قبل أيام دوى اسم آيت فاسكا بعيدا، وصار على كل الألسن مبعثا للأسئلة المقلقة، كان من نصيب هذه البلدة الهادئة الجميلة الحافلة بحقول الزيتون، التي يحيا أغلب سكانها على الكفاف، أن تأخذ نصيبها من شهرتها المفاجئة مقرونة بكلمتين ذات حساسية كبيرة، هما الهولوكوست والماسونية. وكان الأغرب أن يكون مصدر هذه الضجة التي ارتبطت بها هو الصحافة الإسرائيلية.
“آيت فاسكا”، هذه البلدة التي تبعد عن مراكش بـ 26 كلم تقريبا، والتي يحيا أغلب سكانها نضالا يوميا من أجل مواصلة العيش بدون ادعاء أو مزايدة، مقاومين صعوبة الظروف وشح الموارد، سُوقت بدون إنذار مسبق في الآلة الإعلامية مكانا للدعاية الصهيونية وموقعا للاختراق الماسوني، والأسوأ من كل ذلك، فضاء لتمرير مؤامرة التطبيع، ما الذي حدث فعلا؟ وما نصيب ما راج حول هذه الواقعة من الحقيقة؟ ومن هي الجهة التي نفذت هذا المشروع؟ وكيف تقدم نفسها؟ كيف تحركت في قلب تراب مراقب من السلطة ويسهر على تدبيره مجلس منتخب؟ هل تسللت خلسة في غفلة من الجميع؟ هل تسترت تحت غطاء جعل وجهها الحقيقي غير مكشوف؟ ما نصيب السلطات المحلية والإقليمية من المسؤولية؟ هل كانت إلى هذا الحد غارقة في سبات عميق إلى أن فاجأتها الحقيقة القادمة من قلب إسرائيل؟
القنبلة التي صنعت في تل أبيب وفجرت
في آيت فاسكا
كل شيء بدأ بمقال نشرته “جورزاليم بوست” الإسرائيلية يتضمن تلخيصا لتصريح لناشط ماسوني، يعلن فيه استعداد قرية بضاحية مراكش لاحتضان أكبر نصب تذكاري لضحايا الهولوكوست. معلنا فيه أن منظمة “بيكسل هلبر” التي يرأسها شرعت فعلا في إنجاز المشروع الذي أراده له أن يكون مزارا عالميا لليهود وغيرهم من مختلف الديانات، وفضاء للفت الانتباه إلى حالات التعذيب وسوء المعاملة الفردية، وحث الدول على اتخاذ تدابير وقائية، لتجنب تعذيب واضطهاد الأقليات، وحظر استخدام الاعترافات القسرية في المحاكمة، من أجل عالم خالٍ من التعذيب.
كان هذا المقال أشبه بقنبلة صنعت في تل أبيب وتفجر مفعولها في المغرب، تناسلت الحكايات في مواقع التواصل الاجتماعي، وتضاعفت المعالجات الإعلامية لهذا الخبر، تسارعت المواقف والاحتجاجات، مثلما تأخرت السلطات الإقليمية بالحوز، كعادتها في مناسبات سابقة، في إجلاء الحقيقة، لتفسح المجال لمزيد من الالتباس، قبل أن يخرج بلاغ الداخلية الذي زاد الموقف غموضا.
الموقف مختلف بدوار « الكركور التحتاني» بجماعة آيت فاسكة، لأن المشروع القنبلة ينجز على أرضه، وعدد من أبنائه عملوا في الورش واحتكوا بأوليفير بينكوفسكي رئيس منظمة بيكسل هلبر راعية المشروع ومنفذته. الجميع يستشعر غرابة ما يقوم به هذا الأجنبي على الأرض التي اكتراها بمواصفات دقيقة، والكل يتحدث عن تلك الصفوف من القبور الخالية من الموتى، والبرج المثير الذي لا أحد يستوعب دلالته، والألوان المختلفة التي صبغت بها هياكل حجرية، والنقوش الغريبة والأشكال والصور. كانوا يتحدثون في ما بينهم، لكن دون أن يصل صدى حديثهم لا إلى الصحافة أو السلطة. بل إن بعضهم كان يتحدث عن تلك الرقصات الغريبة التي يطلب منهم أوليفير القيام بها أثناء توثيقها بصريا، وإلباسهم ذلك اللباس الغريب الذي لم يكن يظهر إلا في بعض أفلام هوليود، قبل أن يتضح أنها مقاطع دعائية كان يروج بها أوليفير لمشروعه من أجل كسب مزيد من التبرعات، مثلما تبين أن ذلك اللباس هو زي «سيد الخواتم».
بالنسبة لبعض هؤلاء الشباب، فخلاصة الموضوع أنه أقرب لحماقات أجنبي غريب الأطوار، لكن بالنسبة للكثيرين من سكان الدوار، فالأمر أكبرمن ذلك، مثير للشك ومصدر قلق حول مقاصد السيد بينكوفسكي الحقيقية ودوافعه الكامنة وراء إنجاز هذا المشروع.
الماسونية بدون قناع في مراكش
الانتماء للأخوية الماسونية ليس سرا تخفيه منظمة «بيكسل هلبر»، إذ أننا نجد أن المنظمة تعرف نفسها في موقعها الرسمي على الأنترنيت بهذه العبارات:» بيكسل هبلر منظمة دولية غير ربحية، ومنظمة لحقوق الإنسان مستوحاة من المثل العليا للماسونية. لا يزعجنا ضجيج العالم، نذهب في طريقنا، بهدوء وأمان ودون خوف، من أجل هدفنا الأسمى لحماية الأرض. اعتقادنا الأساسي هو مبادئ الثورة الفرنسية» الحرية والمساواة والأخوة» لأن هناك حاجة لعدم تكرار اللامبالاة السياسية، يريد الأعضاء الماسونيون من بيكسل هيلبر، كما هو الحال في زمن الثورة الفرنسية أن يقاوموا بنشاط الظلم حيثما يظهر».
في العام 2011 تأسست منظمة «بيكسل هيلبر» بواسطة أوليفر بيانكوفسكي الذي يُقدم على أنه فنان للضوء والحركة، والذي يصرح بوضوح وبدون أدنى سلوك للتقية أوالتقنع أن الماسونية هي كونفدرالية صداقة، واتحاد ذو توجه أخلاقي، ولدت من تقليد التنوير الأوروبي. مع قيمها الإنسانية، الأخوة، والحرية، والعدالة، لأن العالم في حاجة للحب السلام والتسامح.
تمارس «بيكسل هيلبر» دعاية واضحة للماسونية، ويتضمن موقعها الرسمي محتوى تمجيديا لهذه الحركة. كما هو الحال في هذا المقطع « الغرض من الكونفدرالية الماسونية هو تثقيف أعضائها على الإنسانية الحقة. الوسيلة لذلك هي ممارسة العادات الرمزية الموروثة من أكواخ القرون الوسطى، والتعليم المتبادل للشؤون الهامة للإنسانية، وزراعة المثالية وتحفيز الصداقة الحقيقية والمحبة الأخوية. يجب على الجميع نشر هذه المبادئ، وتعزيز التنوير ومعارضة التعصب. في النزل يتم تحفيز الأعضاء من خلال الخبرة المشتركة لرمز وطقوس التعليم الذاتي. من خلال الدعوة إلى الكرامة الإنسانية، وتنمية الأخوة، والعمل الخيري، يسعى الماسونيون إلى تحقيق المثل الإنسانية..».
ويشكل الفن أحد الدعامات الأساسية التي تُفَعل فيها منظمة «بيكسل هيلبر» نشاطها بما في ذلك تحركها بمحيط مراكش. حتى أن الصحافة الألمانية وصفتها بكونها «واحدة من الحاضنات الأكثر ابتكارا للفن السياسي..»، و ترفع المنظمة شعار أن الفن يجب أن يثير الألم، يستفز ويتمرد. ترى فيه شكلا من أشكال الضمان الاجتماعي المنسجمة مع روح التنوير. وتقول بوضوح « تسلط حملاتنا الضوء على إمكانيات الفن كقوة خامسة، الفن إذن ليس مرآة تصمد أمام الواقع، بل مطرقة تصنعه..».
لذلك لا غرابة في أن تعتمد المنظمة في حملتها لمواجهة قرار هدم متحفها بآيت فاسكا شعارا أطلقته على المستوى العالمي لحث أنصارها على المزيد من الدعم وتقديم تبرعات إضافية لخصته في جملة من ثلاث كلمات « الفن ليس جريمة»، لتقدم حملة السلطة ضد مشروعها على أنها حملة ضد القيم الفنية.
تصر منظمة «بيكسل هلبر» على تقديم رؤيتها لما تسميه بالعمل الإنساني الذي يستند إلى خلفية ماسونية من خلال رؤية أكثر انفتاحا للفن، تدفعه إلى واجهة المقاومة. إذ تقول « نحن ندرك الاحتمالات نحن نتعلم، نلعب. نطور الأفكار. نحصل على أفكار من الظلام. نحن نستخدم التباين ونجعله مذهلا. نغير وجهة نظرك. نعمل في الظل. نبحث عن السبب في الضوء. نعطي إجابات. نتخذ موقفا. نتهم. نلعب مع شرارة الضوء في الأعماق. ونحمله خارجا.».
بل إن ردها على قرار هدم مشروعها بآيت فاسكا جاء بعرض مقطع فيديو يوثق أعمال الهدم، يحمل شعار « بترخيص رسمي لن يكون ذلك عملا فنيا» كما لو كانت تجادل السلطات المغربية في كون ما أنشأته في آيت فاسكا عملا فنيا، والفنان لا يحتاج إلى ترخيص رسمي لكي يبدع. بالطبع فهي لا تخاطب في كلامها هذا السلطات المحلية بقدرما تنشد ود أنصار حرية الفن من مختلف أنحاء العالم لضمهم إلى قائمة مؤيديها وداعميها ماديا.
بينكوفسكي مسار مغامر من برلين
إلى دوار الكركور
« نحن نقاتل بشغف من أجل عالم أفضل»، ترفع منظمة بيكسل هيلبر هذا الشعار لتحفيز متتبعيها على تقديم المزيد من التبرعات، لإنجاز مشاريعها وفي مقدمتها مشروعها بآيت فاسكا. منذ أن أثير موضوع إنشاء صرح الهولوكوست بهذه البلدة الصغيرة، والسؤال يتردد، كيف وصلت هذه المنظمة إلى منطقة الحوز، وحطت رحالها بدوار» الكركور التحتاني» بآيت فاسكا القريبة من منطقة آيت أورير؟ ترتبط الإجابة عن هذا السؤال بمسار شخصية أولفير بنكوفسكي مؤسس هذه المنظمة، وتدرج مغامراته في الحياة إلى أن أوصلته إلى قناعة ماسونية قادته في تحركه الميداني من أجل الأهداف التي لا يخفيها مثلما لا يخفي المرجعية التي تسندها. انصب اهتمام أوليفير الذي ولد سنة 1982 بكاسل بألمانيا، على المعلوميات التجارية، قبل أن يخلق مقاولة في الأمن السيبرنتيقي، التي حققت نجاحا مهما، انتهى ببيعها سنة 2006. ليدخل مغامرة جديدة أنجز فيها مشاريع مختلفة في ميادين تتصل بالعالم المعلوماتي. وأسس جمعيته التي نال عنها جائزة من حركة «أطاك» تقديرا لالتزامه الاجتماعي. وعمل لصالح عدد من كبريات الشركات لتصميم وتنفيذ حملات دعائية في الشارع. مثلما صار اسمه يتردد في هذه الفترة كفنان يصمم عروضا ضوئية. وصنفت أعماله ضمن الفن الاحتجاجي. في سنة 2008 صار لاسم أوليفير بنكوفسكي صدى أوسع في الأوساط الفنية والسياسية بألمانيا وخارجها، عندما أحدث عرضه الضوئي بميونيخ، والذي جاء كرد فعل على الأزمة المالية العالمية، جدلا كبيرا، حيث استعمل في العرض كلمات مأخوذة من أغنية ألمانية قديمة تقول « من يجب أن يدفع ثمن هذا؟ من أمر بهذا؟ من له كل هذا المال؟» و كانت هذه الأسئلة تتردد في أذهان الجميع في ظل الأزمة المالية. تكرس اسم أوليفير في غضون ذلك كفنان احتجاج، واستدعي عدة مرات للمشاركة في مهرجان الضوء ببرلين حيث كانت عروضه تثير الكثير من الجدل. اكتسب اسمه شهرة أوسع كمناضل مناهض للظلم ومدافع عن العدالة الاجتماعية.
وكما هي دائما مسارات المغامرين، حافلة بالمنعرجات المفاجئة، قرر أوليفر مغادرة ألمانيا وأوروبا، وتركيز نشاطه بشمال إفريقيا لتكون تدخلاته « الإنسانية» أكثر نجاعة ببلدان إفريقيا دعما لضحايا الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، كما يزعم. لم يجد في شمال إفريقيا على اتساعها سوى المغرب، ولم يجد في المغرب سوى مراكش ومحيطها، ولم يجد في هذا المحيط سوى آيت فاسكا. سنة 2014 كانت بداية نشاطه المعلن بهذه المنطقة كما يؤكد هو نفسه على الموقع الرسمي لمنظمته، وبحسابه الخاص بالفايسبوك.
يمثل روبين هود النموذج الملهم لأولفير، أي ذاك النموذج الذي يتحرك بدافع مناهضة الظلم الاجتماعي، لكي يأخذ من الأغنياء ليعطي للفقراء. هذا ما يروج له مؤسس منظمة «بيكسل هيلبر» في الوصلات الدعائية التي يقدمها في المنصات التي تعرض نشاط المنظمة، وخاصة في ما يتعلق بنشاطه بآيت فاسكا، الذي لا يعتبر إنشاء النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست والأقليات الدينية والمثليين، سوى جزء منه. فهو يزعم أن الأمر الأهم هو القيام بالمزيد من التحركات لمساعدة ضحايا المجاعات والحروب والكوارث الطبيعية والمشردين والمراهقين مستعملي الدرجات الذين يقضون بسبب حوادث السير.
في آيت فاسكا..كل شيء
تحت أنظار العالم
عندما شرعت الجرافات في تهديم أجزاء من منشأة « بيكسل هيلبر» بآيت فاسكا، سارع أوليفير بينكوفسكي في إبداء تذمره من تصرف السلطات المغربية. محددا حجم الخسائر المادية جراء أعمال الهدم في ما يناهز مائة ألف أورو، مركزا على البنية التحتية الهامة للبث الفوري التي تضم ساريات محملة بـ 20 كاميرا فائقة الدقة من صنف 360 درجة تؤمن النقل المباشر لكل الأشغال التي تجري بمكان إقامة المشروع. هذه الكاميرات تعمل خلال أشغال التدمير، ونقلت جزءا من توغل الجرافات وهي تنهش في النصب المقامة.
عمل أوليفير بينكوفسكي على تطوير برنامج رقمي للنقل المباشر بغاية تمكين المتبرعين من تتبع هذه الأشغال، وتحديد المشروع المدعوم من طرفهم، وتتبع تنفيذه في الميدان. سمى ذلك مؤسس «بيكسل هيلبر» بالإنسانية كتجربة تفاعلية، أي التفاعل من أجل عمل إنساني حسب زعمه. ويحدد هدفه قائلا « إن مطالبنا ليست أقل من حل لجميع الكوارث الإنسانية من خلال تبرعات المشاهدين بشكل تفاعلي عبر البث المباشر. هدفنا24 ساعة من البث المباشر لشرارات العالم. مرافقة الصحفيين في مناطق الحرب، وتوزيع المساعدات في مخيم اللاجئين أو ملاحقة الصيادين في حديقة كروجر الوطنية..» تسمي منظمة «بيكسل هلبر» هذا المشروع بـ «Zombies Without Borders « الذي يعد منصة تفاعلية للمساعدات.
كانت المنشأة بآيت فاسكا تحت أنظار عين لا تنام تنقل كل حركة فيها إلى الآلاف من المتتبعين ليل نهار و تبث تطور الأشغال، الفرن الذي يعد الخبز و مزرعة الطحالب، والنصب التذكارية.. كل ذلك كان مكشوفا في شفافية مطلقة عبر الشبكة. ولم يكن فيه شيئا مستورا. بل إن كل الأشكال والرموز التي ملأت المكان، كانت بدورها مكشوفة على حساب المنظمة بالفايسبوك وموقعها الرسمي حساباتها بمواقع أخرى للتواصل الاجتماعي. بمعنى آخر كان كل شيء يفضح نفسه ليل نهار للعالم أجمع، إلا للسلطات المغربية التي نفت وجوده نهائيا.
المثير أن المنظمة لا تخفي رهانها الاستراتيجي على المغرب باعتباره قلب عملياتها، ومركزها اللوجيستي. وهذا ما تؤكده وثائقها المنشورة في موقعها الرسمي، والذي يشير بشكل واضح إلى أن « أول مواقع للبث المباشر هي السنغال وفلسطين ومركزنا اللوجستي يوجد في المغرب» PixelHELPER « تريد تزويد جميع الدول الأخرى بإمدادات الإغاثة الإنسانية من موقع المغرب. في طريقنا إلى مدغشقر، نرغب في تثبيت موقع واحد على الأقل في البث المباشر في كل بلد. ستقوم أماكن «Livestream « إما ببناء فرص عمل مثل مزرعة طحالب وإنتاج منتجات مع اللاجئين لمنحهم مستقبلًا جيدًا في القارة الإفريقية. كل شيء في البث المباشر، أنت دائمًا هناك وتقرر ما يحدث. سيتم عرض كل مكان في البث المباشر خلال اليوم، التلفزيون التفاعلي بهدف تحسين العالم.. مع تثبيت برنامج «PixelHELPER Livestream Schwarmhilfe « على موقع في شمال إفريقيا (آيت فاسكا)، أنشأنا حقائق لتجربة ميدانية لمشروعنا. يمكننا الآن العمل على مشاكل القارة الإفريقية من خلال برنامج المساعدة الخاص بنا. لقد قمنا بإعداد العديد من أماكن العمل التفاعلية على موقع الإنتاج التفاعلي الخاص بنا. يعمل متجر الخياطة، ومحطة لحام، ومخبز، وتربية الطحالب، و كابلات الشبكة موصولة بـ 20 كاميرا لعرض أحدث صور الإنتاج الحي».
خمس سنوات من العمل
ما تُنكره السلطة بالحوز تفضحه المنظمة بوضوح. فهي تؤكد أنها انتقلت إلى المغرب منذ خمس سنوات وحققت الكثير خلال هذه المدة. حيث تصرح في إحدى وثائقها « في عام 2014 انتقلنا إلى المغرب لوضع الأساس لأنشطتنا في إفريقيا. بعد خمس سنوات، أنجزنا الكثير بالفعل، ويمكننا تقديم المساعدة الإنمائية في جميع أنحاء إفريقيا. من الأسهل تنظيم تدخلاتنا من مقرنا في شمال إفريقيا أكثر من أوروبا».
ما الذي حققته المنظمة بأرض المغرب في هذه السنوات؟ تجيب بوضوح « حولنا مزرعة صغيرة تقع على بعد 40 كم من مراكش في المغرب إلى استوديو بث مباشر تفاعلي. تحت أعين الكاميرات، ننتج هنا، بمساعدة المتفرجين، الإمدادات الإنسانية، وأقراص الأعشاب البحرية لمكافحة سوء التغذية، والخبز المعلب لمخيمات اللاجئين في فرن خشبي طوله 4.60 متر، سلال مضادة للفيضانات في شمال إفريقيا، ومكعبات الطوارئ للبقاء على قيد الحياة في حالة فقدان السكن أثناء الكوارث الطبيعية وخوذات الدراجة للمراهقين لحمايتهم من أضرارحوادث السير.»، بل هي تقدم جردا للمعدات التي أدخلتها للمغرب عبر المنافذ التي تتحكم فيها الجمارك، وهي معدات تهم الاتصال والبث ومطبخا متحركا وتجهيزات لتصنيع الطحالب وغيرها..
سكان «دوار الكركور التحتاني» بآيت فاسكا يؤكدون أيضا أن نشاط أوليفر بينكوفسكي ليس طارئا أو وليد اللحظة، بل كان يداوم على الحضور بمنطقة آيت فاسكا منقبا عن بقعة أرضية بمواصفات معينة، منها أن تكون عارية من الأشجار، وأن تكون تغطية الأنترنيت فيها بقوة كبيرة.. وهو ما تأتى له باستغلال عقار بموجب عقد كراء كمقدمة لشرائه في ما بعد بمساحة قدرها ثلاثة هكتارات، هي التي أنشئ عليها المشروع.
والمثير في الأمر أن المنظمة تشير في موقعها الرسمي إلى أنها قدمت مشروعها في مؤتمر علني بمراكش سنة 2014، وعرضت فيه بالتفصيل برامجها.
غفلة سيميولوجية
اندلعت الاحتجاجات دفعة واحدة بعدما نشرت الصحافة الإسرائيلية أن إحدى المناطق القريبة من مراكش تستعد لاحتضان أكبر نصب تذكاري لضحايا الهلوكوست. لم تكن المتابعات التي تفاعلت مع هذا الخبر والمواقف التي ظهرت بسبب تفقه في الخلفية الثقافية للرموز والأشكال التي ركبت على الأرض بدوار الكركور التحتاني، بقدرما كان موقفا ولدته عبارتا الهولوكوست و الماسونية التي وردت في أغلب المواد الإعلامية التي نشرت عن الموضوع، بحمولتها الدلالية فائقة الحساسية. وهو ما يترك السؤال مفتوحا حول طبيعة ما أنجز على الأرض وخلفياته المضمرة ودلالته في شبكة الرموز ومرجعياتها.
أبناء المنطقة، وخاصة الذين اشتغلوا مع الألماني داخل الورش، تحدثوا عن أشكال غريبة، قبور بلا موتى، وعبارات منقوشة بحروف عبرية، ورموز مثيرة. يقول محمد سمالي، ناشط جمعوي وفاعل سياسي بالمنطقة « منذ مدة والحديث ينتشر بين سكان الدوار حول طبيعة الأشغال التي ينجزها الألماني، غرابتها أثارت الريبة، والكل يتساءل عن نواياه الحقيقية التي ظلت غامضة إلى أن أتى الخبر من إسرائيل عبر صحافتها، التي كشفت أن الأمر يتعلق بمشروع لإنشاء نصب تذكاري لضحايا المحرقة النازية من اليهود».
أعضاء بالمجلس الجماعي لآيت فاسكا وصفوا هذه الأشكال بالغريبة عن ثقافة المنطقة وتقاليد سكانها، دون أن يحددوا وجه غرابتها. الداخلية كان موقفها أغرب، حيث نفت صحة ما راج في مواقع التواصل الاجتماعي، وشددت على أن مصالحها لم تسلم أي ترخيص لإقامة أي نوع من هذه المنشآت التي تحدثت عنها هذه المواقع، لتدفع بجرافاتها لهدم ما نفت وجوده أصلا. وتترك السؤال مطروحا: هل قرار الهدم كان بسبب عدم الحصول على رخصة، أم بسبب موقف من طبيعة الرموز التي تضمنها المشروع وخلفياتها الثقافية؟
هذا الارتباك كشف أن المغرب يعاني من غفلة سيميولوجية. هكذا علق أحد المختصين، الذي أضاف « لولا استعمال كلمة هولوكوست لظلت الأمور عادية، ولاستمر المشروع إلى نهايته. لأن لا أحد تحرك إلى الآن بسبب فطنته إلى طبيعة الرموز التي تشكلت منها هذه المنشأة.. والجميع تعامل تحت ضغط كلمتي ماسونية وهلوكوست.. و لولا التفسير الذي قدمه صاحب المشروع نفسه لمكونات هذه المنشأة من رمزية قوس قزح والبرج والقبور لما تنبه أحد.. « .
هذه الغفلة ترتفع إلى درجة أمية سيميولوجية، كما يشير المتحدث. لأن الكثير من البنايات التي شيدت بموجب تصاميم مرخصة تزخر بأشكال معمارية تمتح من بنية رمزية ذات دلالة في ثقافات أخرى وبمرجعيات دينية وطائفية مختلفة عن تلك السائدة بالمغرب، ومع ذلك لا أحد ينتبه لها، وفي مقدمتهم أولئك الذين يكون من اختصاصهم التأشير على التصاميم. ومراكش نموذج للغزو الرمزي بسبب الإقبال المتزايد للأجانب على الإقامة بها. ويمكن التأكد من ذلك بمناطق بعينها كالنخيل وطريق تحناوت أو تمصلوحت أو تسلطانت وغيرها..
التوضيح الوحيد صدر عن صاحب المشروع نفسه الذي قال « إضافة إلى مزرعة الطحالب، ومخبز الخبز المعلب والخياطة للمهام الإنسانية، قمنا ببناء نسخة من الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، ونصب تذكاري للأقليات تليها جميع الأديان ونسخة طبق الأصل من برج orthanc من lordoftherings. و أنجزنا جميع هذه الأنشطة بطريقة شفافة وعلى الهواء مباشرة بين 2018 شتنبر و 2019 غشت. وهناك منطقة ترمز لمراكز الاعتقال.» أما بخصوص قوس قزح فيوضح الموقع الرسمي للمنظمة على النحو التالي « في وسط النصب التذكاري للهولوكوست بمراكش، يذكرنا قوس قزح المقام بالأحجار بالرجال المثليين في معسكرات الاعتقال الذين ماتوا هناك. هناك، وصموا بالزاوية الوردية على ملابسهم، وكان لديهم فرصة ضئيلة للبقاء على قيد الحياة».
سلطة بأعين مغمضة
هل كانت السلطة تجهل ما يقوم به أوليفر بينكوفسكي ومنظمته بآيت فاسكا؟ كيف حدث أن رد فعلها تأخر كل هذه الفترة الطويلة، إلى أن صار حديثا رائجا في منصات التواصل الاجتماعي والصحافة؟ هل الصحافة الإسرائيلية أعلم بما يجري بأرض المغرب من السلطة التي تحكمه؟ أم أن المشروع استفاد من تغطية سمحت بإغماض أعين السلطة وتجاهل ما يجري في هذه المزرعة؟ ماذا عن المجلس الجماعي ومسؤولياته؟ كل هذه الأسئلة طفت إلى السطح مع إثارة مشروع النصب التذكاري للهلوكوست، وأشارت إلى النقطة الأكثر إحراجا فيه. السكان بدورهم يستغربون كيف للسلطة التي تتعقب الصغيرة والكبيرة على الأرض، وتتدخل في وقائع أبسط وأصغر، كفتح نافذة أو باب، أو تشييد غرفة إضافية، أن تفلت تطور الأشغال الضخمة ببقعة تناهز مساحتها ثلاث هكتارات؟ كيف أن البرج الكبير الذي يظهر من مسافة بعيدة، لم يثر انتباهها بغرابته؟
ما يؤكده عدد من العارفين بالمنطقة، أن أعوان السلطة زاروا الموقع عدة مرات، وبلغوا به، وأن محاضر حررت بالفعل لكن مفعولها ظل معطلا لسبب غير مفهوم. صاحب المشروع نفسه يرمي بالكرة في ملعب المسؤولين حينما أكد في رده عبر تدوينة له عقب تهديم أجزاء من المنشأة « الخطأ لا يقع على منظمة بيكسل هيلبر، وإنما يعود لخلل في التواصل لدى السلطات المغربية. فقبل أن نشرع في برنامجنا بالمغرب في سنة 2014، أبلغ أوليفر بينكوفسكي شخصيا السفير المغربي ببرلين بكل المشاريع المرتقبة للمنظمة بالمغرب».
أكثر من ذلك تشير المنظمة إلى أنها كانت تبلغ السلطات المغربية بشكل منتظم بأنشطتها ومشاريعها، لكنها لم تتلق أية إجابة من قبلهم. وأنها بعثت برسائل عبر البريد الإلكتروني لسفراء المملكة في عدد من العواصم، ولعدد من البرلمانيين، كما أنها كانت تبلغ بشكل منتظم أحد موظفي سفارة المغرب بالسويد، بمعلومات حول المشروع. بل إن السلطات المغربية حسب ما تزعمه المنظمة، كانت تتابع يوميا ما تنجزه على الأرض من خلال البث الحي المنقول عبر ال livestream. وبخصوص المجلس الجماعي تقول المنظمة « لم نشرع في نصب المجسمات التي أنجزناها، إلا بعدما لاحظنا تجاهل رئيس المجلس الجماعي لنا، انتظرنا سنة بكاملها، وبعد أن تأكدنا من انعدام أي تواصل من قبله، شرعنا في إنجاز مشروعنا ..».
ستظل آيت فاسكا على خلفية هذا المشروع علامة استفهام كبيرة ونصب بائن لتعجب أكبر، ليس بسبب طبيعة المشاريع التي تنفذ من قبل بعض الأجانب، ودرجة تفهمنا لها، لكن أساسا بسبب الالتباسات والمفارقات التي تغلف الواقع والسلطة والإنسان، والتي تجعل انتظار المزيد من المفاجآت إمكانية واردة في أي مكان وأي زمن. إنها ثروة الغموض الحقيقية، تلك التي تجعل الواقع رديف المفاجأة والصدمة.