في معنى تخليد المناسبة بطريقة عادية
كانت الرسالة مقتضبة، حادة ومباشرة، في ذلك اليوم القائظ من يونيو الماضي، حيث أفاد بلاغ لوزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، «أن مختلف المؤسسات والهيئات والفعاليات الوطنية، مدعوة لتخليد هذه المناسبة السعيدة بطريقة عادية، ودون أي مظاهر إضافية أو خاصة»…
لماذا وضع البلاغ الطريقة التي يجب أن تتم بها الاحتفالات والهدف منها هذه السنة، بهذا الشكل المتقشف، بالرغم من أن عشرين سنة في العمر، تكون ذات إغراء كبير بالاحتفال، حتى بالنسبة لحياة الأفراد البسطاء، فما بالك بعشرين سنة من حكم ملكي أحدث رجة تاريخية في بلاده؟
يبدو أن القصد من وراء ذلك، ألا يكون للناس حجة بإفراغ أسلوب الحكم وطريقة تدبيره السلسة، من كل رمزياته المؤسسة، وأولها البساطة والجدية، والابتعاد عن كل ما غير عاد أوهو في حكم المظاهر الإضافية أو الخاصة..
لم يتم التركيز على هذا الخبر الصغير والبسيط ولكنه فارق ومفارق..
وقد يكون عنوانه، هو عنوان المعنى المراد من عقدين من الحكم الملكي للملك محمد السادس.
ولعل جزءا من الجواب أيضا يكمن في أنه كانت هناك نزعة احتفالية مفاجئة، قد تملكت جزءا من صناع القرار الترابي – ويسهل هنا التحدث عن معرفة بالموضوع – فأوقف الديوان الملكي كل مبالغة في الاحتفال، أو تفاخر وتفخيم، قد لا يعكس المعنى الذي يريده ملك البلاد من معنى الاحتفال بالذكرى العشرين.
أي فرصة للحصيلة والقراءة المتأنية، والفاحصة، التي تلتزم الخيط الناظم الذي سبق أن كشف بعضه ملك البلاد في ذكرى سابقة، عندما تحدث بلغة قاسية وصريحة عن المؤشرات الاجتماعية…
تلك بصمته منذ اعتلى العرش….
زاوية أخرى تفتح نفسها لقراءة العشرين سنة الماضية.
وقد أعطى جلالته قبسا مما يجب أن تكون عليه لغة ملك البلاد في الذكرى 18 من عيد العرش.
كانت اللغة لا تفسح المجال للاحتفالية المبالغ فيها، وإن كانت تفتح الأمل والتفاؤل على مصراعيهما..
قال الملك:
«إني أعتز بخدمتك حتى آخر رمق، لأنني تربيت على حب الوطن، وعلى خدمة أبنائه.
وأعاهدك الله، على مواصلة العمل الصادق، وعلى التجاوب مع مطالبك، ولتحقيق تطلعاتك.
واسمح لي أن أعبر لك عن صادق شعوري، وكل ما يخالج صدري، بعد ثماني عشرة سنة، من تحمل أمانة قيادتك. لأنه لا يمكن لي أن أخفي عنك بعض المسائل، التي تعرفها حق المعرفة. ومن واجبي أن أقول لك الحقيقة، وإلا سأكون مخطئا في حقك».
وأضاف الملك :«أنا لا أريد، شعبي العزيز، أن تظن بعد الاستماع إلى هذا الخطاب أني متشائم، أبدا… فأنت تعرف أني واقعي، وأقول الحقيقة، ولو كانت قاسية. والتشاؤم هو انعدام الإرادة، وغياب الآفاق والنظرة الحقيقية للواقع».
إن خطابا بهذه الحمولة الصادقة والقوية، لا يمكن أن ننتظر منه المصادقة على ما نبه إليه بلاغ الديوان، أي «مظاهر إضافية أو خاصة…».
بداية ثانية من خطاب التنصيب
ولعل البداية تكون من أول خطاب للعرش ألقاه محمد السادس، يوم 30 يوليوز 1999 كأرضية تأسيسية للتعاقد وأجندة لما قدَّرتْه الإرادة الملكية وقتها كمحاور كبرى للحكم، سواء بما ورثه الملك الجديد من قضايا مزمنة، أو بما توقعه من أهداف كبرى للعهد الجديد..
نعود إلى مضامين ذلك الخطاب الأول..، الى خطاب التنصيب والأجندة المعلنة بناء على ما اعتبرته الإرادة الملكية أفق انتطار المغاربة وقتها.. أو قدرت أنه من الأسس المتعلقة بالدولة ..
* تحدث الملك، وهو قريب جدا من ظل والده، وسيرة حكمه، وبصماته القوية في تكييف مزاج الدولة وبنياتها، كما تحدث الملك الجديد بمنطق الاستمرارية التي تستند إلى ظل والده، حيث قال «لقد قيض الله لنا أن نتربع على عرش أجدادنا الميامين وفق إرادة والدنا الذي أسند إلينا ولاية عهده وبناء على مقتضيات الدستور وطبقا للبيعة التي التزم بها ممثلو الأمة. فتسلمنا المشعل من يد والدنا قدس لله روحه لممارسة مسؤولية قيادة البلاد ».
* الإعلان عن ثوابت السياسة الداخلية ممثلة في: «التشبث بنظام الملكية الدستورية والتعددية الحزبية والليبرالية الاقتصادية وسياسة الجهوية واللامركزية وإقامة دولة الحق والقانون وصيانة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية وصون الأمن وترسيخ الاستقرار للجميع».
* تجديد الالتزام « بإكمال وحدتنا الترابية التي تشكل فيها قضية أقاليمنا الصحراوية القضية الوطنية المركزية. ونحن نتطلع إلى إتمام الاستفتاء التأكيدي الذي ترعاه وتقوم على إجرائه منظمة الأمم المتحدة وهو الاستفتاء الذي لم يفتأ خصوم وحدتنا الترابية يعملون على إفشاله ويضعون العراقيل دون تحقيقه».
* تجديد الطموح بالعمل على «سير المغرب في عهدنا قدما على طريق التطور والحداثة وينغمر في خضم الألفية الثالثة مسلحا بنظرة تتطلع لآفاق المستقبل في تعايش مع الغير وتفاهم مع الآخر… ».
ماذا حدث على هذه المستويات المعلنة؟
لقد أسس العهد الجديد ذاكرته الخاصة، ومرجعيته المؤسسة على المصالحات الوطنية الكبرى، والتقدم بها نحو أفق سياسي جديد للدولة والمجتمع. وقطع المغرب مسافات طويلة على مستوى الطبيعة الدستورية للملكية، وتوسيع ديباجته لتشمل الأبعاد الاجتماعية والديمقراطية والبرلمانية، والعمل على التوسيع من طبيعة التغيير، ليشمل تغييرات في العمق، سميناه التغيير في طبيعة الدولة، من خلال تغيير دساتيرها الترابية، والإدارية، والاقتصادية ، وذلك عبر ممكنات جوهرية تجاوزت الحد المطلبي المضمن في أدبيات الأحزاب الإصلاحية في العهد السابق، والمبني كحد أدنى على قراءة موازين القوى ولو كان سقفها عاليا، لتصبح فلسفة الدولة نفسها بتبييء مفهوم الإصلاح الذي ظل عالقا طويلا في البلاد وغير مفعل…
دستوريا، انطلقت إعادة النظر في طبيعة الدولة، ودرجة تمركزها على مستويات ذكرها خطاب التنصيب، وذهب بها بعيدا:
– سياسة الجهوية
– اللامركزية
– إقامة دولة الحق والقانون وصيانة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية..
وفي هذا الباب لوحده، أصبح للمغرب منجز حقوقي يتحدث عن نفسه، أساسه تعزيز القضاء الدستوري وتوسيع الرقابة على دستورية القوانين، واستكمال الضمانات القانونية والمؤسساتية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية باعتبارها الحامي الأول للحقوق والحريات، وذلك تنفيذا لمقتضيات الدستور وتوصيات ومقترحات ميثاق إصلاح العدالة، فضلا عن إرساء العديد من المؤسسات واعتماد منظومة قانونية خاصة بها مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط وهيئة المناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ومجلس المنافسة والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
إننا أمام تنشئة وطنية شاملة، قوامها الإصلاح، حيث تم تبييء مفهوم الإصلاح وجعله مكونا من حياة ومعيش الدولة المغربية والمجتمع
وتكسير الكثير من الطابوهات الكبرى وفتح باب الإصلاح فيها، على مستوى علاقة المغربي مع نفسه(المواطنة والأسرة) ومع لغته (الأمازيغية) أو مع لغات الآخر (التعددية اللغوية ..)، أو مع رؤية وجوده ضمن عالم محرك.. وهو ما سنعود إليه.
لقد سمعنا الكثير وقرأنا الكثير، عن تنبؤات السحرة والأنبياء المزيفين وترانيم الصور الذي نفخ يوم القيامة وإعلان نهاية الدولة.
في حين أن التاريخ يستمر بالطريقة الأفضل فيه، أي بالإصلاح والتحديث والتنويع في مصادر الثقة في ريادة الملكية لكل هذا.
لنتذكر كل التنبؤات التي قرأناها بكل اللغات:
ولا تنسوا «الملك الأخير» لبيير توكوا، والذي صدر بعد سنتين فقط من وصول الملك إلى الحكم!
ولا تنسوا: عندما يصير المغرب إسلاميا، لصاحبه نيكولا بو وكاترين غراسيي، السيدة التي تم اعتقالها وهي تبحث عن مقابل لهجومها والقصة معروفة، التي رأت في المغرب مستقبل روسيا سنة 1916 ولم تر مستقبلها هي ورجال الأمن الفرنسيون يقتربون منها وهي رفقة كاتب شريك آخر، الرجل الذي كتب مذكرات الراحل الحسن الثاني ايريك لوران.
لاتنسوا كل تنبؤات غروب الملكية..
التكهنات المريضة كلها من وراء الظهر، والأصلح والإصلاح هو الباقي…
الفقر والثروة والفوارق الطبقية: لغة الحقيقة
من المفيد أن نواصل الاعتماد على نص الخطاب الأول، خطاب مابعد البيعة مباشرة، في الحديث عن التعاقد الذي وضعه ملك البلاد، بناء على حالة الأمة وقتها.
ففي خطابه الأول، تحدث الملك محمد السادس عن الفقر، بدون الحاجة إلى تلطيف التسمية، فهو يدرك أن العقد الذي كان بصدد عرضه، يستوجب تسمية الأشياء بمسمياتها، بدون ذلك فإن سوء التسمية يزيد من بؤس العالم.…
وكان لافتا أن القضية الموالية لقضية التعليم، تجلت في حديث جلالته عن الفقر، وقال في الموضوع: » سنولي عنايتنا كذلك إلى مشكلة الفقر، الذي يعانيه بعض أفراد شعبنا، وسنعمل- بمعونة الله وتوفيقه- على التخفيف من حدته وثقله. وفي هذا الصدد، كان والدي رحمه الله، قد شرفني بقبول اقتراح إنشاء مؤسسة اختار لها من بين الأسماء مؤسسة محمد الخامس للتضامن، تهتم بشؤون الفقراء والمحتاجين والمعوقين، عاهدنا أنفسنا على تفعيل دورها وإحاطتها بكامل الرعاية والدعم… .«
والواضح، اليوم، أن الفقر وإشكاليته لم تعد مسألة مؤسسة محمد الخامس للتضامن وحدها، بل أصبحت في صلب التعريف المتجدد لوظيفة الدولة الاجتماعية..
أولا- كان واضحا أن العهد الجديد، يبني تعاقده الجديد على قاعدة مصالحة وطنية متعددة الأبعاد، مصالحة لطي صفحة الماضي وطي صفحات التوتر العالي في البلاد، لأجل شيء أكبر، وهو تنمية الإنسان، والرفع من جودة المؤشرات المتعلقة بالتنمية البشرية، ولا سيما منها الظروف الكفيلة بضمان العيش الكريم.
وكان للصراعات والتوترات دور كبير في إهدار الاحتياطي الوطني من أجل مواجهة التحديات الكبرى ومنها الشرط الاجتماعي للمغاربة، مع ما تعرفه وكانت تعرفه الأوضاع الخاصة بالفقر ببلادنا من مؤشرات سلبية للغاية.
ثانيا- تم التفكير في المعضلة من زوايا عديدة، لتحديد الحاجيات المجتمعية لفئات واسعة من أبناء شعبنا، صارت عرضة لكل أنواع التحايل السياسي، ولهذا كان لزاما أن يتم تحرير كل هؤلاء المغاربة من مخططات التسخير السياسي والانتخابي، وكما يمكن أن نفهم ذلك، كان لزاما حل معضلة الفقر كي تصبح السياسة ممكنة، بناء على قواعد اللعب المتعارف عليها، ولا يتم تحوير هذه القواعد لحسابات ضيقة…
ثالثا- لقد بان من خلال مجهود 20 سنة، أن المقاربات تنضج شيئا فشيئا، لمواجهة هذه المعضلة، وبذلك تم الإعلان عن الجيل الثالث من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ورافع جلالته من أجل توزيع عادل للثروة، والذي تفرع عن سؤاله الشهير في إحدى الخطب السامية: أين الثروة؟
ودعا في خطاب العرش للسنة الماضية، إلى اعتماد السجل الاجتماعي الموحد، مشروعا اجتماعيا استراتيجيا وطموحا يهم فئات عريضة من الشعب المغربي.
واعتبر جلالة الملك أن » المبادرة الجديدة لإحداث السجل الاجتماعي الموحد بداية واعدة، لتحسين مردودية البرامج الاجتماعية، تدريجيا وعلى المدى القريب والمتوسط»، مبرزا أن هذا المشروع، الذي يندرج في إطار الاستمرارية، أكبر من أن يعكس مجرد برنامج حكومي لولاية واحدة، أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو سياسي.
وبهذا يكون الموضوع الذي أثاره جلالته من عشرين سنة، كأولوية كبرى كشفت الوتر الاجتماعي للتوجه الملكي، وقيامه على معالجة المعضلة الأساسية في مغرب يسير بأكثر من سرعتين..في مجال لا يحتمل أي تفاوت.
وفي هذا السياق، يلاحظ تحرر القاموس الملكي من أي تنميط، في وصف الحالة واعتماد مصطلح المتداول عند من يتناول القضية، مع حرص كبير على الحديث عن الفوارق الطبقية بدون لف ولا دوران..( خطاب البرلمان في أكتوبر 2017 تحدث بوضوح عن نموذج البلاد التنموي الذي لم يتمكن بعد من تلبية الحاجيات المتزايدة للمغاربة. ومن هذا المنظور، فإن الآليات الناجعة للعمل الاجتماعي، المقترنة بالتطبيق الفعال لمبدأ المحاسبة، أمران أساسيان من أجل تحقيق الهدف الطموح المتمثل في العدالة الاجتماعية والتقليص من الفوارق الطبقية.)
رابعا- دعا جلالته إلى بلورة نموذج تنموي جديد، يستجيب لفيض المطالب الاجتماعية، وتجاوز المعضلات المخجلة حقا في بلادنا.
وكان الإقرار بأن النموذج الحالي قد استنفد احتياطه التنموي، إيذانا بمجهود وطني شامل، لا يضاهيه في حجم الانخراط الجماعي فيه سوى الإعداد لدستور سنة 2011.
ولعل الملك أراد ذلك حين ذكر بأسلوب إعداد الدستور عند الحديث عن حوار وطني يشارك فيه الجميع حول النموذج التنموي الجديد.
خامسا- أن حقيقة الفقر في المغرب، موضوع للتفكير الجدي وعدم التساهل مع تأثيراته. وقد أفادت دراسات البنك الدولي ومندوبية التخطيط بأنه على الصعيد الوطني، زاد معدل الإحساس بالفقر (وهي نسبة الأسر التي تعتبر نفسها فقيرة) من 41.8% في 2007 إلى 45.1% في 2014. وكانت أكبر زيادة في المناطق القروية، حيث ارتفع 15% ليصل إلى 54.3%، وهو ما يعني أن أكثر من نصف سكان الوسط القروي يعتبرون أنفسهم فقراء. ويصدق هذا أيضا على النساء (55.3%) وعلى الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً (57.6%)وبوجه عام، ترى 39.3% من الأسر أن الفقر زاد وتعتقد 63.9% أن التفاوت قد اتسع.
سادسا- تم طرح مشكلة الفقر مع سؤال الثروة، في خطاب الذكرى 15 لاعتلاء العرش. وللحقيقة، فقد كان الخطاب مثيرا للغاية، ومستفزا للركون الذي عرفته النقاشات حول الفقر والفقراء، وكان حتى بعض المخلصين من اليساريين، قد اعتبروا أن السؤال صار نوعا ما محالا إلى رتبة متأخرة في الأولويات!!
ملك المغرب، تساءل باستغراب مع المغاربة:
«أين هي هذه الثروة؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة؟ أم أنها همت بعض الفئات فقط؟
وتحدث بلغة واصفة، إذ لاحظ خلال جولاته التفقدية بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة…
العهد الجديد يواجه اختبارات غير مسبوقة: امتحان الحداثة في تأسيس القداسة!
جيل بكامله، ذاك الذي لم يعش مغرب محمد الخامس ومغرب الحسن الثاني الذي تربى في تحولات سريعة وعميقة، جيل ظل يصارع الجمود، الذي طبع البلاد، حيث لا دينامية طالت شروط الحياة والسياسة والاقتصاد، طوال أربعين سنة.
هذه المرحلة التي انتهت بشعورعام بأن البلاد تفلت من أهلها، نحو سكتة قلبية مؤسساتية، فسحت الطريق نحو وتيرة أكثر من عالية في تدبير مخلفاتها.
كانت المصالحات خطوة جبارة في تاريخ البلاد، حين انتصر ملك البلاد للتجاوز الإيجابي لماض قاس، مركب، ملتبس وسحيق، كما أن المرحلة الموالية صارت مرحلة العمل العميق المتعلق بالتحديث والحداثة بعد أربعين سنة من تحيين التقاليد والسلطنة، وأربعين سنة من تاريخ الكلمة الأولى للتقليد في تقديم رأيه في الحداثة.
انعكست الآية…وصارت الحداثة تملي على التقليد طريقه وطريقته..
لقد تابعنا الملك يكسر الطابو وراء الآخر، وشمل ذلك حتى جوانب الحياة الخاصة، وبدأت علامات الإعجاب تحل محل علامات الاستفهام، واستردت الفئات الواسعة من الشعب والنخبة تفاؤل الإرادة في التغيير الذي تقوده الملكية .. باختيارات واضحة، وقد كانت البلاد أمام ثلاثة امتحانات على الأقل غير مسبوقة، سواء في الطبيعة أو في الدرجة:
سنة 2003، عندما كانت البلاد تسير نحو تطبيع المواعيد السياسية واحترام الاختيارات المنصوص عليها في الدستور، تحت سقف جديد مرتفع قليلا عن السقف الذي كنا نعيش تحته، هناك من قرر أن يدخلنا إلى نادي البلدان التي أصابها الإرهاب، وعاشت البلاد ضربة غير مسبوقة في الحجم والطبيعة، وكانت التخوفات واضحة من أن يغلب رد الفعل، على التفكير في المستقبلle réflexe prend le dessus sur la réflexion ولم يحدث ذلك، وتناولت البلاد الضربة ثم تقدمت نحو تطبيع العلاقة مع المواعيد السياسية ومنها الانتخابات وأيضا عدم زج البلاد في أي استثناء غير الاستثناء الإيجابي الذي لا يهددها.
كانت تلك أول بروفات الامتحان الرهيب الذي قدر للبلاد أن تواجهه والعهد الجديد لم يتجاوز بعد أربع سنوات.
تاريخ اختيار الضربات الهمجية لم يغب عن الأذهان، كان في البداية تاريخ عيد ميلاد ولي العهد 8 ماي، ثم انتقل ليضرب في عيد الميلاد الذي رأت فيه النور مؤسسات البلاد المركزية، الأمن والجيش وخلافهما.. 16 ماي.
كانت الرسالة تريد تركيع البلاد وأيضا تغليب مخاوفها على مستقبلها ولم يحدث ذلك.
وفاجأنا الملك من جديد عندما أقر بأن بعض الأخطاء ارتكبت عند معالجة الضربة المهولة، ووقتها تبين بأن الأسلوب الجديد أسلوب غير مسبوق ومؤسس لعلاقة أخرى مع حقيقة كما تعرِّفها الدولة وتعْرِفها ..
كنا وقتها قد دخلنا إلى منطقة التساؤلات الكبرى: أي علاقة للسياسة بالدين، وأي موقف يجب أن يكون لنا من التنشئة الدينية في البلاد وما هو موقعنا من الجغرافيا الجديدة للمقدس القاتل؟
وكان شافيا أن الإجابات كانت تأتي تباعا من أعلى سلطة في البلاد، ومن إمارة المؤمنين التي أرادها الملك الجديد حصنا للدفاع عن تموقعنا في عالم اليوم، وعن العقل في تحديد اختيارات التدين، وعن ثوابت التقدم نحو المزيد من الحرية وعن العقلانية في الاجتهاد وعدم السقوط في الحل البسيط، الانصياع لنداءات التقليد الذي يحاصر المجتمع .. وقد تبين ذلك في ترشيد الحقل الديني، وتجديد خطابه، وفي مقاربات شائكة لقضايا المرأة والمدونة والتعريف الجديد للهوية الروحية للمغاربة… كل ذلك كان في أجندة ملك يتفاعل مع الأسئلة بهاجس إيجاد الأجوبة الأفضل وليس الأسهل…
20 فبراير وإصلاح الدستور: الدولة تعقلن التاريخ الهائج من شرق المتوسط إلى غرب المحيط والشارع طاولة المفاوضات
لن يختلف المؤرخون، إلى حدود العقدين الحاليين، في أن الامتحان الكبير، وليس بالضرورة الشعب، كان هو الربيع العربي بنسخته المغربية.
كنا أمام موجة عارمة، فيها الأصيل النابع من التربة الوطنية، ومن أجندة أنضجته الشروط الذاتية، ومنها الدخيل الفاعل، بفعل عالم معولم ورهانات استراتيجية، كان الدم ضروريا لكي تظهر للعيان وتندرج في النقاش (سوريا ومصر واليمن مثلا) غير أن المغرب تفاداها.
أولا، كان في تدبير الأمور، ما جعل البلاد استثناء حقيقيا، وذلك بعدم السقوط في استعصاء سياسي يكون الحل فيه عنيفا، بل ثبت أن الحل السياسي لإشكال عنيف، ممكن سلميا في مغرب حديث العهد بتحولات سلالية وسياسية..
ثانيا، اتضح أن سقف الإصلاحات لا يخيف الناس، كما لا يحمس معارضيه الأشد تمردا أكثر من اللازم، باعتبار أن السقف الذي صار الشارع مائدة التفاوض عليه، هو الملكية البرلمانية، واستمرار النظام وقدرته على قيادة هذا الأفق أكثر من غيره.
ثالثا، كان سقوط الأنظمة حولنا وتفكك المجتمعات وتلاشي النخب والتنظيمات مدعاة للتفكير السليم أكثر من تحريض النظام على استعمال مخاوفه الطبيعية – في هذه الحالة- في تطويق مطالب الشارع، وبلغة أخرى، كانت الدولة قد قررت، من داخل أكبر مكوناتها التاريخية والشرعية والدينية، أي الملكية، أن تعقلن هذا التاريخ المتدفق، بمطالب قديمة وأخرى جديدة، تهز العروش في دول أخرى أو تدخل البلدان في شوارع الدم ودهاليز الردة…
رابعا، قراءة وطنية لما حدث بالرغم من تعدد الأسباب ما بين الداخلي والخارجي، وهي حلقة قد تجد جذورها في تعامل سابق قامت به النخبة الوطنية والملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أمام انهيار جدار برلين وبداية موجات الدمقرطة في شرق العالم، والحاجة إلى التحولات التي ظهرت وقتها، مما دفع نحو انفتاح سياسي داخلي، وانفراج في الملف الحقوقي والشروع في التفكير في الإصلاح الدستوري، بدايةَ تسعينيات القرن الماضي (انهيار الجدار وسقوط الأنظمة شرق استالينية 1990/1989) في حين كان أول تغيير دستوري في 1992 تلاه تغيير ثانٍ في 1996.
وقد تزامن ذلك، مع انطلاق المؤتمرات الوطنية في إفريقيا، ابتداءً من 1989 في بنين ثم تلته العديد منها.
وكان الملك الراحل، قد رفض الدخول تحت خيمة المؤتمرات التي كانت وراءها فرنسا في الكثير من الأحيان وقبل قراءة وطنية داخلية، تقرر ما حدث في شرق العالم بأبجدية وطنية.
ويبدو الاختلاف واضحا في درجة انخراط الدولة والملك الراحل وطبيعة هذا الانخراط، إذ ظل تدريجيا يحتكم إلى قانون الوقت ورهاناته أكثر مما يحتكم إلى ممكنات التطور وإرادة تطوير البعد السياسي في التغيير الكبير.
في العهد الجديد، ارتفع منسوب التغيير بشكل كبير للغاية، وكان منسوبه السيادي أكثر بالرغم من الظروف التي قلنا عليها، ذلك لأن العهد الجديد، كان قد رسمل ورصد العديد من الإصلاحات العميقة أقلها توصيات الهيئة الوطنية للإنصاف والاشتغال على الجهوية والعديد من الإصلاحات ذات الطابع المجتمعي والسياسي، الشيء الذي سمح له بأن يرفع من درجة التحديث والإصلاح.
سينصف التاريخ محمد السادس، لمّا سيكتب أن التعديلات، بالرغم من الطابع المرتبط مباشرة بـ 20 فبراير، كانت جاهزة وعلى أبواب الانوجاد منذ 2010….
خامسا، انتظام انتخابي بالرغم من كل التموجات (ضربات ماي كما تحركات الشارع)، والدفع بها نحو مزيد من السلاسة والتطبيع وتحديد القواعد الدستورية للسياسة ( المنهجية الديمقراطية- المحاسبة -) وتطعيم الاستقرار بعناصر جديدة من الإصلاحات… وهنا أصبحنا نتحدث عن الدولة كما هي متعارف عليها دوليا، وليس بصفتها مزاجا للحكم – ما نسميه عادة المخزن- وندرك بأنه أحيانا يكون استعمال مصطلح المخزن تعبيرا عن الفقر المفاهيمي، بل يخفي فقر التفكير في تعقد مسار تشكل الدولة وتطورات قرار الدولة، كما لو أن لحظة التأسيس مازالت قائمة منذ القرن الأول.
ومن المحقق أن التحليل المبني على مقولة المخزن، والتحليل المبني على مقولة الدولة، لا يحملان نفس المعنى، ولا يسمحان بنفس التأويل للواقع والحقائق الواقعية…
وهذا جانب ما كان ليكون لو لم يكن هناك تبني لمفهوم الدولة في الواقع عوض التبني اللاتاريخي للمخزن، كمفهوم في التحليل.
يمكن أن يسجل في المستقبل أنه كان أمام المؤرخين وعلماء الاجتماع تحول في مفهوم الدولة والتاريخ…
سادسا، لم تكن الفضاءات العمومية قد ظلت حكرا على الدولة والعنف المشروع، منذ بداية العهد الجديد ومجيء حكومة التناوب، لأن الربيع المغربي، كان قد صدر عن عبد الرحمان اليوسفي وهو يتكلم عن ماي68 دائم في المغرب، بحيث إن المظاهرات وحركة التظاهر، قد صارت مقبولة كشكل من أشكال التفاوض مع السلطات وأصحاب القرار..علما أنها في الغالب بدون مضمون سياسي يعتبر.
الشيء الذي تغير مع 20 فبراير بتسييس خطاب الاحتجاج «توسيع الطابع التوتري» إلى الدائرة السياسية بشكل عميق… كالتغييرات التي حدثت لأن المعادلة السياسية الجديدة، كانت تعي بأن للملك الجديد مكانته في المعطى الدستوري الجديد.. كما يستفاد من التصويت بأغلبية ساحقة على مسودة الدستور كما عرضه الملك، وكما صاغه الحوار الوطني الشامل، أي أغلبية ساحقة من المغاربة ترى في الملك، المحرك الأساسي للمعطى الدستوري الجديد أو بلغة جميلة وتعبير دقيق يكاد يكون شاعريا لخليل الهاشمي الإدريسي، «إعادة الملك إلى الوطن» rendre le roi la nation، وليس النظام، كما قد نزيد من عندياتنا!
20 فبراير وإصلاح الدستور: تبييء الإصلاح
من المحقق أن العهد الجديد بيَّأ الإصلاح كمفهوم وممارسة في التفاعل مع المحيط ومع مطالب المجتمع، عوض أن يركن إلى جمود متوارث، صار أسلوب حكم.
هذه الدينامية الإصلاحية عرفت تتويجها بثورة دستور 2011 والذي، كما سبق القول، جاء نتيجة حوار وطني، كانت طبعته الجديدة تشبه المجلس التأسيسي الذي ظل على قائمة مطالب الكثير من القوى السياسية، فكان حوارا تأسيسيا للإصلاح من زاويته الدستورية…
والقضية ليست عابرة، فقد كان نظام الحكم في العهد السابق يستبعد كليا مسألة الحوار عبر المجلس التأسيسي أو ما يشبهه، بناء على قراءة من خارج التقنين extra-légale ، كما كتب أحد أعضاء لجنة كتابة الدستور محمد الطوزي، في كتابه «الملكية والإسلام السياسي في المغرب ».
التحول أعمق من تحول في الشكل بل في أساس بناء الشرعية الدستورية إذن.
ومن الملامح أن ثورة الدستور جاءت في مناخ ثوري، عبرت عنه حركية 20 فبراير، باعتبارها حراكا متعدد الطبقات والطوابق، سياسي اجتماعي اقتصادي ورمزي… إلخ.
وبادرت الملكية، كقوة إصلاح مع محمد السادس، إلى الاستباق وترشيد الحوار بإطلاقها الدينامية بخطاب 9 مارس.
وإذا كان رهان القوى بين مكونات هذا الحوار قد أفرز، أحيانا، تخفيضا في سقف الإصلاحات، فإن الشكل المعتمد قد سمح بتوسيع أفق الانتظار منه…
وكان واضحا، من جهة ثانية، أن الفرقاء المجتمعيين قد تلقوا، بالرغم من احتراز الكثيرين منهم من أي إصلاح أو مطالبة به أو مساندة حركيته في الشارع العام، بإيجابية، شساعة الأفق الإصلاحي، فقد تبين أن أشياء في العمق قد تغيرت وليس في ظاهر الهندسة الدستورية:
أولا، التغيير في بند قداسة شخص الملك.
ثانيا، الإقرار بالبعد البرلماني في تعريف الملكية المغربية.
ثالثا، ترصيد التوصيات المتعلقة بالحقوق والضمانات الدستورية للحق ودولته المنبثقة عن قراءته للماضي.
رابعا، دسترة الكثير من المنجزات، أو المثبطات الديمقراطية، كما في حال المنهجية الديمقراطية والمنبثقة من السيادة الشعبية، أو في ما يتعلق بترسيم المسؤولية المرتبطة بالمحاسبة وفصل السلط… إلخ.
وغير ذلك، مما أعطى لحركية عشرين فبراير ما يفيد بأنها نقلة كبرى في تاريخ المطالبة بالإصلاح، وإمكانية سبق تاريخي في قيادة هذا الإصلاح من أعلى هرم السلطة…
الإصلاح من الأعلى كمكمل للمطالبة به من الأسفل، أي القاعدة السياسية والمجتمعية للتغيير.
لابد من الإقرار بأن الإصلاح الدستوري الشامل، ومن هذه الزاوية بالذات، تحكمت فيه دينامية إصلاحية سيادية، بدأت مع العهد الجديد كما ذكرنا، وحررت النقاش العمومي من الكثير من المخاوف ومن الطابوهات أيضا.. وجعلت امتدادا للإصلاحات الجزئية في النص الشامل للإصلاح العام، مع تمكن من ضبط أجندة الإصلاح بما يخدم الهدف المعلن منذ أن استشهد الملك بالآية الكريمة التي تقول«إن أريد إلا الإصلاح» في إحدى خطبه الأولى…
وهو ما ستستمر ملامحه على مستويات أكبر وأكثر ملامسة للمعيش اليومي، ونقصد به إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية وإعطاءهاهندسة جديدة ومهام تتماشى مع تطورات المغرب، وأيضا في مجال إعادة النظر في منظومة التنمية ككل والتنمية الاقتصادية بالأساس، وغير ذلك من الأشياء التي أثبتت قدرة الدولةعلى قيادة كل التوترات.
(الامتحان الاجتماعي للإصلاح: الريف، جرادة والإجهاد الترابي stress territorial).
الإجهاد الترابي وكيف نقرأ الحراكات الاجتماعية في مغرب اليوم
حراك الحسيمة وحراك جرادة، وسلسلة من الحراكات الأقل اتساعا جغرافيا، كما في إملشيل سنة 2003، وأنفكو عام 2006، وتظاهرات تونفيت ومكناس، إضافة إلى مظاهرات زاوية احنصال في 2007، والمسيرات الاحتجاجية نحو المدن.. كما في غضب الشرق أيضا، في كل من جرسيف والعيون، كلها كانت علامات اجتماعية، ومؤشرات على تحولات في الأرض والزمن، بعد إجهاد غير مسبوق من حيث الطبيعة والاتساع الزمني والاستمرارية.
والإجهاد الترابي، مصطلح مغربي غير قديم، لكنه عرف تجسيدا في العهد الجديد بتراتبية مغايرة للعهد السابق، أي انتقل من محاولة الضبط والتحكم إلى محاولة التدبير والتنمية، لضمان الاستقرار.
ربما كان ذلك، الإجهاد stress هو الامتحان الحقيقي للمفهوم الجديد للسلطة الذي لا يقتصر على الضبط والأمن بل يعوضها بالتنمية والسلم الاجتماعي، وهو ما كان رسالة أولى من العهد الجديد من أن أشياء كثيرة ستتغير في الدولة، وإدارتها الترابية، وهو تغيير إيجابي في مفهوم السلطة، التي لا تعني بالضرورة القهر والامتثال، كما تم تبليغها في سنة 1999.
وليس صدفة أن الذي تلاه بعد أقل من ست سنوات، كان هو إعلان ملك البلاد عن مبادرة، سميت ورش الحكم، أو ورش العهد الجديد..
ففي سنة 2005 أعلن ملك البلاد عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وقد نغامر بالقول إن انزياحا حادا حدث في قلب التحولات هو الخروج من ثنائية بلاد السيبة وبلاد المخزن إلى منطق يعطي التراب الوطني كله معنى من خارج تقسيم السلطة والضبط والقهر… إلخ.
لقد سبق أن عبر العبد المذنب لربه عن الموقف من حراك الريف والمعالجة التي تمت حوله، وحراك جرادة …إلخ، غير أن المطلوب الآن ليس هو التموقف، بقدر ما هو السعي إلى فهم العملية برمتها من زاوية ما اعتبره الأستاذ محمد الناصري الإجهاد الترابي..
وحتى ولو لم ينته تماما «لاشعورالسيبة» وتفكيرها من لدن جزء من النخبة، التي تتبرم من كل حراك لا يكون في دائرة حيويتها .. و(هي قصة أخرى عن التمثيلية المجتمعية ووسائط المجتمع… إلخ)، فإننا مع ذلك أمام تفاعل مغاير مع حيوية المجتمع.
كان العهد الجديد على موعد مع التعبير المجتمعي الترابي، في مناطق بعينها، كأول امتحان لروح الدستور في تدبير التوترات الاجتماعية وكثاني اختبار من نوعه بعد الضربات الإرهابية.
فلم يسبق أن كانت الحراكات الاجتماعية تدوم في الزمن لشهور عديدة، كما في الحسيمة وفي جرادة، ولم تكن الكثافة السكانية للاحتجاج تبلغ ما بلغته في هذا الشأن، ويمكن أن نغامر بالقول إن أول توصيف كان لها، هو كونها تعبيرات اجتماعية كمقدمة لحرية التعبير ثم مطالبة بالتنمية والتطور، مع ما رافقها في أحيان كثيرة من معالجة ضبطية، أمنية وقضائية..
ويمكن تأمل تحول المعالجة الاجتماعية المتسامحة الى «القوضنة» judiciarisation، كنوع من مظاهر هذا الإجهاد الترابي المغربي، الذي تعجز الوسائط في التعبير عنه، كما هو جزء من أشكال العجز في الثقة في الوسائط ذاتها.
مع الريف والأطلس، وهو ما ألف الجغرافيون المغاربة طرحه كسؤال حول الجبال في مغرب الحراك الاجتماعي: كيف تتفاعل الجبال مع تحولات الجغرافيا الإدارية في البلاد، من زاوية الجهوية والتقسيم الترابي وغير ذلك؟ وما قدرة المركز على الإجابة عن أسئلة الهامش الترابي؟ ولماذا يجد المواطن في كل حراك واسع وقوي، نفسه أمام الآلة الضبطية عوض الآلة السياسية والتمثيلية بالرغم من كل البدائل التي تفرزها السياسة في بلادنا، سواء كأحزاب أو كنخب محلية؟ وكيف أن الحياة الهامشية فجرت تحولات أعمق في العهد الجديد وانتقلنا من المناضل التقليدي والنقابي المؤطر إلى المناضل المدني والفاعل الصحافي- التواصلي في تعميم الاحتجاج والتعبير عنه.
لقد عالج العهد الجديد هذه التوترات بمستويات عدة، يهمنا منها بالأساس تفعيل المبدأ الدستوري لربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ سقطت رؤوس ما دام منطق التسويات السياسي السابق يقبل بها، وهو ما لم نكن نتصوره إلى أن رأينا مسؤولين من حجم كبير يدفعون ثمن عدم استحضار المحاسبة إبان المسؤولية، ومنهم أبناء الدولة نفسها!
كما يمكن اعتبار أن الزيارات إلى كافة الأقاليم صارت أحد أشكال الملك في ممارسة التواصل والاقتراب من الناس، بل إنه اختار النوم في خيمة بالقرب من انفكو في ماي 2008 عندما زارها، وكما تحددت من هذه الزيارات زاوية لبلورة الخطاب الملكي وحجيته كما في خطاب البرلمان حول الفقر وبناء منظومة الإقناع به، ففي 2014 قال الملك في خطاب العرش «إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا، فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين»، مسجلا بأنه «لاحظ خلال جولاته التفقدية بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة».