يُطِلِّ علينا المخرج تود فيليبس في فيلمه الأخير بوجه جديد لم نألفه للجوكر، فذلك الرجل الغامض الذي ينبثق من اللا مكان بوجهه المشوّه وضحكته السيكوباتية ورغبته التي لا يُعادلها شيء في نشر الفوضى والدمار كان ولا بد شخصا عاديا في يوم من الأيام، وكما روى لباتمان مرارا، دفعه «يوم واحد سيئ» للجريمة والجنون. في فيلم «الجوكر»، يمتد ذلك اليوم الواحد ليصير حياة بأكملها، في واحد من تغييرات كثيرة أجراها فيليبس على القصة المألوفة لملك الفوضى المتوّج. على عكس زملائه على الجانب الآخر من المعسكر، لا يمتلك الجوكر أصولا واضحة. لا نعرف بالضبط ما السر وراء الندوب التي تُغطّي وجهه، ولا مَن كان قبل أن يرتدي سترة المهرج وينطلق مروّعا سكان المدينة.
ترك فراغ الخلفية هذا مساحة واسعة وحرية كبيرة أمام المؤلفين عبر الوسائط المختلفة، بين القصص المصورة والسينما، لإعادة اختراع الجوكر وماضيه. تبقى الخطوط العريضة للشخصية ثابتة بالشكل الكافي الذي يحول دون تفككها عند انتقالها بين مؤلف وآخر في حقب زمنية مختلفة، لكن التفاصيل يُعاد صياغتها من جديد في كل مرة، ما جعل هذا شخصية الجوكر أقرب شيء لنغمة لها صدى فريد يترك الحرية أمام مَن يعزفها للارتجال، ويصوغ كل زمن فيها إيقاعه الخاص.
يحاول المؤلف جرانت موريسون في رواية «مصحة أرخام العقلية» (Arkham Asylum) التي كتبها أواخر الثمانينيات أن يخلق تفسيرا نفسيا من داخل الحدث لتعدد واختلاف خلفيات الجوكر، فيكتب على لسان الطبيبة النفسية المسؤولة عن حالته في حوارها مع باتمان: «ربما نقف الآن بصدد نوع خارق من الذكاء، نوع جديد من الإدراك الإنساني الفائق أكثر ملاءمة للعيش في مدينة نهايات القرن العشرين. فعلى عكسي وعكسك، لا يبدو أن الجوكر يمتلك أي نوع من التحكم في المعلومات التي يلتقطها من العالم الخارجي، ومن ثم لا يستطيع التأقلم مع فوضى حواسه سوى عبر السير في اتجاه التيار. ولهذا، يجد نفسه بعض الأيام مهرجا عابثا، وأياما أخرى قاتلا سيكوباتيا. فالجوكر بلا شخصية محددة، يُعيد اختراع ذاته في كل يوم ويرى نفسه ملكا للتمرد والعالم مسرح العبث الخاص به».[1]
في تلك السيولة الشديدة للهوية، يصير الجوكر في تمثّلاته العديدة انعكاسا صريحا ونتاجا واضحا للزمن والمجتمع الذي يسكنهما. إلى هذا المعنى ذهب الناقد دان بروكس في تحليله للنسخ السينمائية من الجوكر، جوكر عام 1989 الذي أداه جاك نيكلسون، وجوكر عام 2008 الذي لعب دوره هيث ليدجر: «كل جوكر يُجسِّد عنصر الفوضى الذي يخشاه جمهوره. منذ ثلاثين عاما، في عصر الخوف من توحش إجرام المراهقين والقُصَّر، قاد جاك نيكلسون أتباعه من سكان المدينة إلى متحف جوثام الفني وأمرهم برش الطلاء ورسم الجرافيتي على كلاسيكيات فنية. وفي آخر عام من حكم جورج بوش، كان جوكر هيث ليدجر إرهابيا دفع باتمان لتشييد دولة قائمة على مراقبة مواطنيها».[2] في هذا العام، يُطِلُّ علينا جوكر آخر مختلف كثيرا عن كل من سبقوه، لكنه يظل مثلهم جميعا في نقطة واحدة على الأقل: إنه انعكاس لزمانه ومجتمعه ومدينته.
آرثر فليك: من الحلم بالأضواء إلى اللجوء للجريمة
منذ المشاهد الافتتاحية لفيلم «الجوكر» وحتى نهايته، نرى مدينة جوثام في أكثر تجلياتها كابوسية. تلك المدينة الشهيرة في عالم قصص دي سي المصوّرة حيث يكافح باتمان الجريمة لا تجد مَن يُخلِّصها الآن. ففي زمن القصة هنا لا يزال باتمان طفلا مدللا اسمه «بروس واين» يعيش في قصر واسع مع أبويه، بينما تغرق المدينة في ظلال الفقر والقبح عزلاء أمام أشباح الفوضى.
جوثام المخرج تود فيليبس التي لا يقطع سماءها شارة الوطواط ولا تمتلك فريقا من أبطال وأشرار خارقين هي أقرب شيء لواقعنا، وذلك التماثل الكبير بينها وبين الكثير من مُدُننا اليوم يجعلها أكثر بعثا على الرعب من جوثام المليئة بالخوارق في قصص مؤلفين آخرين. جوثام هنا هي إعادة انبعاث لنيويورك السبعينيات التي هام في شوارعها ترافيس بيكل في تحفة مارتن سكورسيزي: «سائق التاكسي» (Taxi Driver)، تلك التي تزدحم أزقتها «بالحثالة والعاهرات والكلاب، بالقذارة والخراء».
بطل القصة هذه المرة ليس سائقا يطوف الليل وحيدا في صندوق معدني يفصله عمّا حوله ويعطيه رفاهية التأمل من بعيد، بطل القصة يقف في أول مشهد مزروعا على جانب الطريق في قلب الحثالة والقذارة بين الجرذان. إنه آرثر فليك، آرثر الذي يبتعد في أول مشهد عن تجهّم ترافيس بيكل وتغطي وجهه ابتسامة عريضة؛ وكيف لا؟ فآرثر مهرج يحلم بأن يصير «كوميديان». وآرثر ليس أول نسخة من الجوكر يكون لها الحلم ذاته.
يُشاركه ذلك الحلم الجوكر الذي جاء على صفحات قصة «المزحة القاتلة» (Killing Joke) المصوّرة لآلان مور -واحدة من أهم قصص نشأة الجوكر وأبعدها تأثيرا في صناع السينما-، لكن بينما جاءت مهنة الجوكر القديمة كمهرج وهوايته لتأدية الفقرات الكوميدية في قصص نشأة الجوكر عادة لتضع تأسيسا لما نراه في شخصية الجوكر المجرم من نزعة سخرية مدمرة، تؤدي هذه المهنة وتلك الهواية وظائف أخرى في فيلم فيليبس.
لا يمتلك آرثر أي حس دعابة حقيقي، ونكاته لا تُضْحِك أحدا، كما من الواضح أن إصابته بمرض «التأثير البصلي الكاذب» (Pseudobulbar affect) الذي يجعله ينفجر في نوبات ضحك هيستيرية دون أي مقدمات سيجعل من المستحيل عليه الوقوف و الأداء على خشبة المسرح. لكن يبدو آرثر معميا تماما عن رؤية هذا، بل يرى نفسه موهوبا في حاجة فقط إلى أن يجد الفرصة؛ وعندما يحدث هذا، سيصير نجما لامعا تصطف أمامه الجماهير ويظهر على شاشات التلفاز جنبا إلى جنب مع مذيعه الفكاهي المفضل موراي فرانكلين، في ذلك الخط نجد تأثرا واضحا بفيلم سكورسيزي «ملك الكوميديا» (The King of Comedy).
آرثر في كل هذا هو صنيعة ثقافة مهووسة بالشهرة والأضواء، وترى فيمن يحظى بهما مَثَلا أعلى. آرثر موهوم تماما، لكن الحفاظ على هذا الوهم له أهمية وجودية بالنسبة إليه حتى يُبقي على الحد الأدنى من المعنى والهدف في حياة كل ما فيها بائس. ومن ثم يتشبّث بوهمه ذاك، باحثا فيه عن الخلاص من إحساسه بالدونية وانعدام الأهمية. يحلم أنه سيجد يوما ما فرصته ويأتي دوره للوقوف تحت رقعة الضوء حيث سيصير صوته مسموعا، الحلم الذي يتبدد لاحقا ولا يجد آرثر عندها من بديل أفضل من استعارة صوت طلقات الرصاص الذي لن يستطيع أحد أن يصم أذنيه أمامه.
في تتابع من التتابعات القليلة التي يغمرها ضوء ساطع في الفيلم، نرى آرثر يتخيل نفسه يتشارك خشبة المسرح مع مَثَله الأعلى موراي فرانكلين. إنها واحدة من المرات القليلة التي نرى فيها آرثر على مدار الفيلم سعيدا بحق؛ وسط هتاف الجماهير وأصوات تصفيقها، ينحني فرانكلين ويهمس لآرثر: «كنت لأفعل أي شيء في حياتي لأحظى بابن مثلك»، ما يدلنا على عُقدة أخرى تتحكم في شخصية فليك: البحث عن الأب الغائب.
لا يعرف آرثر مَن أبوه، عاش حياته بأكملها مع أمه لا يعرف الرجل الذي أنجبه، حتى كنيته مأخوذة عن كنيتها، بيني فليك. في المشهد السابق، يتجلى ذلك الفراغ العميق الذي تركه غياب الأب في روح آرثر؛ فراغ يحاول ملئه وتعويضه بشخصيات يرى فيها مَثَلا أعلى له على غرار موراي فرانكلين. لكن في منتصف الفيلم تقريبا، يكتشف آرثر، أو يظن أنه يكتشف، مَن أبوه الحقيقي.
الجوكر: بطل جديد للمدينة
منذ بداية الفيلم نلحظ ترديا عاما يضرب في كل مؤسسات الدولة، ينعكس أكثر ما ينعكس فوق مبانيها ومنشآتها. كل شيء غارق في الفوضى والقمامة، الجدران متصدعة والإضاءة مهتزة معظم الوقت. الشرطة تظهر ضعيفة، الجموع الغاضبة قادرة على افتراس أفرادها، والأمان الاجتماعي لسكان جوثام غير موجود، الفقراء يعيشون في أبنية وضيعة ويعملون في مهن وضيعة وعندما يمرضون لا يجدون رعاية صحية لائقة.
يعيش آرثر هذا الواقع ويعرف ألّا خلاص حقيقي منه، أما والدته، بيني، فلها رأي آخر. تجلس بيني العجوز أمام شاشة التلفاز معظم ساعات اليوم، وتتهلل أساريرها عندما يظهر الملياردير ورجل الأعمال توماس واين. تُصِرُّ بيني أن توماس «لو عرف الحالة المزرية التي نعيش فيها فسينقذنا». فتوماس فوق امتلاكه وإدارته لثروة هائلة، قد رشّح نفسه أيضا ليصير عمدة مدينة جوثام. تكتب بيني رسائل طويلة تستنجد به، لكنها، كما هو متوقع، لا تجد أي رد أبدا. تذهب للنوم في إحدى الليالي وتوصي ابنها أن يضع رسالتها لواين في صندوق البريد. يشعر آرثر بفضول شديد حيال الرسالة ويفض المظروف ليقرأها، وهنا تكمن المفاجأة: توماس واين هو أبوه الحقيقي. وأي محب لأفلام الأبطال الخارقين سيعرف مَن ابن توماس واين الثاني.
في تنويعة فيليبس على قصة الجوكر هنا التي يجعله فيها ابنا غير شرعي لتوماس واين وأخا غير شقيق لبروس واين، يضع فيليبس تفسيره الخاص لأسباب الكراهية الشديدة التي يُكِّنُها الجوكر لباتمان؛ لكن فوق هذا، يبرز عبر ذلك الخط ثيمة مهمة من ثيمات الفيلم ومحرك أساسي لأحداثه: الفجوة الطبقية.
حالة مجتمع مدينة جوثام كحال الأخوين -مع افتراض أن رواية بيني صحيحة- آرثر وبروس؛ أحدهما يعيش حياة وضيعة بعيدا عن أب لا يعترف أصلا بوجوده، والآخر يعيش مدللا في قصر فاره له بوابات منيعة تحول دون اقتراب آرثر وأمثاله. المسؤول عن تلك الفجوة هنا، في حالة آرثر وبروس كحالة خاصة وحالة سكان مدينة جوثام بشكل عام، هو توماس واين، وكثيرون على شاكلته. فتوماس هو مثال لرأسمالية العصر الحديث وسياساتها النيوليبرالية، حيث تجتمع السلطة المطلقة ورؤوس الأموال غير المحدودة في يدي شخص واحد -أو حفنة قليلة من الأشخاص- ما يعطي المتحكم فيهما إمكانيات وصلاحيات غير محدودة، يتضاءل بجانبها أي دور حقيقي وفعّال للدولة، بحيث يصير ذلك الشخص هو الواضع الحقيقي للقوانين غير المكتوبة لكيف ستُدار الأمور على أرض الواقع، قوانين تهدف فقط لخدمة مصالحه الشخصية وليذهب الآخرون للجحيم.
نحن لا نرى كل تلك التفاصيل عن توماس من خلال الأحداث، لكننا نرى ما يكفي تماما لنستنتجها؛ نرى ذلك في تهالك مؤسسات الدولة من جهة، والنفوذ المتزايد لتوماس من جهة أخرى، فرجل الأعمال يودّ أن يصير عمدة، ليجمع بشكل رسمي بين المال والسلطة. وفي مجتمع يتحكم قمة هرمه الاجتماعي في كل شيء، ليس من المستغرب أن نرى طبقاته الأقل حظا تعيش حياة ليست كالحياة بينما أثرياؤه يتمتعون برفاهية منقطعة النظير.
في مجتمع كهذا، يوجد مئات الآلاف من آرثر فليك، عاجزين عن إيجاد وظيفة لائقة، مُذلّين ومهانين بشكل مستمر، لا يُكِنُّ لهم كل مَن هو فوقهم أي نوع من أنواع الاحترام. ففليك يتعرض للضرب في أول المشاهد من مجموعة من المراهقين الموسرين، ويتكرر الأمر مرة أخرى في المترو لكن هذه المرة على يد شباب يعمل لدى توماس واين، ويجعل منه المذيع الثري والناجح فرانكلين موراي مادة للسخرية في برنامجه ويستدعيه فوق هذا للظهور معه إمعانا في تلك السخرية.
يشعر آرثر أنه ليس سوى ممسحة أقدام لكل مَن هم فوقه، ويجعل موقفه أكثر سوءا نوبات الضحك المرضية التي تنتابه فتجعل الآخرين يتجنّبونه على أفضل الأحوال، ويكيلون إليه اللكمات والركلات في أسوأها. آرثر الضعيف ذو البنية الهزيلة عاجز تماما عن الدفاع عن نفسه؛ لكن عندما يُعِيره أحد زملاء العمل مسدسا، يتغير كل شيء.
في تلك السياقات، يصير لجوء آرثر لعنف مضاد للعنف الذي تعرّض له طوال حياته مفهوما تماما. فككل تجليات الجوكر الأخرى، آرثر انعكاس وصنيعة لمجتمعه: مجتمع يعيش حالة من الطبقية الفجة تجعله ليس في حاجة إلى «شرير» من خارج عالمه ليتهدده؛ إنه ينطوي بداخله على كل عناصر الانفجار. فلو لم يطلق آرثر الرصاص في تلك الليلة على الشباب الثلاثة، لكان شخص آخر في يوم آخر وفي سياق مشابه سيفعل الشيء نفسه، ويجد التعاطف نفسه منه.
في تعاطف سكّان جوثام المهمشين مع آرثر، نجد انعكاسا لاستبدال ثنائية «الغني/الفقير» في عالم الفيلم -وعلى نحو متزايد في عالمنا أيضا- بثنائية «الشرير/الخيّر» التقليدية. وفي تلك الثنائية لا أحد يكترث حقا لمفهومَيْ الخير والشر؛ قتل آرثر للشباب الثلاثة في المترو هو فعل شرير بشكل لا جدال فيه، لكنّ أحدا حقا لا يكترث لهذا، كل مجموعة تتعاطف مع أعضائها. الفقراء والمهمشون يشجعون فعل آرثر لأنه واحد منهم، والأثرياء بآلتهم الإعلامية وسلطتهم الرسمية يشجبونه لأنه أضرّ بثلاثة من فتيتهم.
وهنا، ينعكس النمط المعتاد: بروس واين لن يكون بطلا للجموع بعد الآن، ففي ثنائية الغني/الفقير، يقف بروس بشكل واضح بسبب انتمائه الطبقي في جانب الأقلية الثرية. الجماهير المسحوقة المهتاجة في الشوارع تبحث عمّن يُخلِّصها، خلاص يريدونه عنيفا ودمويا لاجتذاذ النظام الظالم لهم من جذوره. وفي نشوة العنف والدماء، ينبثق آرثر فليك/الجوكر، المسحوق مثلهم وأول من أطلق رصاصة الموت على «الأعداء»، رسول لخلاص لن يأتي سوى فوق أطلال المدينة الظالمة.
باتمان والجوكر: التاريخ الطبقي لصراع فارس الظلام وملك الفوضى
إن كان تود فيليبس أول مَن سلّط الضوء بتلك القوة على الفارق الطبقي بين باتمان والجوكر ودوره في الصراع بينهما، فإنه ليس أول مَن لوّح بذلك الفارق. سبقه إلى ذلك آلان مور في قصة «المزحة القاتلة» التي رسم فيها شذرات من ماضي الجوكر ووضع سياقات وأسباب لتحوّله من مواطن مسالم إلى قاتل سيكوباتي.
في تلك القصة، نرى الجوكر لأول مرة قبل التحوّل: رجل متزوج، امرأته حبلى على وشك أن تضع، يعيش في منزل ضيق في حي حقير، لا يجد فرصة عمل أغلب الوقت، وحتى عندما يفعل يكون ذلك في مهنٍ متواضعة لا تُوفِّر له ما يكفي لدفع الإيجار. يأتي لزوجته في القصة في نهاية يوم آخر لم ينجح فيه في إيجاد فرصة عمل ككوميديان، يرثي لحالها كونها متزوجة من «فاشل مثله»، ولحالهما معا في سكنهما لبيت «رائحته فضلات قطط، وعجائز»، ويبث لها رغبته في «جني ما يكفي من المال لإيجاد منزل آخر في حي أفضل» قبل أن يأتي ابنهما للوجود بعد ثلاثة أشهر.
ولأن كل الطرق سُدَّت في وجهه، يتجه للجريمة. أولى جرائمه بريئة تماما مقارنة بما سيرتكبه بعد ذلك من جرائم، لكن فشلها التراجيدي مع ما وقع من موت زوجته وجنينها في حادث عبثي هو من سيسلبه للأبد هويته وحياته السابقة، ويرسم طريقه من الآن فصاعدا كملك متوّج فوق عرش الفوضى والجريمة.
يتعاون الجوكر مع عصابة لسرقة مصنع كيميائي كان يعمل فيه سابقا، ويضع معهم خطة ساذجة تقوم بشكل رئيسي على معلومات الجوكر السابقة عن كون المصنع غير مُؤَمَّن جيدا. لكن بعد دقائق من وضع الخطة قيد التنفيذ، يلوح فارس المدينة المغوار باتمان من بعيد، لتهرب العصابة خوفا منه ومعهم الجوكر. لكن، لحظ الأخير السيئ، فأثناء مطاردة باتمان له، ينزلق من أعلى السور، ويقع في حوض كبير مليء على آخره بمادة كيميائية سامة، غطت جسده بالحروق، ودفعت بعقله في طريق الجنون.
تعليقا على قصة آلان مور يقول ريتشارد هيندفيلد في مقاله «الجوكر كماركسي»: «بينما أغدق النظام الاجتماعي القائم -وبالذات في اعتماده على رأس المال من أجل توفير أساسيات الحياة- على بروس واين بالثروة والحظوة، لم يترك للجوكر سوى القحط والبؤس. وتؤدي ملاحقة باتمان للجوكر إلى تحوّل الأخير، ما يوضح لنا كيف كان بروس واين/باتمان وطبقته السبب في سخط الجوكر».[3] ينعكس ذلك المعنى على نمط الجوكر الإجرامي، فخلاف أي مجرم اعتيادي، لا يطمح الجوكر من وراء جرائمه لجني المال، ولا يمكننا في أحيان كثيرة أن نرى هدفا وراء نزعاته التدميرية من الأساس بعيدا عن كونها فوضى بغرض الفوضى. لكن في قراءة هيندفيلد لجرائم الجوكر، يجدها موجهة في الأساس ضد رموز السلطة وأصحاب الثروة. فجرائم الجوكر في وجهة نظره ليست عبثية تماما، بل تهدف لتدمير النظام القائم الظالم لكثيرين، ومن هنا، فسبب عداوته لباتمان هو دفاعه عن ذلك النظام نفسه الذي يسعى الجوكر لتفكيكه.
يكتب هيندفيلد: «لا تعود العداوة القائمة بين باتمان والجوكر فقط لكون أحدهما مجرما والآخر مكافحا للجريمة، بل يقف وراءها صراع أعمق بكثير، يُمثِّل فيه باتمان الطبقة الحاكمة في مواجهة الجوكر الذي يحاول بشكل مستمر تدمير النظام الطبقي. في هذا السياق، لن ينتهي صراع باتمان والجوكر ببساطة عبر موت أحدهما، فحتى لو قُتل باتمان أو عُرفت هويته، فستظل القوى التي يُمثِّلها في سُدّة الحكم، ولو مات الجوكر، فستظل الجموع التي يُمثِّلها موجودة. ولهذا، نجد أن هدف الجوكر الحقيقي ليس القضاء على باتمان، بل تدمير النظام الذي يحميه».[4]