في العقد الأخير من حياته، أي عقد السبعينيات من القرن العشرين، بدا جان بول سارتر (1905 – 1980) شيخًا هرمًا ـ أقرب إلى البدانة، ثقيل الحركة، كأنه ترك ماضيه وراءه. وفي تلك الفترة، كانت الصور التي تنشر للكاتب، تركز على تلك الكوكبة من الشباب الذين بدءوا يزحفون بقوة في الساحة الثقافية. في مجالات متعددة، خاصة الفلسفة. ولو تأملنا هذه الصور الآن، فسوف نكتشف أنهم جميعًا قد انتهجوا الأدب والفلسفة والسياسة معًا.
من هذه الأسماء جان أدرن آليه، ومارك آلته، وأندريه جلوكسمان، وبرنار هنري ليفي، وكان من بين هذه الأسماء كاتب أكبر سنًا، بمثل حلقة الوصل بين جيلين هو برنار كلافيل، الذي اعتبره هؤلاء الشباب الأب الروحي لما سمي بالفلسفة الجديدة.
الجدير بالذكر، قبل أن نتحدث عن هؤلاء الفلاسفة الجدد الذين جاءوا بعد سارتر، إنهم في فترة لاحقة اتخذوا من الروائي والكاتب لوسيان بودار أبًا روحيًا إضافيًا، قبل أن يصيروا حدثًا مهمًا في الثقافة الفرنسية المعاصرة.
هؤلاء الفلاسفة الجدد، مارسوا الأدب والسياسة والفلسفة في الوقت نفسه، وأغلبهم يهودي مثل سارتر نفسه، وقد استفادوا جميعًا من حركات التحرر السياسي في تلك الحقبة، فارتبطوا بها، وساندوها، وسافروا إلى بقاعها المنتشرة في كل أنحاء العالم، ومنها كمبوديا، وفيتنام، ومنطقة الشرق الأوسط، قضية فلسطين بشكل خاص، وثورة الحجارة الأولى بشكل أكثر خصوصية.
لعل برنار هنري ليفي، هو أشهر الأسماء في هذه القائمة على الإطلاق، فهو الأكثر نشاطًا، وتواجدًا، والأكثر تنوعًا في الكتابة، والممارسة النضالية، كما أسماها، كما أنه يكتب مقالات أسبوعية حتى الآن، في كبريات المجلات والصحف الفرنسية، لعل أشهرها ما ينشره أسبوعيًا في الصفحة الأخيرة من مجلة لوبوان ..
ولد ليفي في أسرة ثرية في الخامس من نوفمبر عام 1948، في قرية صغيرة تسمى بني صاف قريبة من وهران بالجزائر، ويقول ليفي أنه اكتشف وهو في سن العاشرة، أنه يهودي، وقد عرضه هذا الأمر للمضايقات، فقد كان زملاؤه في المدرسة يعاملونه كقاتل للسيد المسيح ـ حسبما يقول، وربما من هذا الموقف استمد ليفي سلوكه المضاد للدين المسيحي بصفة خاصة.
ومنذ سنواته المبكرة وليفي يحلم أن يكون نجمًا في أي مجال، وأن يتحدث الناس عنه، وأن يقدم لهم أفكارًا جريئة وغير مألوفة، فهو تارة أن يكون ممثلاً، وبالفعل فقد تزوج فيما بعد إحدى أشهر ممثلات فرنسا وهي المخرجة والممثلة الجميلة أرييل درينال، وحلم أن يكون كاتبًا مرموقًا مثل سارتر، وفي النصف الثاني من السبعينيات، وجد أن مدرسة الفلسفة الجديدة، هي الأكثر جذبًا لوسائل الإعلام، فأعلن الانضمام إليها، أسس جريدة يومية لم تصدر سوى ستة أعداد عام 1975، وكان أحد الذين يشاهدون دومًا في حلقة تلاميذ جان بول سارتر، وفي العام نفسه اكتشف الكاتب الروسي المنشق سولجنتسين، نقرأه، واستمد من أدبه كتابه الفلسفي الأول: البربرية ذات الوجه الأرمني، عام 1977، وهو كتاب نجح في تأصيل الفلسفة الجديدة لدرجة أن مجلة نيوزويك قد نشرت صورة ليفي على غلافها، وهي سابقة ندر أن تحدث بالنسبة للكتاب الذين لا يكتبون بالإنجليزية.
تمثلت الفلسفة الجديدة في هذا الكتاب، في الهجوم المباشر على التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وارتباطها بالديكتاتورية، وهذا يفسر النجاح الإعلامي الذي حققه الكاتب، فقد صار شبه متحدث شخص لفلسفة القرب السياسية بمناهضة الشيوعية.
وعندما نشر ليفي كتابه الثاني «وصية الله» استطاع أن يؤكد أنه المدافع الحقيقي عن أيدولوجية الغرب، ومن أجل تحسين صورته كمناضل حر، راح يسافر إلى حيث يناضل الغرب ضدا لشمولية، فسافر إلى أفغانستان وبنجلاديش، وكمبوديا، وبقاع عديدة من العالم الذي يشهد صراعات ضد السيطرة الشيوعية.
في كتابه «وصية الله» رأى ليفي أن الشمولية مرتبطة بنظرية نيتشه التي أعلن فيها عن موت المطلق، وأنه أصبح جثة هامدة ف يجسد بشرية القرن العشرين، وأنه قد عاد في إطار الشمولية الشيوعية: «لم نحاول أن نكون أحرارًا إلا منذ أن أصبحنا أقل إيمانًا، هذا الاكتشاف الذي توصل إليه دوستويفسكي في الأدب الحديث، فلو لم تكن هناك خطيئة، فإن الروح هي الجريمة».
وفي هذا الكتاب، كما يكمل ليفي: حاولت أن أحدد مواقف لمقاومة ظاهرة الشمولية، أحاول أن أنتقد ما بها، وإطارها المحدد، وأن أطرح السؤال عن كيفية مواجهة أمراض الشمولية التي تبدو لنا ظاهرة.
ويرى ليفي أن النازية لم تكن تحارب اليهودية وحدها، بل والمسيحية أيضًا، فحسب قوله أن السيد المسيح كان «خنزير يهودي» في نظر النازيين الذين سعوا إلى إنشاء كنسية الرايخ، ويرى أن النازية كانت تكره المطلق بصفة شخصية، وأن هتلر قتل المطلق مثلما فعل الشموليين. أما في الاتحاد السوفيتي، فقد تم إنشاء المتحف الوحيد للإلحاد حيث تعرض فيه مسيرة الاشتراكية، وضحاياها من اليهود والمسيحيين.
ويقول ليفي أيضًا في الكتاب نفسه أن الماركسية هي أول فلسفة في التاريخ الغربي قابلة للتطبيق، «وذلك طالما أن المطلق قد مات، وأن الإنسان لم يخلق مصادفة، وأن الغالبية متفقة على سلوك الخير»..
وإذا كان ليفي قد هاجم الشمولية لأنها ملحدة، فهو نفسه يرى أن المطلق غير موجود، ويؤمن أن القرن الثامن عشر هو الذي شهد ميلاد مطلق آخر حين ولدت حقوق الإنسان مكتوبة، ويرى أن علم الأخلاق الإغريقي اكتشف الأخلاقيات التي تحدث عنها الأدباء. واكتشفوا من خلالها: الجمال والحق، والخير.
ويروح ليفي إلى ما هو أبعد من ذلك، فهناك إله عبري، وآلهة غير عبرانيين، العهد الجديد هو ضرورة للهرب نحو الأمام، وهو ضرورة للمغامرة الفكرية.
في كتابه «الأيدلوجية الفرنسية» تحدث ليفي من المذاهب الفاشية التي عرفت في فرنسا، مثل النازية والستاليشية، ويرى أن النازية لم تكن فقط في برلين، ولم تنشأ الستالينية في موسكو. لكن فرنسا شهدت بؤرات لهذين «المذهبين». واستكمل الكاتب رحلته في التصدي للشمولية. وأكد أن اليسار الفرنسي هو الذي أدخل هذه المذاهب إلى البلاد.
والغريب أن ليفي قد كتب في مقدمة هذا الكتاب. «أسكن في فرنسا»، فهو لا يشعر بالانتماء إلى فرنسا، مثلما لم يتم إلى الجزائر: «أنتمي إلى العديد من الرجال والنساء والشباب الذين يمكنهم أن يعيشوا في نيويورك ولندن وميلانو وباريس. إذا كانت فرنسا مجموعة من الأراضي والأطيان، فلست سوى ابنها، هناك أيضًا الثقافة واللغة والفرنسية، وهناك هذا الجزء من الأغنيات والكتب والأوراق التي أعرفها وأحبها وأرتبط فيها وجودي. ولكن لا يمكن أن تكون فرنسيًا دون أن تجر وراءك جثثًا بشعة، وأشباحًا مأساوية».
ويرى الكاتب في هذا الكتاب أن فرنسا مهددة بغزو سوفيتي داخلي، «ليس لأنني أكره روسيا. ولكن لأنني أحب فرنسا الخالدة»، ويرى أن ماركس ليس المسؤول وحده عن الشيوعية العالمية. ولكن تلاميذه هم الذين أوجدوها.
كما أن ليفي قد هاجم انتخاب الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، ممثل اليسار ـ وألف عنه كتابًا ضخمًا انتقد فيه أفكاره، ثم ما لبث أن تراجع عن مواقفه وقال أن خير دليل على عظمة ميتران، هو اختيار جاك لانج وزيرًا للثقافة، مما أكد أنه رجل متفتح، يجب الاعتداد بقراراته.
وقد نال برنار هنري ليفي جائزة ميدسيسه، الأدبية عام 1984 عن روايته الأولى ـ والوحيدة حتى الآن «الشيطان في الرأس»، حول سيرة رجل يهودي عاش في فرنسا بين عام 1942، 1982.
الفيلسوف الثاني أندريه جلوكسمان (مولود عام 1938) هو في الأساس مفكر سياسي، بدأ حياته شيوعيًا، وشارك في مظاهرات مايو عام 1968، واعتنق الماوية. مدافعًا عن تجربة ماوتسي تونج في الصين، ثم كون جماعة الفلاسفة الجدد، والتي كان الروائي لوسيان بودار بمثابة الأب الروحي، وقد أعلنوا جميعًا أنهم مساندين لسارتر ومواقفه، في مناسبات عديدة، وقد تنوعت مؤلفاته الأولى بين السياسة والفلسفة، منها على سبيل المثال «الطهاة وأكلة البشر» ثم «سادة الفكر»، و»الجنون والشجن». وقد مثلت هذه الكتب الأولى ظاهرة في سنوات الحرب الباردة، حيث انتقد جلوكسمان الفكر الماركسي الذي انتمى إليه يومًا، وما أسفرت عنه من حكم شمولي.
وقد ظهر جلوكسمان في الأماكن نفسها التي سافر إليها صديقه برنار ليفي، مثل سراييفو، وقد ناهض الشمولية في دول عديدة، منها العراق، وكتب مقالات ضد صدام حسين وحكمه الديكتاتوري. ومن بين كتبه الأخيرة «الخير والشر» عن العلاقات الألمانية الفرنسية، و»أين أنت يا ديجول» بدا فيه كأنه يقرأ فرنسا المعاصرة، من خلال التجربة الديجولية، وله كتاب فلسفي نشره عام 1991 باسم «دبكارت هو فرنسا».
يقوم جلوكسمان بوضع إطار فلسفي لفكره السياسي، وربما العكس، فإنه يقوم بفلسفة السياسة، وقد لمع بشكل شخصي، كنشط، في سنوات بعينها، خاصة أيام الحرب الباردة، وأيام الصراع العرقي الدامي في البوسنة، ولا أذكر أنني قرأت له شيئًا يلفت الانتباه فيما يخص الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
لعل من أهم ما كتب عن جلوكسمان في المجلات الأسبوعية هو ذلك المقال الذي نشره لوسيان بودار في مجلة لوبوان 15 مارس 1982. والذي بدا فيه الكاتب العجوز وقد حاول الاتصال بالشباب فأجرى معه حوارًا حول كتابه «الجنون والشجن» قال فيه جلوكسمان أن جذوره اليهودية ترجع إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية، وأن أسرته ناهضت النازية في أماكن عديدة. وأن أمه الروسية الأصل انتهجت الشيوعية، لكنها هربت من الاتحاد السوفيتي، واختارت فرنسا للإقامة، مما يعني أن السياسة هي الأساس في جذور الفيلسوف، فقد انضم في سن مبكرة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بتأثير من أمه، ثم ما لبث أن انفصل عنه. وتتلمذ على يديّ سارتر، وصادق المخرج السينمائي جودار.
المتتبع لما أطلق عليه جلوكسمان اسم الفلسفة الجديدة، يلاحظ أنها رؤى سياسية ضد الشمولية، ومحاولة فهمها، من أجل شن الهجوم عليها، فقد بدت له التجربة الماوية غامضة للغاية في بداية الستينيات، مما دفعه إلى زيارة الصين والاتحاد السوفيتي، وكتب مقالاً بعنوان «أوروبا 2004» في نهاية السبعينيات تخيل فيه أن الشيوعية سوف تسود العالم عن طريق الحروب، مما يعني أنه كاتب تحذيري، أكثر منه محلل، أو صاحب نظرية فلسفية. ويقول أنه كون هذه الرؤية حول الشيوعية والحرب بعد أن شارك في مظاهرة أقامها الفيتناميون في ماليزيا، ضد الشيوعية التي انتهت في بلادهم. وقال أنه حيث وجدت الشيوعية اندلعت الحروب. وقد اكتشف جلوكسمان، حسبما يقول، الفارق الشاسع بين فلاسفة الحرم الجامعي، والفلاسفة من طرازه الذين ينزلون إلى بؤر الصراع السياسي، فالطرف الأول أشبه باستراحة المحارب: «أما أنا: فمن أسرة شيوعية يهودية، ألمانية، معارضة، ويكفي هذا أن تنغمس في الحرب».
وما كتبه جلوكسمان حول خصمه الشيوعية، وما تمتلكه من شمولية، أن قوة هذه الأخير، لا يبدو في مكمنها وإنما في غياب مقاومة الآخر، فحين تنهار الشيوعية، فإن ذلك سيحدث بشكل أسرع من انهيار المعارضين، وقد آمن الفيلسوف أن الثورة هي الحل الأمثل ضد الشيوعية، مثلما حدث في أفغانستان وأريتريا، دون أن يرى ماذا يمكن أن يحدث بعد الثورة، والغريب أن الفيلسوف الذي رأى القاعدة تسيطر على أفغانستان، ثم الأمريكيين من بعد ذلك، بدا كأن آماله قد خابت، فلم ينطق بكلمة، كأنه قد راجع نفسه في صمت.
لكن، يبدو كأن جلوكسمان، كان يبحث عن مناطق التوتر السياسي، لإعلان احتاجه، والتعبير عن وجهة نظره، فمن بين المقالات الأخيرة التي نشرها، ذلك المقال الطويل الذي كتبه في مجلة الإكسبريس 29 يناير عام 1998، تحت عنوان « بكيت في الجزائر على أعقاب القرن الحادي والعشرين»، وكان مقاله حول ما يحدث من عنف دموي بالغ القسوة في عمليات القتل الخفية في الجزائر، سواء من حيث عدد الضحايا، أو أسلوب القتل، خاصة ما يحدث ضد الكتاب والمفكرين، والصحفيين، وقد قال في نهاية مقاله أنه عند منتصف طريق البداية، ونهاية العالم، فإن الجزائر تواجه، حسب كافة الاحتمالات، طاعونًا جديدًا، وأن التعصب الفطري، السياعي معد، وأن قتلة السادات. ورابين من الفصيلة نفسها، وأيضًا جريمة باروخ جلو شتاين الذي طعن المسلمين من الخلف، وهم يؤدون الصلاة يؤكد العدوى التي تنتقل عبر الحدود الدينية، والقومية. ومثلما رأينا تجربة ألمانيا ، الثلاثينات فإن الجزائر ـ عام 1988ـ تعيش في محنة آلامها، تقام، وليعذرني القارئ، فيبدو أنني لم أزر الجزائر، بتخيلها، وأهوائها، ولكنني بكيت على أعتاب القرن الواحد والعشرين.
وقد كان مصير الفلسفة الجديدة، أشبه بما حدث للروائيين المنشقين عن المعسكر الشيوعي، فما أن تم إعلان مباديء البيروستريكا، حتى ظهر جيل جديد من المفكرين والأدباء أطلق عليهم مفكري البيروستريكا، ثم بعد أن تفكك المعسكر الشرقي كله ، حتى اختفى هذا الجيل، لأنه لم يعد لديهم ما يناضلون ضده. وتلاشت أسماءهم اللامعة ، مثلما يذوب الجليد في يوم مشمس ..
حدث نفس الشيء أيضًا بالنسبة للفلاسفة الجدد، الذين ركزوا اهتماماتهم على مهاجمة ا لاتحاد السوفيتي وتوابعه، وانحشر الضوء عن كل هذه الأسماء التي ذكرناها، بما يعني أنها كانت وليدة ظروف، وأيضًا ماتت عندما تلاشت هذه الظروف.
وفي نهاية هذا العرض لما سمى يومًا بالفلسفة الجديدة التي جاءت بعد جان بول سارتر، وكانت قصيرة العمر، أن نستعرض آرائهم فيما يخص القضية الفلسطينية، فقد عكف ليفي، على سبيل المثال، على مهاجمة منظمة التحرير الفلسطينية في أحاديثه ومقالاته، واعتبرها، آنذاك منظمة إرهابية، إلا أنه في الحديث الطويل الذي أجرته معه مجلة Leir عام 1979 يرى أ ن التاريخ «علمنا أنه إذا كان لليهود الحق في العودة إلى فلسطين. فإن للفلسطينيين أيضًا هذا الحق في العودة»، وأشار أن المشكلة التي تواجه إسرائيل هي أن البعض يريد إلقاء اليهود في البحر وأكد أنه إذا كانت هناك دراما فلسطينية، فهناك أيضًا تراجيديا إسرائيلية.
وفي كتابته إلى مجلة «حدث الخميس» في 17 مارس عام 1988 تحت عنوان «على إسرائيل أن توقف كافة مظاهر العنف التي تمارسها ضد أطفال كل أسلحتهم هي الحجارة «.
ماذا بعد جان بول سارتر؟
الكاتب : محمود قاسم
بتاريخ : 09/08/2019