في الذكرى الأربعينية لوفاة الفقيد الأخ عبد الرحمان العزوزي .. ما أغنى التجربة! ما أقسى الغياب!

 

(…) يشرفني كمناضل كنت حديث عهد بالانتماء الحزبي الرسمي في بداية تسعينات القرن الماضي وعاش إلى جانب الفقيد عبد الرحمان العزوزي لسنوات ونحن نتحمل مسؤولية تدبير الشأن المحلي بالمجلس البلدي لمدينة المحمدية، باسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد انتخابات سنة 1992 التي أفرزت أغلبية مطلقة لصالح الحزب برئاسة الفقيد، تماما كما أفرزتها لصالحه في انتخابات 1983. يشرفني أن أسهم بهذه الشهادة المتواضعة، مقتصرا فيها على عناصر تبدو لي مؤسسة في تجربة تدبير اتحادية أصيلة ومتكاملة دامت أكثر من 14 سنة متتالية بالمحمدية؛ قادها في نسختها الأولى رعيل في مقدمتهم السي محمد اشرقي شفاه الله وسي لحسن مزواري بارك الله في عمره، محمد جموخ رحمه الله (وهذان هما الأقدم في العمل الجماعي بالمدينة)، والسي إدريس الصقلي، والسي مبارك كريواني رحمه الله، وعلال بلعربي ومولاي أحمد عرباوي، ومحمد غوات، ومحمد احميمش، وآخرون.. وقادها في نسختها الثانية السي عبد الرحمان العزوزي وسي لحسن، وسي محمد غوات…، ومنتخبون جدد. وتجدر الإشارة أن الفريق المسير سنة 1992 فريق مخضرم فيه نسبة من مسيرين ومنتخبين سابقين في مقدمتهم الفقيد السي عبد الرحمان، والسي لحسن والسي محمد غوات، والسي محمد جموخ، وأغلب الفريق وجوه وطاقات جديدة من روافد اجتماعية متعددة؛ فيهم مناضلون حزبيون متمرسون مثل المشمولين برحمة الله السي أحمد فريحي رفيق الشهيد عمر بن جلون، والمقاوم الجامع السي عمر المرتقي، والمناضل المخلص الحسين الكرش، ومنهم الطبيب والأستاذ الباحث والعامل والتاجر والأستاذ والمعلم، فريق بقيادة مناضل سياسي ونقابي مرموق هو السي عبد الرحمان رحمه الله الذي كان يتحمل إلى جانب إخوانه أعباء جسيمة أخرى في قيادة مركزية نقابية مؤثرة في الساحة هي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
وفي البداية لابد من التأكيد على بعض المواقف السياسية العامة الشجاعة، التي بصمت ذاكرتنا، ونحن نتلمس طريقنا الأولى في سياسة التدبير وتدبير السياسة، من خلال أداء الفقيد، وخاصة في فترة عصيبة، تميزت بالصراع، وهيمنة أم الوزارات على الحياة العامة، مما شكل الإرهاصات الأولى لاعتقال القائد النقابي الأخ محمد نوبير الأموي، الذي كان الفقيد العزوزي أمين المال في المركزية النقابية التي يقودها.
1 ـ في سنة 1992، ومباشرة بعد الانتخابات الجماعية، وفي مهرجان بملعب البشير، بمناسبة وطنية، تناول الكلمة الرئيس الجديد للمجلس الذي كان الناس يترقبون ما ذا سيقول في خروجه الأول، فحيَّى تخليد المناسبة، وأكد على التعاون الوطيد لخدمة المدينة بين السلطة والمجلس، وفي مقابل ذلك، أشار إلى أن الحروب في العالم غالبا ما يكون سببها النزاع حول الحدود وعدم احترامها، وهي رسالة واضحة، وإعلان لمن يهمه الأمر، مُؤدَّاهما أن أي تعاون مفترض بين السلطة والمجلس يجب أن يكون قائما على احترام الاختصاصات، بعيدا عن الهيمنة والتسلط، وهذه الرسالة ستكون، بالإضافة إلى ماسبق، موجهة لنا كمنتخبين، وسيكون لها ما بعدها في كثير من الوقائع التي ستأتي لاحقا.
2 ـ هناك واقعة أخرى تبين معدن الرجل، وهي واقعة ما سميناه، في أدبياتنا الإعلامية التي نشرتها جريدة الاتحاد في وقتها حرب الرمال بالمحمدية؛ ففي صباح يوم من أيام الله أصبح شاطئ المركز بالمحمدية محتلا بآليات ضخمة قيل إنها لجرف الرمال من القاع لتمكين السفن إلى دخول الميناء بأمان، وبعد وقت قصير تبين أن الأمر يتعلق بنهب رمال المدينة دون علمها، وتعززت هذه الآليات ببنيات خفيفة لإيواء عمال وتقنيي شركة مشهورة في عين المكان ( براريك خشبية وقصديرية على رصيف الشاطئ)، كما ظهرت شاحنات ضخمة تتجول في طرقات المدينة لشحن رمال الشاطئ وتهريبها نحو الدار البيضاء في حركة دائبة، ذهابا وإيابا (بالعلالي، وعلى عينك آبن عدِّي)، مما يعني ان عملية جرف رمال قاع أماكن رُسُوِّ السفن بالميناء لتسهيل دخولها كان غطاء وهميا لعملية نهب بعشرات ملايين السنتيمات يوميا، وأكبر دليل على ذلك أن عملية الشحن كانت تتم من رمال الشاطئ السطحية، حيث يستحم المصطافون صيفا، لا من قاع البحر، وهو ما يلحق ضررا بيئيا بالغا بتوازن توزيع الرمال في شاطئ المدينة. جرى كل ذلك دون إخبار منتخبي المدينة أو مراسلتها في الموضوع لاستخلاص حقوقها في مثل هذه الحالات. إنه تحدٍّ صارخ للمؤسسة المنتخبة، واختراق أهوج لاحترام الحدود الذي سبق أن نبه إليه الأخ الرئيس، رحمه الله، وهكذا وجد مسؤولو المدينة ومنتخبوها أنفسهم في وضعية صعبة، ووُضعت مصداقيتهم على المحك. كان لا بد من تحرك فوري، وهكذا، فبعد استشارة مكتب المجلس الذي أجمع على شجب هذا العدوان المادي على حقوق المدينة وضرورة العمل على إزالة آثاره، قاد الفقيد طراكس الجماعة واتجه نحو الشاطئ لهدم كل البنيات المؤقتة، فوقع استنفار كبير لكل السلطات بالمدينة، وعلى صعيد جهة الدار البيضاء، ولم يعد الهدوء إليها إلا بسحب الشركة آلياتِها ومغادرتِها المدينة.
3 ـ والواقعة الثالثة التي لا يبتعد ملفها كثيرا عن ملف واقعة جرف الرمال كان فيها لمجلس المحمدية ولرئيسه الفقيد، موقف حازم هي ملف توزيع الأكشاك الهاتفية؛ فقد كان منتخبو مجلس المحمدية، وهم يمارسون عملهم اليومي، يتلقون الكثير من الشكايات والطلبات تهم حياة الساكنة اقتصاديا واجتماعيا، وفي مقدمتها قضية الشغل، وأمام الإمكانيات المحدودة على مستوى التشغيل، فكر المنتخبون في بدائل تخفف من وطأة العطالة، وخاصة لدى فئة الشباب، وبالاستناد إلى مضمون الطلبات، التي توصل بها المجلس تبلورت فكرة إحداث أكشاك هاتفية في أحياء المدينة، من خلال عدد معقول يحافظ على جمالية المدينة، ولا يشكل تلوثا بصريا في طرقاتها وممراتها، ومن الغريب أنه بمجرد ما تقرر إدراج النقطة في جدول أعمال إحدى دورات المجلس حتى توصل هذا الأخير بطلب من شركة بيضاوية، كانت تحتكر هذا النوع من الأكشاك بالعاصمة الاقتصادية، تطلب فيه من المجلس السماح لها بإقامة 15 كشكا هاتفيا بالمحمدية، وهو نفس العدد الذي كان مكتب المجلس قد قرره لفائدة شباب المدينة ومعطليها !!! وهو طلب، لو تحقق كان سيجهض آمال شريحة هشة من الساكنة، ويمس بمبدإ التدبير الحر للجماعة، ويجهز على اختصاصاتها، خاصة إذا علمنا أن صاحب الطلب ابن مسؤول حكومي كبير، وهو نفسه صاحب ملف جرف الرمال السابق، وهكذا فالأمر لم يعد يتعلق بنزاع حول الحدود، وإنما أصبحت له علاقة بمحاولة اكتساح كل المساحات التي تهم المؤسسة المنتخبة، تحت يافطات مُقنَّعة. ومن جديد وقف المنتخبون بقيادة رئيسهم الذي رفض توسلات مسؤول ترابي إقليمي، في شأن تلبية طلب الشركة ولو جزئيا، موقفا مشرفا سيبقى التاريخ يذكره بمداد من الفخر والاعتزاز؛ فقد تعبأت لجان المجلس المختصة، وتداولت في الملف، فجعلت الشرط الأساسي، بالإضافة إلى عدم الشغل، أن يكون المستفيد من سكان مدينة المحمدية، وهي المداولات التي صادق عليها المجلس بالإجماع، وقد قام المجلس بعد أن اتخذ المقرر بمجهود جبار لمواكبة المستفيدين، وتجنيبهم الثمن الباهض لاقتناء نموذج الكشك الموحد الذي كانت تحتكره نفس الشركة!!!
4 ـ ومن الوقائع المؤثرة التي تركت في نفوسنا الأثر البالغ، وكانت علامة بارزة على نبل الرجل وعدم قبوله الإهانة، له أو لغيره، ذلك الانسحاب المُدَوِّي من القاعة الكبرى للمجلس في لقاء حضره وزير مشهور بدون حقيبة؛ فقد التحق حضرته بمنصة القاعة في حالة غير طبيعية، وبينما كان المدعوون يلتحقون بمقاعدهم، لاحظ الوزير دخول إحدى السيدات التي كانت دائما موضع احترام وتقدير من طرف الجميع لسنوات، وطيلة مدة تمثيلها لإحدى الوزارات بالمحمدية، فسأل عنها جاره في المنصة، وقبل أن تأخذ مقعدها أشار إليها بأصبعه، فأتت أمامه وهي متهيبة مرتبكة فبدأ يسألها عن نسبها وأصلها وفصلها، وفي الأخير فاه أمام الحاضرين بجملة اعتبرها الجميع خارج السياق فساد الصمت، واعتبرها الفقيد عبد الرحمان العزوزي إهانة للسيدة وإهانة لنا كممثلين للسكان، وإهانة للجميع، فاتخذ القرار الذي أثلج صدورنا؛ انسحب من المنصة، وفي باب القاعة التفت من جديد إلى الوزير ونظر إليه نظرة غاضبة، ثم غادر المكان.
تلك بعض مواقف الفقيد السي عبد الرحمان، وهي جزء يسير من خصال أخرى نبيلة كثيرة، كنا نعيشها معه يوميا ونستوعبها ونتمثلها بعد ذلك في مواقف مشابهة، كأفراد وكفريق، ولذلك، فإن السمات العامة للفريق الذي اشتغل مع السي عبد الرحمان، والتي سبق ذكرها وجدت ربان السفينة الذي قادها إلى بر الأمان؛ فبقدر ما كان الفقيد يستند إلى هذا الفريق تدريجيا في القيام بأعباء الجماعة المحلية بقدر ما كان الفريق يطمئن إلى رئيسه الذي سعى إلى توزيع المهام وتكريس الثقة بين أعضاء مكتبه، وأدمج أعضاء الفريق في العمل، حيث لا تجد مقاطعة او مرفقا جماعيا في المدينة إلا وللمنتخبين فيه حضور، خاصة وأن القانون كان يسمح بذلك، لقد كان الفقيد يطلع على كل الرسائل التي ترد باسمه، ثم يحيلها، وبخط يده وتوقيعه على نائب من نوابه مفوض له في القطاع المعني: «تحال على فلان…»، وقد يُذَيِّل بعضها، بحسب حساسية موضوعها، بعبارة إضافية: «ومراجعتي في الموضوع»، وقد كنا نحن مجموعة من نوابه، نتندَّرُ بهذا الجهد الذي يبذله الفقيد، فنضيف إلى كلمة (تحال على..) واواً فتصبح (تَوْحَل في..)، ولذلك؛ ففي كل أسبوع يكون اجتماع المكتب لحظة تقييم وتقويم من خلال استعراض الالتزامات السابقة، وإجراء نقاش صريح وجاد ،وحادّ في بعض الأحيان، ولكنه أخوي في العمق، يضع فيه كل نائب رئيس حصيلة عمله على طاولة المداولة والنقاش، فيدعَّمُ عملُ المصيب ويُكرَّس، وينبه المُقَصِّرُ إلى جوانبَ عليه أن يتداركها، وذلك قبل البدء في طرح قضايا جديدة للنقاش.
أثر فينا السي عبد الرحمان، رحمه الله، تأثيرا واضحا بالتزامه وجديته وصرامته الممزوجة بروح مرحة، ولذلك كنا حريصين على إنجاز المهام التي توكل إلينا بمثابرة ونزاهة واستقامة فكرية، وكان اليوم الأسوأ بالنسبة إلينا أن لا نحقق شيئا ذا بال من هذه المهام، وكما ورد على لسان مسؤول ترابي كان يجاورنا: « إنهم يشتغلون كعبيد ils travaillent comme des negres»، لكننا كنا عبيدا أحرارا، نشتغل بإرادتنا، وبناء على اقتناع، ونسعى إلى بلورة المشروع الذي رسمه الرواد منذ 1983، والذين شكلوا ثقلا معنويا مشرِّفا، كان علينا أن نضيف، وبقيادة أخينا العزوزي رحمه الله، لبنات إضافية في مشروع تنمية مدينة المحمدية؛ هذا المشروع الذي كان الاتحاديون، فريقا ومسؤولين ومناضلين حزبيين، يحضِّرون معالمه الكبرى، وبعد نقاش جدي ومسؤول، وصاخب أحيانا، في مقر الحزب بدرب مراكش، وتحت إشراف الأجهزة الحزبية، انطلاقا من البرامج الانتخابية الحزبية الوطنية، وبناء على دَمْج المتطلبات المحلية. لقد رفع الاتحاد، وهو يسير المدينة، شعار: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، ولذلك اهتم بالتجهيزات الأساسية التي غيرت وجه المدينة بشهادة كل المنصفين، كما عمل على تحقيق مشاريع مهيكلة ما زالت قائمة بشموخ، وشاهدة على أصالة التجربة الاتحادية بالمحمدية وريادتها، وقد بدأ التخطيط والتنفيذ الفعلي لرسم أدوار اقتصادية وتنموية جديدة للجماعة المحلية.
أخي عبد الرحمان العزوزي، عملنا إلى جانبك في تجربة فريدة، ونعترف أننا تعلمنا منك، كما من إخوان آخرين، الكثير من أجل الخير، والدفاع عن المصالح العليا للمدينة، ورفض الانحناء لغير الحق، معك لم نَحِدْ يوما عن طريق الصواب والمسؤولية عمداً، لم نبدل ولم نغير، ونحن نقوم بمهامنا، ولم نسع يوما إلى بناء مجد ذاتي، أو جَلْبِ منفعة شخصية، أو إلحاق الضرر بعمق المهمة النبيلة التي كنا نتقلدها، وبالتالي عملنا على تشريف مدينتنا والحفاظ على الرصيد المشرق للاتحاد الاشتراكي بها. وقد بقيتْ بذرة الخير هذه توجهنا وتقودنا في عملنا، بعد ذلك، إلى اليوم، على الرغم من أن مياها كثيرة قد جرت تحت الجسر، وأن التحدي المطروح اليوم على الاتحاد بالمحمدية هو الحفاظ على الذات، وتقوية مناعتها، وتصليب عُودِها، وهو أمر ليس بالهين لعدة أسباب.
أخي عبد الرحمان، لا بد من الإشارة في الأخير إلى أن علاقتنا تعرضت لهزة قوية بمناسبة انتخابات 2007، نتيجة لاختلاف تقديرنا للأمور، وقد حرصتُ شخصيا على عرض وجهة نظري، أمام القيادات الحزبية محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا، بشكل حضاري بعيد عن المس بمكانتك الاعتبارية في قلوبنا وعقولنا، ودون اقتراف بعض السلوكيات المَشِينة والحملات المضادة. ولا شك، أخي عبد الرحمان، أنك أدركت، فيما بعد، من خلال كثير من المعطيات الواقعية، أننا كنا،معاً، ضحية محيط غير صحي. وأنا في هذا السياق لا أملك إلا أن أقول: «ولله عاقبة الأمور».
تغمدك الله برحمته الواسعة، وأمطر عليك شآبيب المغفرة والرضوان، وجعل مثواك الجنة، والعزاء والمواساة لعائلتك الصغيرة والكبيرة.


الكاتب : أحمد وهوب

  

بتاريخ : 23/10/2019