النموذج التنموي: أسئلة للتفكير

مطيع توفيق

بعدما أكد جلالة الملك بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية‮ ‬2017‮-‬2018‮ ‬على‮ “…‬أن النموذج التنموي‮ ‬الوطني‮ ‬أصبح اليوم،‮ ‬غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة،‮ ‬والحاجيات المتزايدة للمواطنين،‮ ‬وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية،‮ ‬وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية‮…”.‬
دعا في‮ ‬نفس الوقت‮”…‬الحكومة والبرلمان،‮ ‬ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية،‮ ‬كل في‮ ‬مجال اختصاصه،‮ ‬لإعادة النظر في‮ ‬نموذجنا التنموي‮ ‬لمواكبة التطورات التي‮ ‬تعرفها البلاد‮…”.‬
إلا أنه بعد مرور أزيد من‮ ‬10‮ ‬أشهر على الخطاب الملكي،‮ ‬تبين أن هذه المؤسسات والهيئات‮ ‬غير قادرة على وضع نموذج تنموي‮ ‬متوافق حوله‮. ‬مما جعل جلالة الملك‮ ‬يتخذ المبادرة للإعلان عن تشكيل لجنة مكلفة بوضع هذا النموذج‮.‬
ولتطوير النقاش العمومي‮ ‬في‮ ‬هذا المجال،‮ ‬لابد من الانطلاق من مقاربة مفهوم‮ “‬النموذج التنموي‮”‬،‮ ‬حيث‮ ‬يتطلب الأمر الإشارة إلى أنه لا‮ ‬يتعلق بطبيعة المشروع المجتمعي‮ ‬المؤسس على القيم المرجعية الكبرى والغايات المحددة لمستقبل المجموعة الوطنية،‮ ‬والمندرجة في‮ ‬أفق زمني‮ ‬طويل،‮ ‬كما لا‮ ‬يتعلق بمستوى السياسات العمومية والتوجهات القطاعية المندرجة ضمن زمن الولاية الانتخابية،‮ ‬بقدرما‮ ‬يفرض تموقعا بين الزمنين‮: ‬المجتمعي‮ ‬الممتد والحكومي‮ ‬العابر‮.‬ و‮ ‬يعتبر إطارا عاما منظما بشكل جيد من خلال أهداف استراتيجية لتوجيه التدخلات العمومية للدولة،‮ ‬بأبعادها المختلفة‮ (‬السياسية،‮ ‬المؤسساتية،‮ ‬الاقتصادية،‮ ‬الاجتماعية،‮ ‬الثقافية،‮ ‬البيئية‮ …)‬،‮ ‬ويستهدف خدمة كافة الفئات الاجتماعية،‮ ‬وجميع المجالات الترابية،‮ ‬وقادر على وضع أرضية مناسبة لاحتضان مختلف المشاريع السياسية المتنافسة،‮ ‬دون الإخلال بالأسس العامة لتنزيل هذا النموذج،‮ ‬باعتباره مفهوما شاملا للتطور ويلامس كل المجالات‮.‬
فمن جهة،‮ ‬يشكل النموذج التنموي‮ ‬في‮ ‬فلسفة صنعه قاطرة لقيادة أهداف مختلف التدخلات العمومية‮ (‬السياسة العامة،‮ ‬السياسات العمومية،‮ ‬السياسات القطاعية،‮ ‬البرامج والمشاريع‮…)‬،‮ ‬في‮ ‬إطار رؤية منسجمة ومتسقة،‮ ‬ومن المطلوب أن‮ ‬يتوفر له الحد الأدنى من التجاوب المجتمعي‮.‬ومن جهة أخرى،‮ ‬يرتكز في‮ ‬تنفيذه على بنية مؤسساتية قائمة الذات وفاعلة ومسؤولة عن نجاعة تنفيذ برامجها،‮ ‬وخاضعة للتتبع والمراقبة بشكل منتظم،‮ ‬ومتشبعة بثقافة التقييم والمحاسبة‮.‬
غير أنه لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتم إرساء النموذج التنموي‮ ‬كبنية جامدة للفعل،‮ ‬كما تم التعامل في‮ ‬السابق مع مجموعة من التوجهات الاستراتيجية،‮ ‬بل من الأفضل أن تكون عملية إرسائه مرنة ليستوعب وجهات النظر المتعددة،‮ ‬وأن‮ ‬يقدم الأجوبة الضرورية لكافة المشاكل والحاجيات المجتمعية،‮ ‬وأن‮ ‬يضل منفتحا على التطورات والتغيرات التي‮ ‬يمكن أن تحدث بشكل مفاجئ في‮ ‬المستقبل‮.‬
من هذا المنطلق فالنموذج التنموي‮ ‬المنشود لمغرب اليوم والمستقبل،‮ ‬من المفروض أن تكون له صلة بحاجيات المجتمع،‮ ‬وأن‮ ‬يتم إشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين في‮ ‬عملية صنعه وتنفيذه،‮ ‬وربطه بآليات قادرة على تقييم نتائجه بشكل مستمر ومنتظم،‮ ‬وهو ما سيوفر له قاعدة داعمة من المناصرين والمدافعين،‮ ‬مما سيعالج إشكاليات شرعية التدخلات العمومية في‮ ‬نظر المجتمع،‮ ‬التي‮ ‬كانت موضوع انتقاد المخططات والبرامج السابقة،‮ ‬إذا سلمنا أن هذه الأخيرة كانت تصب في‮ ‬خدمة نموذج تنموي‮ ‬معين‮.‬
بالإضافة إلى ذلك،‮ ‬فمن المطلوب جعل مؤسسات الدولة في‮ ‬خدمة المواطن،‮ ‬إذ عوض بقائها رهينة عقلية ماضوية،‮ ‬تختزل الحفاظ على هيبة الدولة في‮ ‬عدم تنازلها بالاستجابة لمطالب المجتمع المتزايدة،‮ ‬وقمع الحركات الاحتجاجية التي‮ ‬بدأت تتسع رقعتها المجالية،‮ ‬يجب عليها أن تتشبع بالأفكار الحديثة التي‮ ‬تجعل هيبة الدولة الحقيقية تنبني‮ ‬على جعل المواطن شريكا لها في‮ ‬رسم وتنفيذ وتقييم تدخلاتها،‮ ‬وجعل حاجياته ومشاكله مصدرا أساسيا لأهدافها،‮ ‬حيث أن شرعية الفعل العمومي‮ ‬لم تعد تقاس باتخاذها وفق آليات وقواعد قانونية،‮ ‬بل أصبحت تقاس بفعاليتها وكفاءتها في‮ ‬تحقيق الأهداف المرجوة،‮ ‬وجعل المستهدفين منها راضين عن أدائها‮.‬
وبناء عليه،‮ ‬يمكن الوقوف عند بعض أسباب قصور النموذج التنموي،‮ ‬والتي‮ ‬أعتقد أنها،‮ ‬لا تعود إلى نقص في‮ ‬الإمكانيات المادية،‮ ‬وإنما إلى إشكالات تتعلق بالحسم في‮ ‬الخيارات المتبعة في‮ ‬التدبير،‮ ‬واعتبار معركة التنمية في‮ ‬جوهرها معركة الديمقراطية،‮ ‬وإلى عملية رسم السياسات التي‮ ‬يغلب عليها الطابع القطاعي‮ ‬عوض الطابع العمومي،‮ ‬مما‮ ‬ينتج عن ذلك من تشتيت لجهود الدولة ونفقاتها دون تحقيق إقلاع ملموس في‮ ‬أي‮ ‬مجال معين،‮ ‬وأعتبر أن الاستمرار في‮ ‬هذا التوجه سيؤدي‮ ‬إلى الزيادة في‮ ‬تفكك المجتمع واندثار كل ما بقي‮ ‬من مظاهر التضامن الاجتماعي،كما أن ترسبات مشاكل الماضي‮ ‬مازالت عالقة على مستوى آليات التنزيل،‮ ‬حيث لم تسمح بإعادة رسم حدود التداخل بشكل واضح ولا مجال فيه إلى الخلط بين الوظيفة السياسية والوظيفة التكنوقراطية،‮ ‬وجعلهما‮ ‬يتماشيان بشكل متوازي‮ ‬من أجل إضفاء روح المنافسة والفعالية في‮ ‬أداء الفعل العمومي‮.‬
وفي‮ ‬هذا المقال سيتم تقديم بعض مداخل توفير فرص النجاح لأي‮ ‬نموذج تنموي‮ ‬ممكن،‮ ‬وذلك من خلال العناصر التالية‮:‬
أولا‮: ‬الحسم في‮ ‬الخيارات والقطع مع التردد

إن المتتبع للحقل العمومي‮ ‬المغربي‮ ‬يلمس مفارقة‮ ‬غريبة،‮ ‬فمنذ الاستقلال إلى اليوم تبدو له الأمور كأنها محسومة،‮ ‬لكن في‮ ‬واقع الأمر لا شيء‮ ‬ينجز،‮ ‬وهذا راجع لعدم الحسم في‮ ‬الخيار الديمقراطي،‮ ‬فمسيرة البناء الديمقراطي،‮ ‬تتطلب توفير الإرادة والشجاعة السياسية للمؤسسات في‮ ‬اتخاذ المبادرات وعدم الارتكان للانتظارية التي‮ ‬تقتل حيوية الفعل العمومي،‮ ‬وتعمق هوة انعدام الثقة المجتمعية فيه،‮ ‬وعدم انتظار الوقوع في‮ ‬الأزمات لإنتاج فعل‮ ‬يعتبر كرد فعل عن الأزمة،‮ ‬وليس إنتاج فعل مؤسس بشكل واضح ومبني‮ ‬على التخطيط الاستراتيجي‮ ‬المبني‮ ‬على دراسات ومعطيات موثوقة،‮ ‬وجعل أهدافه متسقة ومنسجمة مع أهداف النموذج التنموي‮.‬
فلا أحد‮ ‬يمكن أن‮ ‬يجادل حول التراكمات المنجزة على مستوى تطور البناء المؤسساتي،‮ ‬لكن زمنية هذا البناء إذا ما قورنت بفعالية أداء هذه المؤسسات على مستوى الواقع،‮ ‬فإنها تكشف عن وجود فجوة عميقة بينها وبين أداء وظائفها،‮ ‬والتي‮ ‬تنعكس في‮ ‬الواقع على مستوى علاقتها بتقديم الخدمات للمواطنين وتأطيرهم‮.‬
فمثلا؛ إذا تأملنا في‮ ‬التعددية الحزبية وتنوع الهيئات الاجتماعية والثقافية،‮ ‬فإننا نجدها لا تعكس تعدد التوجهات السياسية والاجتماعية والثقافية على مستوى المجتمع،‮ ‬مما‮ ‬يتولد عن ذلك ضعف في‮ ‬التعبير عن مطالبه وحاجياته ومن ثم تأطيره‮.‬
والسؤال على هذا المستوى‮ ‬يطرح على شكل مفارقة،‮ ‬هل التعدد الذي‮ ‬نعيشه‮ ‬يعبر عن تعدد مشاريع مجتمعية قائمة الذات،‮ ‬تتصارع وتتكامل في‮ ‬ما بينها من أجل تطوير المشروع المجتمعي‮ ‬الذي‮ ‬يحتضن الجميع،‮ ‬ويفتح أفقا للمستقبل،‮ ‬أم أنها مجرد تعددية صورية تتحرك على نفس الإيقاع؟
أما على مستوى البناء المؤسساتي‮ ‬الموضوع لترجمة خيارات النموذج التنموي،‮ ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬قد ظل المغرب لعقود رهينة التردد وعدم الحسم بين المركزية واللامركزية في‮ ‬التدبير‮.‬
بالإضافة إلى ذلك،‮ ‬فتشكيل مجموعة من المؤسسات الدستورية وهيئات الحكامة بأهداف وأدوار‮ ‬غير واضحة ودقيقة،‮ ‬وعدم توفير الإمكانيات والآليات الضرورية‮  ‬لها،‮ ‬من أجل جعلها مبادرة في‮ ‬توضيح حاجيات ومشاكل المجتمع،‮ ‬واقتراح خيارات الإجابة عنها على المستوى التقني،‮ ‬وتمكينها من أدوات تقديم الاستشارات والآراء التقنية للفاعلين العموميين،‮ ‬فإننا نجدها‮ ‬غير قادرة حتى على تقديم بعض المهام المطلوبة منها،‮ ‬وتكتفي‮ ‬بالتعليق على الأزمات،‮ ‬الشيء الذي‮ ‬جعل‮ ‬غالبيتها تظهر على أنها وضعت من أجل تصريف تخمة النخب السياسية والتكنوقراطية،‮ ‬أو على شكل حارس لبعض مجالات الفعل الخصوصي،‮ ‬بعدما أصبح من الصعب حراستها بالأساليب القديمة‮.‬

ثانيا‮: ‬توضيح حدود التداخل بين السياسي‮ ‬والتكنوقراطي

‬مما لا شك فيه،‮ ‬أن السياسي‮ ‬له مجموعة من الوظائف،‮ ‬والتي‮ ‬تتمثل بالأساس في‮ ‬تأطير المواطنين وتعبئتهم وقيادتهم،‮ ‬وتقديم الأجوبة السياسية الضرورية على حاجياتهم ومطالبهم في‮ ‬إطار مشروع مجتمعي‮ ‬غايته خدمة المصلحة العامة‮. ‬أما وظيفة التكنوقراطي‮ ‬فتتمثل في‮ ‬الجانب التقني‮ ‬المرتبط بانجاز الدراسات حول الخيارات الممكنة للتدخلات العمومية وتنفيذها وتقييمها‮.‬
وبالرجوع إلى واقعنا المغربي،‮ ‬نجد خلطا بين أدوار السياسي‮ ‬وأدوار التكنوقراطي،‮ ‬فهناك انتقال للتكنوقراطي‮ ‬من حقله التقني‮ ‬في‮ ‬التدخلات العمومية إلى الحقل السياسي‮ ‬المتعلق بإعطاء الفعل العمومي‮ ‬مدلوله السياسي،‮ ‬والتعبير عن مطالب المواطنين وتأطيرهم،‮ ‬والعكس صحيح‮.‬
–  ‬ونسجل في‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬ولوج مجموعة من التكنوقراط إلى قيادة بعض الأحزاب السياسية والوظائف السياسية داخل المؤسسات،‮ ‬التي‮ ‬من المفروض فيها التواصل مع المواطنين وتعبئتهم والإجابة على مشاكلهم،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فكيف‮ ‬يمكن لها أن تقوم بهذه الأدوار وهي‮ ‬خاضعة لقيادة تكنوقراطية،‮ ‬مهمتها من المفروض أن ترتكز على تراكم المعارف التقنية لتطوير وتحسين أداء التدخلات العمومية،‮ ‬الشيء الذي‮ ‬جعل هذه الأحزاب والوظائف السياسية في‮ ‬المؤسسات تفقد دورها ومهامها المجتمعية‮.‬
‬وما‮ ‬يقال على التكنوقراط،‮ ‬يقال عن السياسي،‮ ‬حيث‮ ‬يلاحظ ولوج السياسي‮ ‬إلى مجموعة من المؤسسات الدستورية وهيئات الحكامة ذات الوظائف التقنية،‮ ‬الشيء الذي‮ ‬جعلها تظهر كامتداد لتوجهات سياسية معينة،‮ ‬وعوض الحفاظ على استقلاليتها في‮ ‬تقديم دراسات حول خيارات التدخلات العمومية وتقييمها،‮ ‬أصبحت تميل إلى تسييس نتائج عملها،‮ ‬الشيء الذي‮ ‬سيسرع لا محالة من عملية فقدان مصداقيتها‮.‬
‬و نجد أيضا،‮ ‬انتشار نطاق ظاهرة تعيين مجموعة من القياديين السياسيين كمدراء لمؤسسات عمومية ولمديريات وزارية،‮ ‬دون مراعاة الشروط المعرفية والتقنية المطلوب توافرها من أجل تنفيذ التدخلات العمومية للدولة،‮ ‬ودون مراعاة الضوابط القانونية والأخلاقية في‮ ‬تأدية مهامها في‮ ‬بعض الأحيان،‮ ‬مما جعل هذه المؤسسات والمديريات تعمل على تكريس منطق المحسوبية في‮ ‬تقديم خدماتها،‮ ‬عوض جعل المواطنين سواسية في‮ ‬الولوج إليها‮.  ‬
‬هذا الخلط على مستوى الأدوار والوظائف أدى إلى إضعاف الوظائف السياسية والوظائف الإدارية التقنية في‮ ‬نفس الوقت،‮ ‬مما نتج عن ذلك ضعف في‮ ‬تأطير المجتمع وبروز حركات احتجاجية‮ ‬غير مؤطرة تنظيميا من جهة،‮ ‬ومن جهة أخرى تعميق ضعف رسم خيارات وأهداف التدخلات العمومية وتنفيذها وتقييمها،‮ ‬مما ترتب عنه فشل أغلب المخططات والبرامج في‮ ‬تحقيق أهدافها بالشكل المطلوب‮.‬
‬وإذا سلمنا بأن الأحزاب السياسية والهيئات الاجتماعية والمجتمع المدني‮ ‬أصبحوا‮ ‬غير قادرين على استيعاب تطلعات المواطنين وتأطيرهم،‮ ‬وخصوصا فئة الشباب،‮ ‬فهل‮ ‬يحق لنا أمام ذلك،‮ ‬الحسم بأن هذا الضعف‮ ‬يمكن التغلب عليه بانخراط المؤسسة العسكرية في‮ ‬التأطير والتكوين‮.  ‬

ثالثا‮: ‬التقييم والمحاسبة

‬بناء على ما سبق،‮ ‬سواء فيما‮ ‬يتعلق بالحسم في‮ ‬الخيار الديمقراطي،‮ ‬والبناء المؤسساتي‮ ‬الذي‮ ‬يتطلبه هذا الخيار،‮ ‬أو تعلق الأمر بضعف رؤية رسم السياسات وتنفيذها وتقييمها،‮ ‬أو بالخلط في‮ ‬وظائف السياسي‮ ‬والتكنوقراطي،‮ ‬فإنها تشكل عامة أسباب كبح وعدم القدرة على مراقبة وتقييم التدخلات العمومية،‮ ‬وربط المسؤولية بالمحاسبة‮.‬
‬فالتقييم من جهة‮ ‬يرتبط بالوظيفة السياسية،‮ ‬وذلك من خلال إنارة القرار العمومي،‮ ‬وتفسير نتائجه،‮ ‬وتنظيم نقاش عمومي‮ ‬حول الخيارات السياسية المقدمة أثناء العملية الانتخابية،‮ ‬التي‮ ‬من المفروض أن تتأسس بناء على برامج سياسية واضحة للتعاقد،‮ ‬يترتب عنها محاسبة سياسية،‮ ‬ومن جهة أخرى،‮ ‬له وظيفة تقنية حيث‮ ‬يساهم في‮ ‬عقلنة الإنفاق العمومي،‮ ‬وتحديث آليات تنفيذ التدخلات العمومية،‮ ‬ومراقبة وتدقيق أدائها،‮ ‬ومحاسبة المسؤولين عن تبديد المال العام‮.‬
‬وبالتالي،‮ ‬فمسألة تأطير المواطنين والجواب عن مشاكلهم،‮ ‬والفعالية في‮ ‬التدبير العمومي،‮ ‬لا ترتبط بالضرورة بوجود أو‮ ‬غياب الوطنيين الصادقين في‮ ‬مراكز القرار،‮ ‬أو سطو الوصوليين عليها،‮ ‬بقدر ما‮ ‬يجب أن ترتبط بآليات واضحة للفعل وتقييم الفعل وترتيب المساءلة،‮ ‬والتغلب على الخلل الذي‮ ‬يترتب عن الخلط بين الوظائف والأدوار،‮ ‬وعدم وضوح مهام وآليات المراقبة والتدقيق والتقييم وتفعيل مبدأ المحاسبة‮.‬
‬وأعتقد أن هذا هو أصل أزمة النموذج التنموي،‮ ‬وصياغة أي‮ ‬نموذج تنموي‮ ‬جديد والشروع في‮ ‬تنفيذه دون فتح نقاش عميق حول مختلف هذه المستويات وآليات العمل وتقويمها،‮ ‬يعد فقط تكرارا لحلقة فشل جديدة،‮ ‬دون توفير الشروط الموضوعية للخروج منها،‮ ‬وفتح آفاق لنجاح المشروع التنموي‮ ‬المأمول‮.‬
‬وكما قلنا في‮ ‬السابق،‮ ‬فالقصور لا‮ ‬يعود لأزمة في‮ ‬الإمكانيات والموارد،‮ ‬فهناك دول أفقر منا قطعت أشواطا مهمة في‮ ‬التنمية،‮ ‬لكنه راجع بالأساس إلى عقلية في‮ ‬التدبير‮ ‬يجب أن تتغير،‮ ‬وإلى ضعف في‮ ‬رؤية رسم السياسات والحرص على تناسق وانسجام أهدافها وتحديد بدقة المستفيدين منها،‮ ‬وإلى الخلل المتراكم على مستوى آليات التنفيذ على أهميتها،‮ ‬وترتيب حدود التداخل بين السياسي‮ ‬والتكنوقراطي،‮ ‬وإسناد الوظائف لأصحاب الاختصاص،‮ ‬مع الحرص على تفاعل المقاربات السياسية والتقنية في‮ ‬صنع وتنفيذ التدخلات العمومية،‮ ‬وتوفير الشروط الموضوعية للتقييم،‮ ‬وتفعيل آليات المساءلة بشكل آلي‮ ‬كجزء لا‮ ‬يتجزأ من مسلسل صنع وتنفيذ وتقييم التدخلات العمومية،‮ ‬وعدم الاقتصار على توظيفها كشكل من أشكال إطفاء الحرائق،‮ ‬حتى لا‮ ‬يظل أي‮ ‬مجال للتهرب من المسؤوليات‮. ‬

عضو المجلس الوطني للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

الكاتب : مطيع توفيق - بتاريخ : 16/10/2019