الشعبية مثلما كان عليه الأمر دائما. وهذا هو أصل الدستور الممنوح.
هو ذا المنحى الذي يجعلني أعتقد أن مرحلة محمد الخامس كانت انتقالية، مرحلة كان كل شيء ممكنا خلالها. مع الحسن الثاني، الرسالة صارت واضحة: هناك أغلبية سوسيولوجية وأنا أمثلها، وباسمها أحكم بلا شريك. ولما ستتغير هذه الأغلبية، آنذاك سنتناقش. وكان يجب أن تمر ثلاثون سنة ليعترف بأن التغيير حصل، وحينها قبل بتقاسم السلطة، ليس بتفويضها.
– محمد الطوزي:
أود العودة إلى مسألة مسلسل إحياء التقليد الذي قدمت توصيفا جيدا له. أليس من الممكن، على المستوى المصطلحي، مقارنة فعل إحياء التقليد هذا، وهو فعل مفكر فيه بروية أحيانا، بتعبيره المنزلي «القاعدة»، إذ ثمة، في نفس الوقت، إجبارية عدم خرقها وضرورة تغييرها، وذلك عبر خطاب إيديولوجي مفاده عدم التغيير. هل يمكن مقارنة هذه «القاعدة» مع مفهوم إحياء التقليد كما طبقته على إنجلترا العهد الفيكتوري في القرن التاسع عشر؟
– عبد الله العروي:
الذي يجب معرفته، هو كيف يبنى التقليد. يتم تعريف التقليد، عامة، على أساس أفكار، لكن الجوهري هو المعيش، الموقف اليومي. الجميع يساهم في التقليد في مجتمع مثل المغرب. لقد قدمت محاضرة حول التربية أمام أعضاء أكاديمية المملكة الذين كانوا قد أمضوا خمس سنوات لمحاولة صياغة تعريف للتربية. قدمت ملاحظات مفادها أن التربية، بمعناها الواسع، تتم على عدة مستويات، وأن التربية المهيمنة في المغرب هي تلك المنبثقة من الزوايا. ومن الزاوية، انبسطت لتشمل الأسرة، الحرفة، المخزن، بل وحتى القبيلة. ويخلف هذا النموذج آثارا في السلوكات (تقبيل اليد)، المصطلحات المستعملة. فهناك الكلمات التي يجب قولها في هذه الحالة أو تلك، الأمثال التي تؤثث بالضرورة الخطاب، الخ. هذا هو المسلسل الذي حاولت توصيفه في نصي «أن تكون مغربيا».
بدون هذا، لا يمكن شرح التشابهات السلوكية داخل جميع شرائح المجتمع المغربي بمختلف لهجاتها. إن هذا التشابه ينجلي أكثر في حضرة الآخرين. قرأت مؤخرا كتاب المذكرات السياسية لميشيل روكار، وهو يصف ضمنه كيف كان يذهب إلى 115، شارع سان ميشيل، مقر جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، حيث كان يلتقي بأصدقاء جزائريين وتونسيين. والحال أننا، نحن الطلبة المغاربة، لم نكن نذهب هناك إلا نادرا، كنا نفضل المكوث مع بعضنا البعض، في شارع لاسيربونت.
هذه التربية المنتشرة هي التي تفسر، حسب اعتقادي، التقليدية العميقة في مجتمعنا، وتشرح، إلى حد ما، نفَس الأسلمة الذي نلاحظه راهنا، وهو نفس له خصوصيات حسب ما يبدو لي.
– محمد الطوزي:
من الواضح، في كتاب «المغرب والحسن الثاني»، أن هناك مجازفة كبيرة من طرف المثقف إزاء كل هذه القضايا. وأضع بالتوازي هذه المجازفة مع صعوبة المحافظة على وضع المثقف في هذا البلد واستحالة التموقع خارج المجموعة، ويحاول النص تجاوز هذا الوضع. إنك تشهد داخل المدينة، تشهد على علائق البعض بالبعض الآخر. هل يستطيع المثقف، في هذا السياق ونظرا لوضع هذا النص الذي يتضمن شهادة، أن يصمد من خلال
هذا السعي، التأملي شيئا ما، والذي سبق لك أن تناولته في مؤلفاتك الأولى ومنها «أزمة المثقفين العرب»؟ وهل هناك، ارتباطا مع هذا وفي سياق البناء الوطني غير المكتمل، علما أنك تطالب بوطنية المواطنين، هل هناك مكان، هامش لهذا التمرين في رحم ذات التوتر الذي سجلته بين الديموقراطية والوطن، الملكية والجمهورية، الفرد والجماعة؟
– عبد الله العروي:
أعرف، منذ وقت طويل، أن العجين التاريخي ليس لينا جدا. وإدراكي للواقع هو الذي أبعدني دائما عن الحساسية المتياسرة. في البداية، كان فكري يشمل كل العالم العربي، بعدها ركزت دراساتي حول المغرب ولاحظت بجلاء أنه أكثر تقليدية مما كان يبدو لنا بعد الاستقلال. مما دفعني إلى الإقرار، كرها أو طوعا، بأن الحسن الثاني لم يكن، مقارنة مع الوطنيين، يخاطر. لقد كان هؤلاء، وخاصة الفعاليون مثل المهدي بن بركة، يعتقدون أن كل شيء رهين بالإرادة.
في ظل هذه الشروط، يتمثل دور المثقف في البقاء جد قريب من الواقع ومن ثمة التذكير، دائما وأبدا، بالبديهيات. ليس عليه لعب هذه الورقة أو تلك للانتماء للأغلبية أو لحشد التصفيقات لصالحه أو للتسلق وظيفيا. في مجتمع حيث الفكر العلمي ليس مهيمنا تحديدا، وفي انتظار تشكل نخبة علمية كثيرة العدد ومؤثرة، فمن واجبه هو (المثقف) التعبير عن سعة الموضوعي. تريدون بلوغ الهدف كذا، عليكم إذن سلك هذه الطريق وليس ثمة بديل آخر، هو ذا عمق خطابه، خطاب طبيب لمريض (والصورة هذه تابثة لدى المصلحين).
من السهل التعليق: لا تقدم شيئا جديدا، تطلب منا أن نقلد الآخرين، أن نتخلى عن تقاليدنا، أن نمسخ هويتنا، أن نخون روحنا، وكل ذلك بدون ضمانات للنجاح. الرد قوي، وهو، على الخصوص، سهل الاستيعاب من طرف الحشود الأمية أو شبه المتعلمة، لكنه رد بلا تأثير في الواقع. ويآتي هذا الرد السلبي من قبل جزء من النخبة، المحبطة أو الباحثة عن مصالح. كان بعض الاقتصاديين يقولون، مدعمين بالأرقام، إن المركز لن يترك إطلاقا دول المحيط ترقى إلى مستواه، وإنه من الضروري قطع كل صلة بالسوق العالمية. من يتذكرهم اليوم؟ لقد ظللت أعتقد، وذلك منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، أن القطيعة مفهوم فارغ، أن الهدف الحقيقي للسياسة البولشفية (مكر التاريخ) هو تهيئ المجتمع لاقتصاد السوق، وأنه، بعد بلوغ هذا الهدف، سيتم التخلي على الاقتصاد الموجه. كنت أستنتج هذه الخلاصة من الكتابات الماركسية نفسها، كما يبين ذلك النص الذي كتبته في 1968 بطلب من اليونسكو بمناسبة إحيائها الذكرى المائوية لصدور كتاب الرآسمال.
في ظل وضع متميز باختلاف جلي بين قيم ثقافية، اختلاف مآله غير محسوم، في ظل هذا الوضع يكون الموقف الشريف للمثقف، المتحرر من كل القيود، هو التذكير بالمنطق الذي ينطوي عليه ذلك الوضع، أي تحديد عناصر تجاوز الأزمة. أما مسألة معرفة متى سيتكون ذلك ممكنا، بعد خمس أو عشرة سنوات أو خمسين سنة أو أبدا، فهو لايستطيع التنبؤ بها، إنه ليس مجبرا على تقمص دور العراف.
يمكن لقائل أن يقول: وإذا كنت في وضع الفاعل؟ إننا، في هذه الحالة، لا نبقى أمام مثقف، بل مصلح. سبق وقلت إن الزعيم لا يمكنه شرعنة (تاريخيا وليس سياسيا فقط) سلطته إلا إذا هيأ المجتمع للاستغناء عنه.
– محمد الصغير جنجار:
فيما يتعلق بما تسميه «المنعطف التقليدي»، ألا تظن أن اعتماد قانون للأحوال الشخصية، في 1957 _ 1958، متخلف بجلاء عن الاختيار التونسي المعتمد في نفس الحقبة، كان عملا دالا، علاوة على مباركة مختلف القوى السياسية المغربية له، وأنه شكل، منذ ذاك، مؤشرا على هذا التوجه التقليدي؟
-عبد الله العروي:
لا يمكن الحكم على نظام، كيفما كان، بدون أخذ وضع المجتمع بعين الاعتبار. نصف قرن بعد الاستقلال، توفرنا على وزير أول من اليسار، رجل قانون يعرف جيدا المعاهدات والمواثيق التي وقعت عليها البلاد، والذي عليه، من ثمة، تطبيقها. ومع ذلك، فقد كان هذا الوزير الأول عاجزا عن تطبيق برنامجه. لماذا؟ بكل بساطة، لأن المجتمع المغربي ليس مستعدا، في الواقع، لقبول مبدأ المساواة بين الجنسين.
لماذا تونس؟ لأنها كانت تنتمي، مبدئيا، للإمبراطورية العثمانية، وكان يجب، أوتوماتيكيا، أن تطبق بها الإصلاحات التي اعتمدتها هذه الأخيرة. الحماية الفرنسية هي التي أوقفت هذا العمل الإصلاحي. في 1955، كانت أغلبية النخبة التونسية متشبعة بالتغيير.
كان بإمكان الحسن الثاني فرض الإصلاح، لكنه لم يكن مقتنعا بضرورته، بأن الوقت ملائم. ومرة أخرى، لم يكن هذا رأيه بمفرده. راجعوا نصوص علال الفاسي، وحتى المهدي بن بركة، وسترون أن مشكلة الأسرة لم تكن في نظرهما مستعجلة. وهو ذات الموقف الذي ساد، طويلا، في أوساط أحزاب اليسار الأوربية. الدفاع عن النساء لم يجد مجالا مناسبا إلا في البلدان الأنجلو-ساكسونية البروتستانتية.
– محمد العيادي:
حين تتحدث عن الانتقال من عهد محمد الخامس إلى عهد الحسن الثاني، نشعر أنك تعتقد أنه كان ثمة، مع الأول، نزوع تحديثي، إصلاحي، بالنسبة لزوجته نفسها ولابنته، الخ، وأن الحسن الثاني كان أقل عصرية، أقل إصلاحية من والده.
– عبد الله العروي:
هذا رأيي، وهو يعتمد على التجربة التي عشتها. وبدون تكرار ما سبق لي قوله، فإنه من اللازم توضيح نقطة تتعلق بظروف نهاية نظام الحماية. الوطنيون سقطوا في فخهم الذاتي. لقد طالبوا، طوال سنين، بالتطبيق الحرفي لمعاهدة الخزيرات التي هي الإطار القانوني الدولي الذي يندرج في إطاره عقد الحماية لمارس 1912. إن إلغاء الثاني، يجعلنا في مواجهة الأول. والحال أن معاهدة الخزيرات تشير إلى سيادة السلطان، وليس إلى سيادة المغرب. هكذا، وجد محمد الخامس نفسه، في 1955، متوفرا على مجمل سلطات الحسن الأول. في تلك الفترة، لم يكن أحد واعيا بالأمر، باستثناء الحسن الثاني ربما.
لو كان الإنجليز محل الفرنسيين، لقالوا بدون شك: نعيد لكم السيادة، لكن شرط أن تُعملوا حالا مسلسلا تفوضونها عبره لممثلين منتخبين، مثلما فوضتموها لنا في الماضي. لم يفعل الفرنسيون هذا، فوجدنا نفسنا في نقطة البداية. وفي 1958، استخلصت النتائج. طالما ليست هناك انتخابات، فلا حزب يمثل الشعب، إن العاهل هو الذي يجسد الإرادة الشعبية مثلما كان عليه الأمر دائما. وهذا هو أصل الدستور الممنوح.
هو ذا المنحى الذي يجعلني أعتقد أن مرحلة محمد الخامس كانت انتقالية، مرحلة كان كل شيء ممكنا خلالها. مع الحسن الثاني، الرسالة صارت واضحة: هناك أغلبية سوسيولوجية وأنا أمثلها، وباسمها أحكم بلا شريك. ولما ستتغير هذه الأغلبية، آنذاك سنتناقش. وكان يجب أن تمر ثلاثون سنة ليعترف بأن التغيير حصل، وحينها قبل بتقاسم السلطة، ليس بتفويضها.
– محمد الطوزي:
أود العودة إلى مسألة مسلسل إحياء التقليد الذي قدمت توصيفا جيدا له. أليس من الممكن، على المستوى المصطلحي، مقارنة فعل إحياء التقليد هذا، وهو فعل مفكر فيه بروية أحيانا، بتعبيره المنزلي «القاعدة»، إذ ثمة، في نفس الوقت، إجبارية عدم خرقها وضرورة تغييرها، وذلك عبر خطاب إيديولوجي مفاده عدم التغيير. هل يمكن مقارنة هذه «القاعدة» مع مفهوم إحياء التقليد كما طبقته على إنجلترا العهد الفيكتوري في القرن التاسع عشر؟
– عبد الله العروي:
الذي يجب معرفته، هو كيف يبنى التقليد. يتم تعريف التقليد، عامة، على أساس أفكار، لكن الجوهري هو المعيش، الموقف اليومي. الجميع يساهم في التقليد في مجتمع مثل المغرب. لقد قدمت محاضرة حول التربية أمام أعضاء أكاديمية المملكة الذين كانوا قد أمضوا خمس سنوات لمحاولة صياغة تعريف للتربية. قدمت ملاحظات مفادها أن التربية، بمعناها الواسع، تتم على عدة مستويات، وأن التربية المهيمنة في المغرب هي تلك المنبثقة من الزوايا. ومن الزاوية، انبسطت لتشمل الأسرة، الحرفة، المخزن، بل وحتى القبيلة. ويخلف هذا النموذج آثارا في السلوكات (تقبيل اليد)، المصطلحات المستعملة. فهناك الكلمات التي يجب قولها في هذه الحالة أو تلك، الأمثال التي تؤثث بالضرورة الخطاب، الخ. هذا هو المسلسل الذي حاولت توصيفه في نصي «أن تكون مغربيا».
بدون هذا، لا يمكن شرح التشابهات السلوكية داخل جميع شرائح المجتمع المغربي بمختلف لهجاتها. إن هذا التشابه ينجلي أكثر في حضرة الآخرين. قرأت مؤخرا كتاب المذكرات السياسية لميشيل روكار، وهو يصف ضمنه كيف كان يذهب إلى 115، شارع سان ميشيل، مقر جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، حيث كان يلتقي بأصدقاء جزائريين وتونسيين. والحال أننا، نحن الطلبة المغاربة، لم نكن نذهب هناك إلا نادرا، كنا نفضل المكوث مع بعضنا البعض، في شارع لاسيربونت.
هذه التربية المنتشرة هي التي تفسر، حسب اعتقادي، التقليدية العميقة في مجتمعنا، وتشرح، إلى حد ما، نفَس الأسلمة الذي نلاحظه راهنا، وهو نفس له خصوصيات حسب ما يبدو لي.
– محمد الطوزي:
من الواضح، في كتاب «المغرب والحسن الثاني»، أن هناك مجازفة كبيرة من طرف المثقف إزاء كل هذه القضايا. وأضع بالتوازي هذه المجازفة مع صعوبة المحافظة على وضع المثقف في هذا البلد واستحالة التموقع خارج المجموعة، ويحاول النص تجاوز هذا الوضع. إنك تشهد داخل المدينة، تشهد على علائق البعض بالبعض الآخر. هل يستطيع المثقف، في هذا السياق ونظرا لوضع هذا النص الذي يتضمن شهادة، أن يصمد من خلال
هذا السعي، التأملي شيئا ما، والذي سبق لك أن تناولته في مؤلفاتك الأولى ومنها «أزمة المثقفين العرب»؟ وهل هناك، ارتباطا مع هذا وفي سياق البناء الوطني غير المكتمل، علما أنك تطالب بوطنية المواطنين، هل هناك مكان، هامش لهذا التمرين في رحم ذات التوتر الذي سجلته بين الديموقراطية والوطن، الملكية والجمهورية، الفرد والجماعة؟
– عبد الله العروي:
أعرف، منذ وقت طويل، أن العجين التاريخي ليس لينا جدا. وإدراكي للواقع هو الذي أبعدني دائما عن الحساسية المتياسرة. في البداية، كان فكري يشمل كل العالم العربي، بعدها ركزت دراساتي حول المغرب ولاحظت بجلاء أنه أكثر تقليدية مما كان يبدو لنا بعد الاستقلال. مما دفعني إلى الإقرار، كرها أو طوعا، بأن الحسن الثاني لم يكن، مقارنة مع الوطنيين، يخاطر. لقد كان هؤلاء، وخاصة الفعاليون مثل المهدي بن بركة، يعتقدون أن كل شيء رهين بالإرادة.
في ظل هذه الشروط، يتمثل دور المثقف في البقاء جد قريب من الواقع ومن ثمة التذكير، دائما وأبدا، بالبديهيات. ليس عليه لعب هذه الورقة أو تلك للانتماء للأغلبية أو لحشد التصفيقات لصالحه أو للتسلق وظيفيا. في مجتمع حيث الفكر العلمي ليس مهيمنا تحديدا، وفي انتظار تشكل نخبة علمية كثيرة العدد ومؤثرة، فمن واجبه هو (المثقف) التعبير عن سعة الموضوعي. تريدون بلوغ الهدف كذا، عليكم إذن سلك هذه الطريق وليس ثمة بديل آخر، هو ذا عمق خطابه، خطاب طبيب لمريض (والصورة هذه تابثة لدى المصلحين).
من السهل التعليق: لا تقدم شيئا جديدا، تطلب منا أن نقلد الآخرين، أن نتخلى عن تقاليدنا، أن نمسخ هويتنا، أن نخون روحنا، وكل ذلك بدون ضمانات للنجاح. الرد قوي، وهو، على الخصوص، سهل الاستيعاب من طرف الحشود الأمية أو شبه المتعلمة، لكنه رد بلا تأثير في الواقع. ويآتي هذا الرد السلبي من قبل جزء من النخبة، المحبطة أو الباحثة عن مصالح. كان بعض الاقتصاديين يقولون، مدعمين بالأرقام، إن المركز لن يترك إطلاقا دول المحيط ترقى إلى مستواه، وإنه من الضروري قطع كل صلة بالسوق العالمية. من يتذكرهم اليوم؟ لقد ظللت أعتقد، وذلك منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، أن القطيعة مفهوم فارغ، أن الهدف الحقيقي للسياسة البولشفية (مكر التاريخ) هو تهيئ المجتمع لاقتصاد السوق، وأنه، بعد بلوغ هذا الهدف، سيتم التخلي على الاقتصاد الموجه. كنت أستنتج هذه الخلاصة من الكتابات الماركسية نفسها، كما يبين ذلك النص الذي كتبته في 1968 بطلب من اليونسكو بمناسبة إحيائها الذكرى المائوية لصدور كتاب الرآسمال.
في ظل وضع متميز باختلاف جلي بين قيم ثقافية، اختلاف مآله غير محسوم، في ظل هذا الوضع يكون الموقف الشريف للمثقف، المتحرر من كل القيود، هو التذكير بالمنطق الذي ينطوي عليه ذلك الوضع، أي تحديد عناصر تجاوز الأزمة. أما مسألة معرفة متى سيتكون ذلك ممكنا، بعد خمس أو عشرة سنوات أو خمسين سنة أو أبدا، فهو لايستطيع التنبؤ بها، إنه ليس مجبرا على تقمص دور العراف.
يمكن لقائل أن يقول: وإذا كنت في وضع الفاعل؟ إننا، في هذه الحالة، لا نبقى أمام مثقف، بل مصلح. سبق وقلت إن الزعيم لا يمكنه شرعنة (تاريخيا وليس سياسيا فقط) سلطته إلا إذا هيأ المجتمع للاستغناء عنه.
الحسن الثاني كان مصلحا في العديد من المجالات، لقد شيد دولة، نظم بيروقراطية، الخ. لكنه، وهذا ما سجلته جيدا، لم يجدد الثقافة المغربية، بالمعنى الشامل للكلمة، واكتفى باعتماد ازدواجية ثقافية عقيمة في رأيي. ومع هذا لا يمكنني، كمؤرخ، إلا أن أقر أنه كان على انسجام مع أغلبية الشعب المغربي حول هذه النقطة، أن محافظته الثقافية كانت أساس مشروعيته السياسية. ونحن نسعى، في إطار نقاشنا الحالي، إلى توضيح مشروعيته التاريخية.
بيد أنه علي أن أضيف، لأكون منصفا، أن كل ثورة ثقافية تتضمن خطرا بالغا بعدم الاستقرار. يمكننا أن نفهم تردد مسؤول، وخاصة لما يتعلق الأمر بملك، أمام خطر من هذا القبيل. لقد أعقبت كل الإصلاحات الكبرى، تلك التي يتحدث عنها المؤرخون، دائما انتفاضات اجتماعية، عميقة ومستديمة. هل يمكننا أن نتمنى هذا؟ هل لدينا الحق أن نتمنى حدوث عاصفة كثمن لولوجنا خشبة الإصلاح؟ سؤال ليس من اليسير الجواب عنه. ولهذا السبب أكدت على ظاهرة الجزرية. المغرب جزيرة مطوقة لا يمكن في نطاقها السماح للنفس بالمغامرة بعدم الاستقرار. لم أكن لأقول هذا لو أنني لا أستشعره بعمق.
– ج. السفطاوي:
رسمت بورتريها لامعا للحسن الثاني. بينما بدت صورة بقية الشخصيات السياسية شاحبة بقلمك، وذلك رغم القيمة الإنسانية والفكرية للفاعلين السياسيين المغاربة. كيف تفسر تفوق الحسن الثاني هذا؟ لماذا لم يستطع المحيطون به الارتقاء إلى مستواه في مجال التدبير السياسي؟ كيف يمكن لرجال ونساء السياسة اليوم بلوغ مثل هذا المستوى؟ ما الوصفة، في حالة وجود وصفة، التي عليهم التوفر عليها من أجل ذلك؟
– عبد الله العروي:
لا أظن أنني أنجزت بورتريها محايدا، حتى لا أقول سلبيا، لبوعبيد مثلا. أما بن بركة فهو حالة خاصة لأن قدره تعرض للتهشيم، كما سبق لي الحديث، في سياقات أخرى، عما كان يربطني به، مما يمنحني الحق في الحكم عليه هنا كمؤرخ. لم يكن سيغضب مما كتبته، وقد سبق لي قول ذلك له مباشرة. ومن جانب آخر، فإنني لم أمدح الحسن الثاني بالقدر الذي قيل، وأظنكم الآن قد تيقنتم من هذا.
كان لنا أستاذ للغة الفرنسية في ليسي غورو بالرباط، غابرييل جرمان، عاش سنوات طويلة في سلا ووصف تجربته المغربية في كتاب، « النظرة الداخلية»، صدر في 1968. في كتابه، تحدث عن عيب كبير لدى المغاربة هو الطمع ( ‘tma، هكذا كتب الكلمة ربما بسبب غياب مقابل دقيق لها في اللغة الفرنسية). المغرب كان دائما بلد الندرة، وهو كذلك إلى الآن، وهنا يمكن تفسير الظاهرة ربما. وسواء كان جرمان محقا أم لا، فإنه ليس بالإمكان إصدار حكم على السلوك السياسي، على التكتيك السياسي، إذا لم نوظف علم النفس. وهذا يتماشى مع ما قلته حول التربية، خاصة تربية الزوايا.
يتبع
13.10.2010