الرسائل الغرامية بين ألبير كامو وماريا كازارس

*من ألبير كامو إلى ماريا : الخميس5 غشت 1948
الرسالة رقم (22)

شكرا،عزيزتي .لقد توصلتُ البارحة بمَبْسَمِ السيجارة الرائع (1).ولأن مصدر الهدية أنتِ، فقد كنت متحفزا جدا.ولازلتُ كذلك خلال كل مرة أستعمله.أيضا، كنتُ في حيرة من أمري. وددتُ منكِ شيئا صغيرا جدا بلا أهمية.وأنتِ اخترتِ تقديمها على الطريقة الاسبانية ! آه كم أعشق قلبكِ.
أتمنى أن تصلني رسالة منكِ خلال أقرب وقت.أفتقد أخباركِ.هل تتواجدين حاليا في أور (إقليم فرنسي)، مثلما أتمنى، وهل أنتِ سعيدة .بالأمس رافقتُ روني شار إلى أفينيون كي يسافر بالقطار صوب باريس(2).بينما أنا، على الأقل، أواصل عملي.أكتب، إنه الشيء الوحيد الذي يبقيني متصلا بكِ حسيا .لقد أعدت ترتيب هيكل مسرحية ‘’جحيم قادس’’(3) وأنا بصدد إضافة مشهد آخر!لكني لست متيقنا بأني على صواب، وربما أنهي كل شيء، ثم أترك النص حسب صيغته الأولى.على أية حال،سأحسم هذه المسألة يوم 10 غشت .بعد ذلك، سأنتقل إلى نص مسرحي آخر(4).آه !لقد قررتُ العودة يوم 10شتنبر بدل تاريخ 15.
أتمنى التوصل بعنوان إقامتك مضبوطا في منطقة أور(5). آنيا، وتوخيا لمزيد من الحذر، سأكتب لكِ حيث أنتِ ثم أقتفي من بعيد محطات انتقال الرسالة.لكن هذا يهدر الزمان. اكتبي إلي، أخبريني بكل ماتفعليه عزيزتي ناتاشا وجل مايحدث عندكِ.
هي رسالة سريعة لأن ساعي البريد، ينتظرني خلف الباب.لكني أضمِّنها ذخيرة من مشاعر الامتنان والابتهاج والحنان والصراخ والعواطف والاشتياق، ثم كل العشق الذي بوسعكِ تحمّله.
إلى اللقاء عزيزتي أقبِّلكِ، أحضنكِ، أعانقكِ.

هوامش :
فمُ-السِّيجارة.
2-التقى ألبيركامو روني شار سنة 1946،بمناسبة إصدار غاليمار لكتاب «أوراق للاسترخاء»ضمن سلسلة «أمل» التي يشرف عليها ألبير كامو. هكذا ترسخت صداقة بين الكاتبين اللذين يشتركان في ارتباطهما بإقليمي فوكلوزولوبرون.
3-شكَّل «جحيم قادس»،عنوانا مؤقتا لمسرحية حالة الطوارئ.
4- مسرحية : العادلون.
5-أقامت ماريا كازارس وأبيها في فندق بودي، المتواجد بمنطقة جيفرني منذ31 يوليو1948.بعد أيام التحق بهما جيرار فيليب. خلال هذه الفترة كتبت ماريا مذكراتها، التي استحضر جانب منها مشاعرها نحو ألبير كامو،ثم أعاد نشرها جافيي فيغيرو وماري هيلين كاربونيلفي:مارياكازارس،الأجنبية (فايار،2005 ).

رسالة من ماريا كازارس إلى ألبير كامو الجمعة 6غشت 1948 (ليلا)
الرسالة (23)

أخيرا، تحقق الأمر!آه عزيزي، اقتضى ذلك بداية، اختبار سعادتي بلا رنين، ثم تنامت وأخيرا صارت هائلة حينما توصلتُ منكَ برسالتين دفعة واحدة،حتى أتمكن من قياس حالة الاكتئاب، والفراغ والجزع تقريبا الذي عانيته طيلة اليومين الأخيرين.
نعم حبيبي، ودون تأخر، لم أتردد مسرعة كي أكتب إليكَ ما إن صادفتُ أمامي لحظة سكينة. ربما تخاذلتُ،عن القيام بذلك،وليسامحني ‘’الله››،إن أسأتُ لحظتها، مادمتُ قد تألمتُ كثيرا بسبب صمتكَ، حالة حجبت عني إمكانية تصورأنكَ حزين مثلي،ومدى تحمّلكَ؛ وأعلمُ تمام العلم أنّه مرهق، ومتعب جدا عندما تحاول باستمرار’’ تخيُّل قلب’’.
مع ذلك، لا أمتثل كليا إلى تلبية مطالبكَ، لاسيما حينما تنتفي فعلا حاجتكَ لذلك. أكتبُ إليكَ،عندما يحضرني الشوق ،حينئذ تصلكَ مني، رسالة يوميا، على الأقل، ويصعب مع ذلك الرهان أكثر، مادمتُ أدرك بأني لا أكون وحيدة، تخلصتُ من جميع الالتزامات، سوى ليلا، منزوية خلف باب غرفتي.إذا لم يتحقق السعي وفق المبتغى المأمول، أحلِّق نحوكَ بين طيات جلّ ماأراه،وأحسه،ثم لن أكفّ عن الكتابة إليكَ، إن استطعتُ استثمار وقتي حسب حضور الرغبة.
لذلك، يلزمني الإمساك بنفسي؛ هذا ما أتخيله، بالتالي أخبرني عن رأيكَ. مثلما فعلتُ منذ ذهابكَ، أخطُّ لكَ يوميا رسالة، رسالتين، عشر صفحات أو مجرد كلمة، بيد أني أحتفظ بذلك جانبا.ثم عندما تلحُّ عليكَ رغبة قراءتها، ابعث لي بإشارة وأمدك فورا بكل مافي جعبتي.أتود ذلك؟
لاتصف الأمر خاصة بكونه سخافة.لأن الوجود برمته حماقة، إذا اتفقت مع تصوري،لكن بما أن الوضع على هذه الشاكلة ويصعب علينا تغيير أي شيء، فلنحاول معا تدبير أمورنا بكيفية أمثل،حتى لانجازف بتبديد الحصيلة ونحن نطالب من الحياة أكثر مما ينبغي…عبث؟.
هيّا  !لاحظ جيدا التقدم الذي حققته(خمسون ساعة بدل سبعين)ولنأخذ هذا مثالا!
لكن أعود للحديث عن رسائلكَ.
كبيرة هي السعادة التي منحتني إياها بالوجود من خلال وجودكَ فقط (سواء قريبا أم بعيدا)،رغم ذلك يلزمني الاعتراف، كونها سعادة فضفاضة ومجردة شيئا ما، والتجريد لم يشبع قط امرأة، أوعلى الأقل أنا.ماذا أريد؟ أحتاج إلى جسدكَ الطويل، وذراعيكَ الطريتين، ووجهكَ الوسيم، ونظرتكَ المتوقدة التي تخلخل كياني،وصوتكَ، وابتسامتكَ، وأنفكَ، ويديكَ، أحتاج كل شيء . أيضا،تستحضر كلمات رسالتكَ،على نحو ما،حضوركَ الفعلي، وأنغمس معها في عذوبة لا أستطيع التعبير عنها،لاسيما وأنكَ وضعت جدولا سريعا يرصد يومياتكَ، المكان الذي تتواجد فيه وكذا حالتكَ الجسدية والمعنوية.لايمكنكَ تصور ماذا كان بوسعي تقديمه طيلة الأيام الأخيرة حتى أتمثَّلكَ وأتخيَّلكَ ولو قليلا، من الصباح لغاية الليل، أو خلال ساعة محددة في اليوم.
لذلك إذا تشابهت – ستقول مجرد هذيان – حقا مشاعركَ نحوي ثم أثناء غيابي – وأعتقد ذلك- مع التي أحسها، فإني أشعر بعجزي عن البقاء بعيدة عنكَ، صامتة، خلال هذه الفترة التي لازالت تفصل بيننا، في إطار جهل تام بكل مايتعلق بي.
هاهو الجزء الأول من المراسلات الذي ينبغي وضعه بين يديكَ في ما بعد.أعتقد بأنها ستكون مضيئة لكَ بوضوح ودقيقة حول ظروف الحياة التي أعيشها.لستُ على يقين تام من ذلك، بحيث لم أتجرأ على إعادة قراءتها، كي لاأكتشفها ساذجة جدا، ثم غير مفيدة وليست واضحة كفاية، وأتردد في إرسالها إليكَ.مع أني لاأعترف لنفسي بحق التراجع عن مايفترض، كونه قد صار حاليا بين يديكَ. إجمالا، يجري برنامج حياتي الناسكة وفق المنوال التالي :
-النظام اليومي: ماء / تدخين عشر سيجارات في اليوم / الاستيقاظ : في الثامنة صباحا/ النوم : منتصف الليل.
-اهتمامات مرتبة حسب قيمتها:
-العناية بأبي على امتداد اليوم(1)
-قراءات حاذقة لرواية الحرب والسلم(نص مذهل!)/وكذلك رواية’’الثريا» (أرثر دو غوبينو) (مثيرة للإعجاب)(ضمن النطاق المقبول)/ثم رواية «الشياطين»(رطانة فريدة،عبقرية ربما لكنها لم تأسرني) (2).
-الاهتمام بكاتسوس (3)صباحا ومساء.
-جولات بالدراجة الهوائية العاشرة صباحا ثم السادسة مساء.
-الأكل.
-النوم.
مع ذلك، أقدمت اليوم على استثناء. دخنتُ اثني عشرة سيجارة من الظهيرة إلى الثامنة مساء،بقيتُ في بريسانيلورغايو(شمال فرنسا)(4)،صحبة ميشيل وجانين غاليمار.هناك عثرتُ على رسالتيكَ ضمن رسائل أخرى داخل صندوق احتفظ به أنجليز(5)وتسلمته من جانين، القابعين هنا منذ الأربعاء.هكذا،بدا لي اليوم رائعا ؛لكن في ما يتعلق بمشاعري نحوهما، لم أحبهما كثيرا.
لقد استحضرنا سيرتكَ باستفاضة، كما تحدثنا عن مَبْسَمِ السيجارة الشهير حيث كلفني بخصوصه ميشيل كي أقول لكَ : ‘’مغفَّل’’؟(لاأتذكراللفظ تحديدا) إلخ،إلخ.ثم بعد جولة رفقة كلود و سيمون، جلسنا للعب››الدومينو-الكلمات المتقاطعة››، مما أحدث وجعا هائلا لرأس جانين وصداعا شديدا، نفس الأمر بالنسبة إلي.
أبي ليس على مايرام.تقارب حرارته كل مساء 38 درجة ثم ترتفع أكثر بحيث يلزمه ذلك،البقاء ملتصقا بالفراش.مع أن الوضع يزعجه،يتوخى بشكل عجيب، الاحتفاظ بمزاج هادئ، قدر مايستطيع.أنا أيضا، أحاول إظهار تماسكي، لكن حينما أختلي بذاتي،أستسلم للقلق ويختل توازني شيئا ما.لذلك،سأمتنع أيضا عن إعادة قراءة الصفحات التي أبعثُها لك.بالتأكيد، ستكشف عن ضعفي وأرفض مقابل أي شيء في الوجود أن تكون قلقا. أتخيلني بجواركَ، وأنتَ بصدد قراءة هذه السطور،فلم أغفل أي معلومة حتى التفاصيل الصغيرة التي تفسر بعض الوقائع جزئيا معتمدة دائما على حضوري كي أساعدكَ على تمثلها.
اقرأْ إذن دون توقف، في انتظار إضافات أخرى «شفوية’’،ثم تسلى بتصحيح الأخطاء الاملائية والنحوية.
أحبُّكَ.
طيب، عزيزي، سأتوقف هنا. لقد تأخر الوقت، ثم ستكون حمولة ظرف الرسالة ثقيلة جدا.
لاأستطيع قول إلى اللقاء.لأن هذا يحيل على معاني الانفصال وأنا لاأريد حدوث هذا أبدا.
أنا هنا،قريبة منكَ، خلال كل لحظة، متوجهة نحوكَ، أصلِّي لـ»الإله» من أجل عشقنا، وأرغب في حبِّنا أكثر من أي حقيقة أخرى. لا أطلب منكَ غير مسألة واحدة، أن تتطلع إلي مثلما أتطلع إليكَ وأن لاينتهي الأمر أبدا.
أحبُّكَ وأحبُّكَ بكل قواي.
ماريا.
عندما أتخيّلكَ داكن البشرة، أشعر بالرجفة.
هنا المناخ سيئ؛مازالت بِشرتي تأخذ لون مزيج حليب بالقهوة،بل يطغى بالأحرى لون الحليب. وتسريحة شعري على شكل العقيصة ‘’شينيون’’أو ضفيرة إلى الوراء، كما تفعل الصينيات.في حين لاأهتم بزينتي سوى قليلا.
وخاصة غير موجودة أبدا.
أنتظر أن أوجد.
لست إلا وعدا.

-هوامش :
1-سانتياغو كازاريسكويروغا (8ماي 1884-17فبراير 1950).مارس مهنة المحاماة، وانخرط بفعالية كبيرة من أجل قادس، ضمن الحركة السياسية التي قادت إلى إعلان الجمهورية الاسبانية شهر أبريل 1931 .أصبح رئيسا للحكومة الاسبانية بين 13ماي الى 18 يوليو 1936،بعد أن شغل مناصب وزارية عدة.مرض بداء السل،وبعد ثلاث سنوات من المنفى بإنجلترا،استقر نهائيا في مدينة باريس شهر يونيو 1945،وتحديدا داخل نفس منزل إقامة ابنته وزوجته، بمعية صديقهما /العاشق إنريك لوبيز تولينتينو.هذا الأخير،متضايقا شيئا ما،غادر المنزل شهر فبراير 1948،بطلب من ماريا.
2–الحرب والسلم (تولستوي)(1865)،ثم ‹›الثريا›› (آرثر دو غوبينو) (1874) والشياطين دوستويفسكي (1872)،وقد اقتبسها ألبير كامو إلى المسرح سنة 1959،تحت عنوان الممسوسين.
3–يقصد هنا كلب تعتني به ماريا.
4-اعتُبِر كلود وسيمون غاليمار ضمن الممتلكات العائلية لغاليمار في بريساني–أورغيو،على ضفة نهر السين.
5-اشتغلت أنجيليزأرينالو دو جيمينيز (وتنعت ب أنجيل)وزوجها خوان رامون جيمينيز،كخادمين في بيت ماريا؛رشحهما للوظيفة إنريك،وقد بقيا رهن إشارتها بعد وفاة غلوريا،ثم استقرا شهر 1948في منزل بشارع فوجيراد.

*مصدر الرسائل:ألبير كامو/ماريا كازارس-مراسلات(1944-1959)؛ غاليمار2017 ؛ص :  44-48


الكاتب : سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 13/09/2019