ما من شك أن للفجر تأثيرا عميقا على الكائنات الحية، العاقل منها وغيرالعاقل، غيرأن « الكائنات الحبرية « تكون أشد انتباها لهالة ولوقع البدايات، فتجعل من لحظتها تلك، حيرة أبدية و انسيابا جوانيا معتقا بعبق الحنين و ملامح الغوايات .
وخلف كل نافذة، ثمة سهر وأرق وحكايا، ثمة انزواء وألوان ومراس، ثمة تغاريد رقصات وأذواق واحتفاءات، ثمة اختيارات مهج وأطياف فكر، ثمة جروح ورغبات…
و إن كان البوح سبيلا للتفريج، فإن الحقائق/ الحقيقة لا تجد لها منافذ إلا عبر انسلالات هلامية أو مسارب شتى.
مناسبة القول هنا، هي الديوان الجديد للشاعرة سعاد الطاوسي، والذي اختارت له عنوانا « مريبا « وقابلا للقراءات المتعددة « المقعد الخلفي للجنة «، وقد صدر عن مطابع أفريقيا الشرق، صيف 2019 ،في إحدى و سبعين صفحة من الحجم المتوسط، بإخراج أنيق.
وقبل الغوص في عوالمه، ثمة إشارات أرى أن فرد لها وقفة؛ لأنها بشكل أو بآخر تلقي بظلالها على العمل ككل :
يعج الديوان بنصوص موازية أو عتبات متعددة و مختلفة:
الإهداء- ديباجتان تصديريتان للأضمومة – قراءة نوعية للديوان الشعري من طرف الكاتب الصحافي عبد الرحيم ناصف معنونة ب: عتبات -إطلالة بقلم صاحبة الديوان، يمكن اعتبارها تقديما ممهدا للنصوص.
لكل نص شعري مدخل أو تدبيج، بما يعنيه تواجد 28 قصيدة، تقابلها 28 مقولة أو بيتا شعريا أو رأيا ،يغيب عن الديوان فهرس للنصوص، أو أي تبويب !
أما عن العنوان، المقعد الخلفي للجنة، فيبدو أن الأمر بمثابة اختيار إرادي دال على « مقاومة « نوعية – سابقة على الحاصل. هذا الحاصل هو استسلام إرادوي وغير مرغوب فيه بنفس الوقت. فالجنة في مخيالنا الجمعي ، مكان هنا/هناك/هنالك، يقتضي بحثا مضنيا عن أمر مفتقد الآن … وهنا، لكنه مأمول فيه ومراد صعب المنال !! و الجنة أيضا بستان وواد خصيب وكرم، نعيم وسكن سعاد ة …
هنا،
يتبادر احتمالان، إما أن يختار المرء منا دوره في كل ذلك ومن كل ذلك، بأن يكون ثانويا و متفرجا،غير فاعل بشكل مباشر، وإما أن يلعب دور المراقب، المتتبع، المدرك لكل بواطن المجريات إن لم يكن هو محركها، خلف الستار، بعيدا عن الأضواء. وسيتضح من خلال مضامين النصوص أن الشاعرة
اختارت مقعدا في جنة ثالثة غير ما أوردنا في السابق، فلكل « جنته « في النهاية ! !
وتجد هذه « المتاهة « / الملاحظة صداها في النص الموازي المرفق بظهر غلاف الديوان ، حيث ذيل بصورة شخصية للشاعرة سعاد الطاوسي، تقول فيه :
« – قال بنبرة ساخر ة :
هل للجنة باب خلفي أيضا ؟
أرد بنبرة أكثر جدية
إذا كان ثمة باب خلفي للجنة
فوحدهم يتامى الحب
يملكون حق الدخول منه. «
الإشارة الأولى هنا هي أن هذا النص هو لوحده قصيدة؛) ويمكن لها أن تحمل رقم 29 ( مادام أنه غير مجتزأ أو مقتطف من أي نص مبثوث داخليا، والإشارة الثانية هي أنه تأشير مباشر على عنوان الديوان ككل .
وهذا ما يحيلنا من جهته على صورة الغلاف الأمامية، إذ ينتصب فيه مقعد خشبي، أمامه تراءت بشكل مضبب وغير جلي بعض أعشاب نباتات. ينتابنا منذ البدء تشخيص للجنة أو شخصنة لها، باعتبارها ذاك الفردوس كما يصوره المعتقد الديني من حيث عناصره الموصوفة التي يتم الترويج لها.
كما أن استقراء بعض عناصر اللوحة شكلا لونا وفراغات وقيمة، يمضي في اتجاه خلق تعقيد ضمني للمتلقي ) الضبابية وعدم الوضوح ( مع تباين جلي في اللون ) الظلال وتفاعلها القوي بين الأبيض والأسود ( ثم زوايا الفراغ التي تكثفت أسفل اللوحة مما شكل فراغا سلبيا، وهذا يجعلنا نشعر بعدم الأمان
ربما بتوتر مستهدف ولا طمأنينة مقصودة. لكل ذلك فقيمة الصورة المرافقة للديوان، تتأتى من كونها عكست بشكل من الأشكال عنوانه وحاولت أن تقترب أكثر من فحواه الظاهر على الأقل، مع الجزم بأن كل قراءة أو محاولة فهم للصورة لا تعني بالضرورة دحض الآراء الأخرى .
تبقى التساؤلات التالية مشروعة إذن: كيف يمكن النظر إلى هذه العتبات في علاقتها بالديوان ؟ أكانت بمثابة التوطئة ؟ أم هي مداخل و إضاءات لفهم المستغلق من النصوص ؟
في الحقيقة، ثمة أكثر من عنصر واحد يؤثث فضاء الديوان، وبتصفح لنصوصه الشعرية، يظهر جليا ما يلي :
– حضور « الذات « بشكل لافت، و استعمال الزمن المضارع بصيغة المتكلم/ة ، لذلك دلالة عميقة في الارتباط بالواقع والحكي وتداعي الذكريات. وقد يتم الانتقال بين حوارية ذاتية ) نص : اعترافات ص
23 وحوا رية ثنائية ) النص الموازي في ظهر الغلاف ( .
– و في ارتباط بالملاحظة السابقة تظهر تيمة/موضوعة الديوان الغالبة: الحزن، بكل حقولها، الألم، الشوق، الليل، الأحلام … تتعالق معها رومانسية مغرقة يسودها بوح داخلي .
– ثم يأتي الوصف المباشر للدواخل وللحظات السكون الجوانية التي تتفاعل ما بين احتراق داخلي واحتفاظ بالأمل رغم ذلك .
– و يحضر بشكل قوي فعل « الجلوس « في عدد من النصوص، مثلا ) جلست أرشف قهوة ص 37
جلست أتطلع… ص ( 43) جلست أدخن… ص ( 18) جلست أقاوم السهر…ص ( 11) جلست أنصت للمذياع.. ص (65 …. و من معاني الجلوس – كمصدر لفعل جلس – نذكر: القعود و التربع، وأيضا، الارتقا ء و التتويج ( مثل جلوس العرش) و أيضا الارتياد ( الجلوس في المقهى ). أما عن حالات الجلوس المذكورة في النمادج أعلاه، فيتبين أنها مرتبطة مباشرة بفعل آخر، حيث الجلوس: لرشف القهوة، للتدخين، للتأمل، للانصات، للتطلع، لمقاومة السهر…. ( انظر الصفحات أرقام 28 – 43 30- – 16 – 49 ) وهذا دليل على أن فعل القعود، إنما هو جسر لتحقيق أمر آخر، وليس غاية في حد ذاته . وهذا يرتبط مباشرة بعنوان الديوان، قد سبقت معالجة ذلك.
– و من مقومات النص الشعري في الديوان، نجد السرد، إذ يتم الحكي لوقائع معينة عبر لغة سلسة، رائقة للمتلقي ) نمودج نص: ملامح زمن الهذيان ص 37 ( حيث يعتري ذلك اعتراف بالوهن رغم القوة الخارقة والمقاومة الظاهرة :
حاولت جمع أشلائي
بيد أن الجسد بأرض الخيبة استوى
ظمئت من هوله
هرعت إلى ينابيع الأمل
وجدت اليأس منه ارتوى. (ص 47 – 48)
كما يظهر أيضا التيه الداخلي ( نص لا تسألني عني ص 51 ) الذي يحيل بدوره على القلق الوجودي، حيث البحث عن قيمة الفرد في ظل حالة الاكتئاب وربما الاحساس بالفشل وعدم القدرة على المواجهة،وقد تكون بمثابة إعلان للهزيمة ! !
– ضمن محطات الديوان أيضا نعثر على ثنائية الأدوار المتبادلة، إذ المحبة قادرة على صنع المستحيلات وسط الأوجاع الراكدة و المقيمة .
غير أن تصفح نصوص الديوان، جعلنا نقف على مجموعة هفوات لغوية ونحوية وإملائية، شابته أو ألقت بعض الظلال على معانيها انظر الصفحات أرقام: (16 – 59 -34 -27 ).
ويبدو أن الشاعرة – من منظورها – دفعت إليها قصد إضفاء جرس موسيقي، إلا أنه رغم ذلك خلق فراغا معنويا على أي حال .
استطاعت سعاد الطاوسي أن تؤطر نصوصها بوعي و إدراك. فإن كانت تعبر عن مشاعر سوداوية في العموم، فإن صدقها فيها ترك بصمته، حيث الابتعاد عن التكلف والصنعة مع استدعاء الروح العميقة التي سمحت بحرية البوح و الإيقاع والحكي .
تشظي الذات في ديوان «المقعد الخلفي للجنة» لسعاد الطاوسي
الكاتب : جواد المومني
بتاريخ : 12/09/2019