المذهب العقلي أو العقلاني هو ثالث أكبر المذاهب الفلسفيّة التي تهتم بدراسة الوجود والكون إلى جانب المذهبين التّجريبيّ والنّقدي. يركز المذهب العقلي على التأكيد على أهمية القدرات العقليّة في فهم الأشياء والحقائق، كما يؤكد على أحقية وأهمية العقل في استقراء الوقائع وفهمه وتحليله. ويؤمن بقدرة العقل هذا على فهم القدرات والاستنتاجات العقليّة دون الحاجة إلى الخبرات التجريبية أو الحسّية، بل وكذلك الدينية الإيمانية.
بدأت فلسفة العقل منذ ظهور كتاب رايل «مفهوم العقل» تفرض نفسها تدريجيا في الحقل الفلسفي الغربي، ولربما يمكن «المغامرة» بفرضية كونها أصبحت «الفلسفة الأولى»، عوض الميتافيزيقا القديمة، التي تربعت على «عرش» البحث الفلسفي لما يفوق خمسة وعشرين قرنا. ففي فترة زمنية لا تتعدى ثمانين سنة، استطاعت فلسفة العقل هذه تبوء هذه المكانة المرموقة دون منازع على الصدارة. وبهذا تُسجل نفسها عن جدارة «البنت الشرعية» للفلسفة المعاصرة. وتطورت عدة نظريات واتجاهات فلسفية ودُقِّقت في النصف الثاني من القرن العشرين، مستفيدة في ذلك من علوم كثيرة ومنها بالخصوص العلوم الإدراكية.
ساهمت كل نظرية من هذه النظريات في محاولة حل إشكاليات العقل وسبر أغواره بطرق شتى، وأدى هذا إلى الإختلاف في ما بينها في قضية فهم جوهر العقل وتكوينه، والطريقة التي يشتغل بها لإدراك الأشياء وهضمها. كما طرحت أسئلة حول إشكالية الوعي والحالات العقلية ونشاطاتها والتعاون في ما بينها.
انبرى الفيلسوف الإنجليزي جيلبير رايل Gilbert Ryle في كتابه: „مفهوم العقل“ إلى التصدي للإرث العقلاني الديكارتي بالنقد والتحليل، موضحا بأن إشكالية „الجسد والروح/العقل“ لم تُحل بالثنائية التي اقترحها ديكارت، لأنها تتضمن أخطاء منطقية كُبرى، ومنها بالخصوص انتماؤها إلى صنفين مختلفين في طبيعتهما واشتغالهما.
ولتعميم الفائدة، نقدم هنا ترجمة بالعربية للفصل الأول من الكتاب المذكور أعلاه. وهي ترجمة عن الفرنسية، قام بها برونو امبرواز، صدرت عام 2005، بباريس. ونظرا لطول النص المترجم، فإننا قسمناه إلى ثلاثة أجزاء.
الجزء الأول
النص المُترجم
«مُقدمة المؤلف»
أقترح في هذا الكتاب ما يمكن تسميته، مع بعض التحفظات نظرية العقل (mind)، دون ادعاء تقديم معلومات جديدة في هذا الموضوع. في متناولنا بالفعل ثروة من المعلومات حول العقل، لم يتوصل المرء إلى هذه المعلومات عن طريق براهين عقلية، ولن يتم التخلي عن هذه البراهين أيضا تحت ضغط العقل. إن البراهين الفلسفية التي تشكل قاطرة هذا المُؤلف لا تدعي بأنها ترفع من مستوى معرفتنا للعقل، لكن تصحيح الجغرافية المنطقية للمعرفة التي نمتلكها عنه (أي العقل إ. م).
يستطيع الأساتذة والقضاة والنقاد والمؤرخون والروائيون والكهنة والضباط والمُشَغلّون والمُشَغَّلُون، والآباء والمحبون والأصدقاء والأعداء، حل المشاكل اليومية المُتعلقة بالصفات الأخلاقية والفكرية وكذا خاصيات الأشخاص مع من يتعاملون. يستطيعون تثمين النتائج المحققة من طرف هؤلاء الأشخاص وتقدمهم وفهم حديثهم وأفعالهم ودوافعهم، ويُسُرّونَ لنِكتهم. إذا ما أخطأوا يعرفون كيف يصلحون أخطاءهم. أكثر من هذا يستطيعون بالنقد والمثال والتعليم والعقاب والرشوة والسخرية والإقناع التأثير عن قصد في عقل من تربطهم بهم علاقة؛ وإذا دعت الضرورة إلى ذلك تغيير الطريقة الخاصة بالإعتماد على النتائج المُحققة.
بوصف عقل الآخر وبإلزامه بسلوكات معينة، فإن الأشخاص السالفي الذكر يستعملون بنجاح كثير أو قليل مفاهيم القدرات والعمليات العقلية. تعلموا قياس، في الأوضاع الواقعية، السلوك العقلي بمساعدة النعوت من قبيل „دقيق“، „غبي“، „منطقي“، „سَاهٍ“، „شديد الذكاء“، „مغرور“، „منهجي“، ساذج“، „روحاني“، „مُنضبط“ إلى غير ذلك.
ومع ذلك، فإن القدرة على تطبيق هذه المفاهيم، والقدرة على وضعها في علاقة مع بعضهم البعض أو مع مفاهيم من فئة مغايرة، هما قُدرتان مختلفتان كليا.
إن أغلبية بني البشر تعرف استعمال هذه المفاهيم، لكنها لا تستطيع مناقشتها، فقد علمتهم الممارسة استعمالها، على الأقل في الميادين التي تكون معتادة عندهم، لكن لا يكون في وسعهم ذكر القواعد المنطقية التي تحكم استعمالهم. إنهم يشبهون الناس الذين يعرفون الطريق في قريتهم، لكنهم لا يستطيعون رسم أو قراءة خارطة ولا خارطة المنطقة أو القارة التي توجد فيها قريتهم.
عندما يتعلق الأمر بكلام ما، فإنه يكون من الضروري تحديد البُنْيَة المنطقية للمفاهيم التي نعرف تطبيقها جيدا. وقد كان الجزء الأكبر في عمل الفيلسوف هو تحديد هذا الأساس لمفاهيم القدرات العقلية والعمليات العقلية أو الحالات العقلية. ومختلف نظريات المعرفة والمنطق والأخلاق والفلسفة السياسية والإستيطيقا هي نتائج للنشاط الفلسفي في هذا الميدان. وقد كانت بعض هذه الأبحاث السبب في تطورات مهمة في الكثير من تفاصيل نقط معينة، لكن أطروحتي في هذا الكتاب تتمثل في جانب من جوانبها في إظهار كون الأصناف المنطقية التي استعملت للتنسيق بين مفاهيم القدرة والعمليات العقلية قد اختيرت بطريقة سيئة في القرون الثلاثة الأخيرة من وجود العلوم الإنسانية. هناك أسطورة في الإرث الفلسفي لديكارت لاتزال تُشوه الجغرافية العامة للموضوع.
بالتأكيد إن الأسطورة mytheتختلف عن الخرافة conte de fées. فالأسطورة هي تقديم أفعال تنتمي إلى صنف في تعبير اصطلاحي يلائم صنفا آخر. والقيام بتفجير أسطورة ما -وهذا هو هدفي- لا يعني إذن نكران حقائق ما، لكن إعادة تنظيمها.
إن تحديد الجغرافية المنطقية للمفاهيم يعني تحيين منطق القضايا التي تنتمي لها، يعني إبراز اتفاق أو تنافر هذه القضايا مع قضايا أخرى، وكذا تحديد القضايا التي تتضمنها وتلك التي تكون هي نفسها نتيجة لها.
إن نوع الفئات المنطقية التي ينتمي لها مفهوم ما، هو مجموع الطرق التي يمكننا بها استعماله. ولهذا السبب كنت أريد أن تُظهر البراهين الرئيسية المُستعملة في هذا المُؤَلَّف لماذا تتعارض بعض أنواع عمليات مفاهيم القدرات والعمليات العقلية مع قواعد المنطق. سأستعمل براهين الحجاج بما هو سخيف، من جهة للدحض الواضح لبعض العمليات المُوصى بها ضمنيا من طرف الأسطورة الديكارتية، ومن أجل إظهار ما هي الأصناف المنطقية التي يجب تأطير المفاهيم المدروسة فيها. ولا يعني هذا بأنني أرى بأنه من غير المفيد الرجوع، من حين لآخر، إلى حُجج أقل صرامة، وبالخصوص عندما يتضح بأن الوقت قد حان للوصول إلى التخفيف من مقاومات معينة وتسهيل الإنتقالات المنطقية.
تتمثل الفلسفة في تعويض الأصناف المُعتادة بأصناف طُورت عن طريق انضباط عقلي صارم، وإذا كان الإقناع ومحاولات التصالح تُخفف الصعوبة القائمة في الإستغناء عن مواقف عقلية متجذرة جيدا، فإن هذا الإقناع ومحاولة التصالح لا يقويان الحجج الصارمة، لكنهما يُنقصان من مقاومة تبنيهما.
قد يحكم بعض القراء على نبرة هذا الكتاب بأنها حِجاجية على نحو غير ملائم. وما قد يطمئنهم قليلا هو إذا علموا بأن الفرضيات والتأكيدات الضمنية التي أحتج ضدها بصرامة أكثر، هي التي كنت أنا شخصيا ضحية لها. أحاول القضاء على بعض الفوضى في نسقي الخاص أولا، وأتمنى أن أساعد الفلاسفة ثانيا في التعرف على مرض مشترك لنا، وبهذا نتركهم يستفيدون من علاجي“.
الجزء الثاني
نستخلص من الترجمة العربية لمقدمة «مفهوم العقل» التي قمنا بها، وهي ترجمة – كما سبقت الإشارة إلى ذلك عن الترجمة الفرنسية للكتاب- بأن واضعة هذه المقدمة جوليا طاني Julia Tanney حاولت تقديم قراءة شاملة للكتاب، مع „شذرات نقدية“ من حين لآخر، لكنها تبقى شذرات، لأنها لم تذهب إلى عمق مساءلة فكر رايل في كتابه هذا، بقدر ما اكتفت بعرض لأهم ما جاء في الكتاب. ولربما كانت بعض الأسئلة التي طرحتها صراحة أو ضمنيا هي هل يوجد العقل بالفعل؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فمن أي طبيعة هو؟ هل هو شيئ؟ أم سيرورة ديناميكية لأفكار تحدث داخل الإنسان، دون أن نكون قادرين على تحديد مكانها بالضبط أو العضو الجسدي حيث تحدث؟ هل العقل هو المخ؟ وأية علاقة تربطه بالجسم؟ نستشف أيضا من مقدمة طاني بأن فلسفة العقل التي يقترحها رايل تهتم بإشكاليات فلسفية أخرى، معقدة وملتوية، ومنها على الخصوص طبيعة العقل الإنساني وعلاقته بالذكاء الآلي.
نتابع في الجزء الثاني من هذه الترجمة كيف نظر رايل للثنائية الديكارتية وكيف فهمها وقرأها وأولها، ثم انتقدها ورفضها جملة وتفصيلا.
«ريَّشَ» (بمعنى حلل) رايل تصور ديكارت للعلاقة بين العقل والجسد. وهنا بالضبط ظهر تعبيره المشهور «الشبح في الآلة». ومضمون العبارة هو أن ديكارت لم يتجاوز، في نظره، مستوى «الحس العام» فيما يتعلق بعلاقة العقل والجسم، بحيث أن كل البشر قد يجيبون عند سؤالهم عما يعتقدونه في هذه النقطة، بأن العقل يختلف عن الجسد، ومن ثمَّ وجود وجودين مختلفين لهما. بمعنى أن ديكارت لم يذهب، كما يؤكد رايل على ذلك، أبعد مما هو متداول ومعروف بديهيا من طرف جميع. الإنسان عنده يتكون من ثنائية تنحل إلى طبيعة مادية هي الجسد، وطبيعة غير مادية هي العقل. لكن طرفي هذه الثنائية جواهر قائمة بذاتها، أي أن العقل والمادة من طبيعتين مختلفتين جوهريًّا، لا يمكن اختزال الواحد منهما إلى الآخر.
وبما أن فلسفة الجواهر لا تعبر عن واقع ملموس يمكن التحقق منه تجريبيا، أي أنها فلسفة تسبح في عالم الميتافيزيقا والافتراضات النظرية الإحتمالية، فإن رايل نفى اعتبار العقل جوهرا، بل رفض هذا كلية. وفي هذا الرفض تتجلى نصاعة فلسفة العقل عنده، لأنه يتعامل مع هذا الأخير كشيء يوجد ماديا ويشتغل طبقا لقوانينه الخاصة، المُملات من الجسد كجسد، بل لم يرَ أي اختلاق بين العقل والجسد، بقدر ما رأى وحدة بينهما.
وقاد هذا رايل إلى التساؤل عن الطريقة التي حاول ديكارت بها حل إشكالية الفرق بين ما سماه الجوهرين، وكذا عن التفاعل بينهما، على اعتبار أن ديكارت أكد بأن الفرق بينهما لا ينفي نوعا من التفاعل يحدث بينهما في ظروف معينة، أي كيف يحدث التأثير والتأثير المضاد بينهما؟ ويؤكد رايل، بأن ديكارت عجز تماما على البرهنة على الروابط السببية بينهما. من جهة هناك عقل غير مادي، غير ملموس، يوجد خارج الزمان والمكان، أبدي ومستقل عن الطبيعة. ومن جهة أخرى هناك جسم، هو له خاصية التمدد المادي الملموس الزمكاني، يخضع بطبيعته للحركة والتغير. من هذا المنطلق كيف يمكن للمتغير أن يؤثر على الأزلي؟ وكيف يؤثر هذا الأخير في المتحرك في فضاء محدد وزمان محدود؟
الأسطورة الديكارتية:
المذهب الموروث
هناك مذهب يتعلق بطبيعة وتحديد موقع العقل منتشر جدا بين أهل العلم والجمهور الواسع، يستحق أن يُسمى «المذهب الموروث». ينتمي أغلبية الفلاسفة والسيكولوجيين ورجال الدين، مع القليل من التحفظ، إلى أطروحاته الأساسية، وحتى وإن اعترفوا بأن هذا المذهب يطرح بعض الصعوبات النظرية؛ فإنهم مع ذلك يزعمون عن طيب خاطر بأنه من الممكن تجاوز هذه الأخيرة، دون تغيير كبير للمذهب عامة. سيُبرز هذا المؤلف بأن المرتكزات الأساسية لهذا المذهب لا تمتلك أي أساس وغير متساوقة مع ما نسميه، بصرف النظر عن كل تخمين، العقل.
ها هو إذن المذهب الموروث الذي يرجع أساسا إلى ديكارت. فباستثناء البلداء والرضع، وهو استثناء قابل للنقاش، فإن لكل كائن بشري عقلا وروحا، أو كما يفضل البعض القول، فإن كل كائن بشري هو في نفس الوقت عقل وجيد. يكون العقل والروح مرتبطين عامة في ما بينهما، وبعد الموت الجسدي، فإن العقل الذي كان في الأصل مرتبطا بالجسد، باستطاعته الاستمرار في الوجود والاشتغال.
تمتد الأجسام البشرية في الفضاء وهي مُعرضة لقوانين الميكانيكا، التي تتحكم أيضا في كل الأجسام الأخرى الممتدة في الفضاء. يمكن للملاحظين ملاحظة أحوال وحركات هذا الجسد من الخارج. وبهذا فإن الحياة الفيزيقية لشخص ما هي مسألة عمومية، تماما كحياة الحيوانات والزواحف والأشجار والبِلَّوْر والكواكب.
على العكس من هذا فإن العقول ليست ممتدة في الفضاء، وعملياتها لا تكون خاضعة لقوانين الميكانيكا.
إن عمليات عقل ما لا تكون مُلاحظة، إنها خاصة. ليس هناك شخص آخر غيري يمكنه المعرفة المباشرة لحالات وعمليات عقلي من غيري. ولهذا السبب يعيش كل شخص حياتين مُتوازيتين، تلك المتعلقة بجسده وتلك المتعلقة بعقله. الأولى عمومية، والثانية خاصة. وتنتمي أحداث تاريخ الأول إلى العالم الفيزيقي، بينما تنتمي أحداث الثاني لعالم العقل.
هناك من العلماء من رفض النظرية القائلة بأن الكائن البشري يتحكم أو يمكنه أن يتحكم مباشرة في مجموع، أو حتى في جزء، من أحداث تاريخه الخاص. وطبقا للمذهب الموروث، فإن هناك على الأقل العديد من الأحداث تكون له فيها معرفة مباشرة وغير قابلة للنقاش.
يعرف المرء، في وعيه، الوعي بالذات وفي عملية الإستبطان، مباشرة وبطريقة أصيلة حالات وعمليات عقله. قد تكون له شكوك كبيرة أو صغيرة حول حلقات معاصرة أو قريبة من العالم الفيزيقي، لكنه لا يعرف على الأقل جزءا مما يدور في عقله في تلك الأثناء.
يشرح المرء عامة الفرق بين الحياتين والعالمين بالقول بأن الأشياء والأحداث التي تنتمي للعالم الفيزيقي، بما فيها جسم الذي يتكلم، تكون خارجية؛ في حين أن اشتغالات عقله تكون داخلية.
إن هذا النقيض antithèse بين الداخلي والخارجي هو من أصل استعاري ومن المفترض أن يُفهم هكذا. الواقع أنه لا يمكن وصف العقول التي لا توجد في الفضاء بكونها موجودة فضائيا داخل شيئ آخر أو وكأنها تحتوي على أشياء تقع فضائيا داخل ذاتها. ونسجل هنا هفوات مُتكررة لهذه النية الحسنة، وهناك من بين المُنظرين من يخمن حول فكرة معرفة كيف أن مؤثرات ذات منابع فيزيقية والموجودة على بُعد أمتار أو كيلوميترات من جلد شخص ما، يمكنها إنتاج أجوبة عقلية في داخل جمجمته، أو كيف يمكن لقرارات شُكِّلت داخل صندوق الجمجمة أن تكون أصل/سبب الحركات في أعضائه.
وحتى وإن فُهم التقابل الداخلي-الخارجي كاستعارة، فإن مشكل معرفة كيف يتبادل الجسم والعقل التأثير في ما بينهما يبقى، وهذا أمر نعرفه، مليئا بالصعوبات النظرية. فما يريده العقل، تطبقه الساقان والسواعد واللسان، وما يؤثر في الأذنين والعينين يكون في علاقة مع ما يَتَمَثَّلَه العقل، وتُعدُّ تعابير الوجه والابتسامات حالات عقلية ويتمنى المرء أن يكون للعقوبات الجسدية مفعول جيد على الأخلاق. وتبقى العلاقات والتأثيرات بين حقب التاريخ الخاص (العقل إ. م) وبين التاريخ العمومي (الجسد إ. م.)، لأنها، تعريفيا، لا يمكن أن تنتمي لأية سلسلة من السلسلتين. ولا يُمكن إدخال هذه العلاقات والتأثيرات ضمن أحداث وُصفت في السيرة الذاتية للحياة الداخلية لشخص ما، ولا في أحداث حُكيت في السيرة الذاتية كُتبت من طرف شخص ثان عن الحياة العامة لنفس الشخص. لا يمكن إذن ملاحظة هذه العلاقات والتأثيرات لا بالاستبطان ولا بتجارب مخبرية. والواقع أن الأمر يتعلق هنا بكرة تُرمى دون انقطاع بين منظري الفيزيولوجيا ومنظري السيكولوجيا.
هناك، في أساس هذا التأويل الاستعاري الجزئي لتناقض الحياتين السالفتي الذكر، فرضية فلسفية، الظاهر أنها أكثر عمقا، قائلة بأنه من الضروري التمييز بين نوعين مختلفين من الوجود أو الحالة. يمكن أن يكون لما يوجد أو لما يقع وضع وجود فيزيقي أو أن يكون وجودا عقليا. يفترض المرء، إلى حد ما كقطعة نقد تسقط على أحد وجوهها أو ككون المخلوقات البشرية فيها ذكور أو إناث، بأن الوجود إما أن يكون عقليا أو أن يكون جسديا. والخاصية الضرورية لما يوجد فيزيقيا هو وجوده في الفضاء/المكان والزمان. أما الخاصية الضرورية لما له وجود عقلي فهو حدوثه في الزمن، لكن ليس في المكان/الفضاء. فما له وجود فيزيقي مكون من مادة أو أنه وظيفة للمادة، والذي له وجود عقلي يكون واعيا أو أن له وظيفة الوعي.
هوامش:
1 إ. م: روبنسون كروزو هي رواية لدانيال ديفو، نشرت للمرة الأولى 1719. وهي سيرة ذاتية خيالية، تحكى عن شاب انعزل في جزيرة ما، وحيدا لمدة طويلة دون أن يقابل أحدا من البشر، وبعد عدة سنوات التقى بمتوحش من المتوحشين، علمه بعض ما وصل اليه الإنسان المتحضر من تقدم فكري وجعله خادمه. إنه حلم الانعزال عن هذا العالم الظالم والعيش في حضن الطبيعة الرحيمة.
2إ.م: تأسست هذه المكتبة الجامعية حوالي 1602، من طرف المكتباتي طوماس بودلي Thomas Bodley. تتضن المكتبة أكثر من 12 مليون كتاب وتسمح بالتصفح الإلكتروني لأكثر من 80 ألف مجلة. وتعتبر ثان أكبر مكتبة بأنجلترا بعد المكتبة الإنجليزية.
(يتبع)