حوارات مع الكاتب الياباني هاروكي موراكامي 5 : هاروكي موراكامي: لا استطيع رؤية الحدود بين العالم الخيالي والعالم الواقعي 2/1

عداء الماراثون الياباني، الذي أخضع نفسه لنظام يشبه قطعة موسيقية، أصدر رواية جديدة، كرسها لشخصية تعاني من تفاهتها المزمنة. في زيارة لهاواي، حيث يستقر الكاتب غالبا: «إننا نضجر كثيرا هنا»المثال الأعلى بالنسبية إليه، كما يقول.
كي تلتقي موراكامي، لا تفكر أبدا في الوجهة نحو طوكيو؟ بل الذهاب إلى «هونولولو». لقد اختار أن يعيش هناك: وسط فضاء غير قابل للتشكل دائما مثل حكاياته أيضا، الضياء الجبال ثم شاطئ وايكيكي الأسطوري: المسافر الذي يصل هناك ينغمس بين طيات حلم مناخ تقارب حرارته ثمان وعشرين درجة يغمره أريج الورورد الاستوائية. هو الفردوس على الأرض.لا يوجد أي شخص على الشاطئ: فمنذ صدور قرار صارم يمنع التدخين هناك واحتساء الخمر أو تناول الطعام، اكتفى السياح بطلب أصناف الشراب داخل حانة الفندق المكيفة.

p هل أنت رجل جنتلمان؟
n إنني اتقدم في العمر يوماً بعد يوم، وكلما كبرت أفكر في نفسي على نحوٍ مختلف عن أيام شبابي. في هذه الأيام أحاول أن أكون “جنتلمان”. وكما تعرفين، ليس من السهل أن أكون “جنتلمان” وروائيا. إن الأمر يشبه سياسيا يحاول أن يكون أوباما وترامب. لكن لدي تعريف للروائي الجنتلمان: أولاً، لا يتحدث عن الضرائب التي يدفعها؛ ثانياً، لا يكتب عن عشيقاته وزوجاته السابقات؛ ثالثاً، لا يفكر في جائزة نوبل للآداب. لذلك، لا تسأليني عن هذه الأشياء الثلاثة. سأكون في ورطة.

p هل فعلا تبقيك الموسيقى على أحسن ما يرام؟
n نعم، بشدة. الموسيقى والقطط، لقد ساعداني بكثرة.

p كم عدد القطط التي تربيها؟
n لا أملك أي قطة. أخرج في تمشية سريعة حول منزلي صباح كل يوم وعادةً ما أرى ثلاثة أو أربعة قطط، إنهم أصدقائي. أتوقف وألقي عليهم التحية ثم يأتون إلي؛ إننا نعرف بعضنا البعض جيداً.
قلتَ: «عندما أكتب رواية، فإن الواقعية والخيال يمتزجان معاً. إن الأمر ليس وكأنني أضع خطة وأتبعها عند الكتابة، لكنني كلما حاولت أن أكتب عن الواقع بأسلوب واقعي، كلما ظهر العالم الخيالي بثبات أكثر. بالنسبة لي، الرواية كالحفلة. أي شخص يود المجيء يمكنه ذلك، وأي شخص يود المغادرة بإمكانه المغادرة وقتما شاء.”

p إذاً، كيف تدعو الأشخاص والأشياء إلى هذه الحفلة؟ أو كيف تصل الى مكان عندما تكتب حيث يمكنهم المجيء بدون دعوة؟
n يخبرني القراء عادةً بأن هنالك عالما غير حقيقي (خيالي) في أعمالي – إذ يذهب بطل الرواية إلى ذلك العالم ثم يعود بعدها إلى العالم الحقيقي.
لكني لا استطيع رؤية الحدود بين العالم الخيالي والعالم الواقعي. لذا، في كثير من الأحيان، يمتزجان معاً. في اليابان، أظن بأن ذلك العالم الآخر قريب جداً من واقعنا، وإذا فكرنا بالذهاب إلى الجانب الآخر فإن الأمر ليس بتلك الصعوبة. لدي إنطباع بأن في العالم الغربي ليس من السهل الذهاب إلى الجانب الآخر؛ عليك أن تمر ببعض المحاولات حتى تصل الى ذلك العالم. لكن، في اليابان، إذا أردت الذهاب الى هناك، يمكنك ذلك. لذا في قصصي، إذا نزلت إلى قاع البئر، فإن هنالك عالما آخرا. ولا يمكنك بالضرورة معرفة الفرق بين العالمين.

p الجانب الآخر عادةً هو مكان مظلم؟
n ليس بالضرورة، إن الأمر أقرب إلى الفضول. إذا كان هنالك باب وكان بإستطاعتك فتحه ودخول ذلك المكان الآخر، فإنك ستفعل. إنه فضول فحسب. ماذا يوجد في الداخل ؟ ماذا يوجد هناك ؟ لذا فإن ذلك ما أفعله كل يوم.
عندما أكتب رواية، أستيقظ في حوالي الساعة الرابعة صباحاً وأذهب الى طاولتي وحينها ابدأ العمل. هذا يحدث في العالم الواقعي. أشرب قهوة حقيقية . لكن، ما إن أبدأ الكتابة، فإني انتقل الى مكان آخر . افتح الباب ، ادلف الى ذلك المكان ، وارى ماذا يحدث هناك . لا أعلم -أو لا أهتم- إذا كان ذلك العالم حقيقي أم خيالي. حينما أركز في الكتابة، أتعمق أكثر فأكثر في نوع من العوالم الخفية .
حينما أكتب، أُقابل أشياء غريبة هناك. لكن عندما أنظر إليهم يبدون طبيعيين في نظري. وإذا كان هنالك ظلام. فإن هذا الظلام يحبو الي، ربما حاملاً بعض الرسائل، هل تعلمين ؟ أنا أحاول فهم تلك الرسائل. لذا أنظر في ذلك العالم وأصف ما أشاهده، وبعد ذلك أعود إلى الواقع .
العودة مهمة جداً، اذا كنت لا تستطيع الرجوع فإن الأمر مخيف. لكنني خبير، لذا بإمكاني العودة.

p وهل تجلب تلك الأشياء معك (أي إلى الواقع)؟
n كلا، سيكون الأمر مخيفاً. إني أترك كل شيء حيث هو. إنني شخص عادي جداً عندما لا أكتب. أحترم الروتين اليومي. أستيقظ مبكراً عند الصباح. وأذهب للنوم في حوالي الساعة التاسعة، إلا إذا كانت هناك مباراة للعبة البيسبول. كما أني أمارس الركض والسباحة.
أنا شخص عادي جداً. لذا حين أمشي في الشارع ويراني شخص ما ويقول “عذراً، السيد موراكامي، سعدت بلقائك،” أشعر بغرابة. لست شيئاً مميزاً. لماذا هو سعيد بلقائي؟ لكنني أظن بأني حينما أكتب أكون مميزاً على نحوٍ ما -أو على الأقل غريبا-.
لقد أخبرتني القصة عدة مرات مسبقاً عن كيف أنك منذ أربعين سنة مضت، خطر لك فجأة حين كنت في مباراة للعبة البيسبول أنك تستطيع كتابة رواية، بالرغم من أنك لم تكن قد حاولت حتى الكتابة قبل ذلك الوقت. وقلت في مذكراتك: “ما الذي أتحدث عنه حينما أتحدث عن الركض،” “بدا الأمر وكأن شيئاً ما رفرف الى الأسفل نازلاً من السماء ثم قمت بدوري بإلتقاطه بين ذراعي” وهذا الشيء كان هذه القدرة على الكتابة -اأو ربما فكرة بأن باستطاعتك المحاولة.

p إذا كنت عادياً جداً حسب قولك، فلماذا برأيك أنها أتت إليك، ومن أين؟
n كانت أشبه بلحظة وعي أو إدراك.
إني أحب البيسبول، وأذهب إلى الملعب عادةً. وفي عام 1978، حينما كنت في التاسعة والعشرين من عمري، ذهبت إلى ملعب البيسبول في طوكيو لأرى فريقي المفضل (ياكولت سوالوز). كان يوم الافتتاح ويوماً مشمساً جداً. وحينما كنت أشاهد المباراة أتاني الشعور بأني أستطيع الكتابة.
ربما كنت قد أكثرت من الشرب -لا أعلم- لكن الأمر بدا كما لو أنني في تلك اللحظة قد أتاني نوع من الإدراك. لم أكن قد كتبت أي شيء قبل ذلك اطلاقاً. كنت أملك نادي جاز، و منشغلاً جداً بصنع الكوكتيلات والسندويشات، أجيد صنع السندويشات جيداً! لكن بعد تلك المباراة ذهبت إلى محل الأدوات المكتبية واشتريت بعض الأدوات، وبعدها شرعت بالكتابة ثم أصبحت كاتباً.

p قلت بأن كتابة أول كتابين لك كانت سهلة جداً، ثم أصبح الأمر أكثر صعوبة قليلاً. ما الذي تعاني منه؟
n عندما كتبت هذين الكتابين -“اسمع غناء الريح” و”بينبال – 1973 – وجدت أنه من السهل علي أن أكتب، لكني لم أكن راضياً عنهما. ولا زلت غير راضٍ. أصبحت طَموحاً أكثر بعد كتابتي لهذين الكتابين.
كتبت رواية “مطاردة الخراف الجامحة ” وهي روايتي الطويلة الأولى (الكتابان الآخران كانا أشبه بأقصوصة)، استغرق الأمر مني وقتاً طويلاً، ثلاث أو أربع سنوات حسبما أذكر، وكان علي أن أبذل مجهوداً كبيراً حتى خرج الأمر بتلك الشاكلة. لذا أظن بأن هذه الرواية كانت نقطة انطلاقي في مهنتي الحقيقية.
إذ كتبت كتبي الثلاث الأولى حينما كنت لا أزال أعمل كمالك لنادي جاز.كنت أنتهي من عملي في حوالي الثانية صباحاً وبعدها أجلس لأكتب على طاولة المطبخ، كان هذا كثيراً علي.
قررت بعد أول كتابين أن أبيع النادي وأتفرغ للعمل في الكتابة. لكن نادي الجاز كان بأحسن حال ونصحني الجميع بأن لا أبيعه.
كتابي هاروكي “بينبال – 1973 و”اسمع غناء الريح” في حلتهم المترجمة للإنجليزية.

p هل يمر عليك يوم حيث لا تعلم ما الذي سيحدث لاحقاً؟ إذ تجلس ولا تستطيع الكتابة في ذلك اليوم؟
n لم أشهد أمراً كهذا من قبل. حالما أجلس على طاولتي، أعرف بطبيعة الحال ما الذي سيحدث لاحقاً. وإذا كنت لا أعرف، أو لا أريد كتابة شيء ما، فإني لا أكتبه. دائما ما تطلب مني المجلات أن أكتب شيئا ما، ودائماً أجيب بالرفض. إني أكتب في الوقت الذي أريده، والمحتوى الذي أرغب فيه وبالطريقة التي تعجبني.

p هل تظن بأنك تنسج حبكاتك في منامك؟
n كلا، لا أظن ذلك. أنا لا أحلم. القصص هي قصص والحلم هو حلم. وبالنسبة لي، الكتابة ذاتها تشبه الحلم.
حينما أكتب، بإمكاني أن أحلم. يمكنني أن أبدأ وأتوقف واستكمل في اليوم التالي حسب اختياري. عندما تكون نائماً ومستغرقاً في حلم جميل، مع شريحة لحم كبيرة أو شراب لذيذ أو فتاة جميلة، ومن ثم تستيقظ حينها تختفي هذه الأشياء كلها. لكني أستطيع أن أكمل في اليوم التالي!


بتاريخ : 07/08/2019