لا جدال في أن استحضار كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة» يضع المرء أمام سؤال كبير يتعلق بشروط ممارسة التفكير وإنتاج الفكر، سواء داخل (الفلسفة)، أو في إطار حقل من حقول «العلوم الانسانية»، وهو سؤال يستدعي النظر في قدرة النخب على إنتاج فكر ملائم، قادر على تشخيص الواقع، وإبراز مفارقاته، وقادر، في نفس الآن، على التفاعل مع تطور الأفكار والمفاهيم، كونيا.
كيف يمكن الحديث عن تأثير «الايديولوجيا العربية المعاصرة» في الفكر المغربي أو العربي، في الوقت الذي يصر صاحبه على أن كتابه موضوع «سوء فهم» دائم؟ هل يجوز الاطمئنان الى «حماس» – وهو حماس مشروع في ذاته – الى صدى مؤلف فكري تأسيسي في بيئة تقاوم، بل وتحرف «أصداء» الفكر العصري، حتى داخل الأوساط التي «تدعو» الى تبنيه واستنباته؟
يبدو أن كل نقاش حول تأثير كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة» من عدمه، يبدأ من هذا المعطى، الذي يبدو ولا شك مزعجا على أكثر من صعيد.
ولعله من قبيل تحصيل الحاصل القول إن العروي في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» وفي غيرها من مؤلفاته، أظهر قدرة لافتة على السؤال والتفكير وعلى تجاوز صفة الباحث في تاريخ الأفكار، ليكثف مقومات مفكر يحركه نزوع نقدي مسكون بقضية الإنجاز التاريخي للمفاهيم. لم يعمل العروي من أجل ذلك على البحث عن «وسطاء» من أجل الفكر حين خصص جهدا كبيرا لتاريخ الافكار العربية، من منطلق استيعاب فعلي للنظريات والمناهج الحديثة، وبنى إطارا مفاهيميا، لما أسماه ب» الايديولوجيا العربية»، حيث حول النصوص المدروسة الى مناسبة لإعادة بناء أسئلة الراهن المغربي والعربي، من خلال تكسير الحدود بين النص والفكر المتسائل والمجتمع، قياسا الى تحد تاريخي تمثل في الحداثة.
يرى العروي أن المشكلة المطروحة بدقة وبصدق، في الماضي القريب كما اليوم، تبدو له اكثر أهمية من الحلول المقترحة، باعتبار أن اللغة السائدة وتواطؤات النخب والمجتمع تنتج مشكلات تزداد استعصاء على الدوام، أو أنها تحصر دور الفكر في الحكم على حقيقة أو صواب المشكلة، أو اجتراح الحلول المناسبة أو غير المناسبة لحلها، أما عنده فالأمر يتعلق، على العكس من ذلك، بضرورة العودة إلى أصل المشكلات وفضح ماهو مزيف فيها وقياس اتجاه المشكلة من زاوية ما توحي به للفكر وللعمل.
والتفكير في الجديد في إنتاج العروي يتطلب قلبا عاما للنظر الى الفكر والوجود والتاريخ والدولة. يتحدد الجديد كما هو الإبداع، بما يحمله من قدرة على إنتاج الفكر والحدث. هناك جديد كلما حصل استيعاب للفكر العصري وقدرة على خلق الحدث أو حين تتموضع الذات - ومفهوم الذات يحتل موقعا حاسما في الانشغالات الفكرية للعروي، وبه يبدأ تفكيره في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» – في سياق صياغة مفاهيم. ويصبح الجديد حالة إبداعية تعبر عن موقف ذاتي يتعزز فيه «فكر الفكر»، أي التفكير في عملية القبض على التاريخ الإنساني.
وعلى الرغم من انتقاداته الكثيرة للفلاسفة المغاربة والعرب، لدرجة بدا فيها وكأنه «خصم» لهم، إذ يقول: «لقد أعطيت الانطباع، أحيانا، أنني أستبعد الفلسفة باعتبارها حفلا فكريا والحال ليس كذلك البتة»، فإن العروي يقر بالحاجة إلى الفلسفة والتاريخ في نفس الآن. ويعترف: «إني مشيت على رجلين اثنين: التاريخ والفلسفة، كما هو الشأن بالنسبة لمن جمع الفلسفة والتحليل النفسي. العلم والميتافيزيقا. وبشكل أكثر اعتيادا الفلسفة واللاهوت»، ولا يتردد في التأكيد على أنه لا يرضى «أبدا بالنتيجة الخام للبحث التاريخي. إنني أحاول، فيما بعد البحث، أن أستشف الأجوبة عن أسئلة من طبيعة فلسفية واضحة، بله من طبيعة ميتافيزيقية».
والظاهر أنه بعد صدور «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» الى اليوم، وبالرغم من الاجتهادات الرصينة التي شهدها الفكر العربي طيلة الخمسة عقود الأخيرة، لايزال هذا الفكر يتأرجح في عملية تعيين الأفكار وتسمية القضايا وتعريف المفاهيم، سواء عمل هذا الفكر على إعادة تنشيطها من داخل التراث العربي الإسلامي، أو استمد بعض مناهجها من الغير. ذلك أن مسألة التسمية أو التحديد،عامل مقرر في شأن نجاعة الفكر وصدقية عملياته وقوة استنتاجاته. وعندي أن هذا المطلب من أكبر دروس العروي، غير أن هذا الدرس تعرض، ولايزال، لسوء فهم مؤسس.
1 – الإيديولوجيا العربية المعاصرة، وسوء الفهم الكبير
من المؤكد أن كتابات العروي، بقدر ما تشخص وتعري معضلات التحديث في المجتمع المغربي والعربي، لا تكف تؤكد على ما يسعف في استنباته وإدماجه في نسيج الدولة والمجتمع والثقافة. ومنذ أن دشن مشروعه بـ»الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، مرورا بـ «الأصول الاجتماعية والفكرية للوطنية المغربية» و «المفاهيم» الى «الفلسفة والتاريخ»، وهو مسكون بشروط نهضة المغرب ومفجوع من تأخره، ومندهش من ضعف نخبه. يقول في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»: ”لقد ولدت محاولتنا من تأمل وضع خاص: وضع المغرب اليوم. وما من شخص يتمالك نفسه من إبداء الدهشة إزاء العجز السياسي والعقم الثقافي اللذين تبديهما النخبة المغربية».
نص مكتوب، بهذه القوة، في الستينات. وقد يجتهد أي واحد منا للقول إنه لايزال يمتلك راهنية مثيرة، لأن المتأمل للوضع المغربي الحالي قد تنتابه الدهشة، كذلك، مما يسود العمل السياسي من عجز، وما يسيطر على الحياة الثقافية من تسطيح.
ولا يكف الأستاذ العروي في حديثه عن النخبة والمثقفين عن التعبير عن قدر كبير من المرارة، إذ اعتبر منذ «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» «أن أمرنا لن يصلح إلا بصلاح مفكرينا» بل ولا يتردد في إعلان استيائه من ضعف الوعي التاريخي برهانات الزمن ومستلزمات التحديث والحداثة. وعبر، أكثر من مرة، عن امتعاضه من العجزعن فهم المداخل الضرورية للتحديث، واستيعاب الفكر الحديث، حتى ولو تم رفع شعارات الإصلاح أو الثورة أو التحديث أو التأهيل الخ. وقد استعمل العروي في حديث مع بعض شباب أقصى اليسار في بداية السبعينات في مجلة «أنفاس» لفظة «سوء التفاهم» لأن خطابه عن التاريخانية، وشروط التحديث لم يتم تلقيه بالشكل المطلوب من طرف مختلف أصناف النخب الثقافية والسياسية.
لماذا؟ لأنه يعتبر أنه «ضحية سوء فهم»، تولد عنه سوء تفاهم وتشوش دائم في الوعي بمقتضيات الحداثة، ويعزو العروي هذا الوضع الى مشكلة فكر، أولا، وإلى معضلة الترجمة والتعريب ثانيا. فهو لا يكف يشتكي «مما ألحقه به التراجمة» من ضرر لأن الأخطاء الغزيرة التي ارتكبت عملت على ما يسميه ب»قلب المعنى»، وتحولت الترجمة كما يقول، الى «ألغاز لا أجد سبيلا الى حلها مع أني كتبت الأصل، فكيف استطاع غيري أن يفهمها أو ظن أنه فهمها ثم أجاز لنفسه أن يناقش الأفكار التي توهمها فيها».
يبدو أننا أمام مشكلة فعلية: إلى أي حد يمكن الإقرار بتأثير «الايديولوجيا العربية المعاصرة» على الفكر، ومؤلفها مقتنع أشد الاقتناع بأن من يكتب عنها أو يتكلم في موضوعاتها لا يعمل سوى على اجترار أوهام؟ هل الامر يعود، كما يقول العروي نفسه، إلى «ميل نفساني إلى الاستخفاف بكل قواعد الكتابة المسؤولة؟».
يذهب عبد الله العروي الى اعتبار مسألة التعريب أام المسائل في ما يتعلق بموضوع كتابي هذا، أ تحديث العقل العربي»، ولذلك يتساءل، بمرارة واضحة: كم جهودا ضاعت في تفنيد نظريات نسبت إليه «أي الى الكتاب» في حين أنها تناقضه، وهو ما أنتج تأويلات مغرضة وأحكاما مجحفة»، كان من نتائجها المزيد من الالتباس والتشوش في الفهم، وإضاعة العمق النظري والسياسي الذي احتواه «الإيديولوجيا العربية المعاصرة».
واعترف عبد الله العروي، في حواره المنشور بمجلة الكرمل (1984) أن أغلب الكتب التي أصدرها بالفرنسية هي أصلا مكتوبة بالعربية، بما فيها «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» وعن سؤال لمحمد بنيس عن أصل الكتاب، أجابه العروي بأنه «موجود كبداية… لقد كان غير ممكن، في سنتي 1962 و1963 طبع أي نص باللغة العربية أدبيا كان أو غير أدبي… ثم بقدر ما أكتب بلغة معينة بقدرما أجد صعوبة في الترجمة، لذلك يتطلب النقل الى العربية أن أعيد كتابة النص. فمثلا أنا أستعمل كلمة السنة مقابلtradition، ولكن للسُّنة بئر من المعاني. فالقارئ العربي عندما يسمع السنة يتصورها في الحال عالما، ولا يمكن أن أمحو هذا العالم من ذهني.هنا الصعوبة… كذلك الأمر مع مسألة العقل؛ إذ بالنسبة للقارئ العربي التقليدي وحتى غير التقليدي، يتضمن العقل مفهومها أخلاقيا… إننا نضيع وقتنا في تسويد آلاف الصحفات للالتفاف على الكلمات، ولكننا لا نستطيع الاتفاق، لأن كلا من المصري والعراقي وغيرهما يعطي للكلمة ما توحي به ثقافته التقليدية، وفي الوقت الذي يفترض التطور ضرورة السير في اتجاه قطع العلائق مع الجذور، نجد باحثين «يريدون أن يستخرجوا من اللغة العربية فلسفة. وأنا ضد هذا الاتجاه، لأن فلسفة اللغة هي فلسفة الماضي، فلسفة الجذور».
هل علينا أن نبدأ من الصفر؟ يتساءل العروي. يجيب «هذا صعب جدا. لذلك فإن الكلام بيننا الآن يدور حول مفاهيم، ولا نتفاهم برغم ذلك».
ويرى العروي أن من ناقشوا كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة «، «اكتفوا بقراءة خلاصة كل فصل» وأعادوا طرح الأسئلة التي صاغها عن الفكر الكوني والدولة القومية والماركسية الموضوعية والليبرالية والوعي النقدي. فبخصوص الدول القومية يعتبر العروي أن من ناقشه في موضوعها انطلق من «دافع سياسي صرف، إذ كانوا ينتمون في معظمهم الى التيار البعثي المتأثر بالناصرية».
أما في موضوع الماركسية الموضوعية، فإن ما كان يهم العروي من استدعائها هو وضعية السيطرة والعمل على التحرر منها، فضلا عن إلحاحه على الانطلاق مباشرة من ماركس «الايديولوجيا الألمانية» وليس اللجوء بسرعة الى ماركس «الرأسمال». فالمجتمع الذي يعاني من التأخر التاريخي، أو تعاني نخبه من سطوة الإيديولوجيا يمكنها تبني الماركسية من دون فهم أصول الفكر العصري. و»متى تحققت المنفعة، تفقد الماركسية عندئذ جاذبيتها وتستنفد صلاحيتها التاريخية».
وفي موضوع الليبرالية، التي آخذه عليها عدد كبير من مساجليه، يعتبر العروي أن أغلب من انتقده في هذه القضية لم يدرك المفهوم ولا السياق الدلالي والتاريخي الذي يسترشد به، فهو يرى أن دعوته لليبرالية تشترط مطلبين اثنين، أولا استيعاب المرحلة الليبرالية، وثانيا، تحقق هذا الاستيعاب بالاستناد الى الماركسية، وهذا» بالضبط هو مضمون الماركسية الموضوعية أو التاريخية» كما يقول.
ومن هذه الزاوية لم يكن لطفي السيد، باعتباره وجها للإيديولوجيا العربية المعاصرة ليبراليا، بالمعنى المعروف للكلمة، وإنما كان يجسد الخصومة لـ»الشيخ» . ومساهمته في التنظير لمفهوم الحرية بقيت سطحية، كما هو شأن تنظير محمد عبده للإيمان. فالاثنان كما يقول العروي،» اكتفيا بالمظاهر» وبهجوم «رجل السياسة» على «رجل الدين» ولم ينتج، في الواقع، سوى بيئة لـ «العداوة» في الوقت الذي بقي رهين مرحلة «ماقبل الليبرالية».
وفي هذا السياق يرى العروي أنه إذا كانت «التاريخانية عنوان تواضع» والليبرالية مطلبا تأسيسيا للاتنماء الى زمن العالم الحديث، فإنه يذهب بعيدا في التعبير ،في كتابة الاخير «الفلسفة والتاريخ» عن موقفه الحقيقي من الرأسمالية، يحث يؤكد على أنها» ليست مجرد نظام اقتصادي، أو بيئة اجتماعية، أو مذهب سياسي ، إنها في نفس الآن نظرة الى العالم (كما نقول بنية فوقية) إنها فلسفة نقدية».
وإذا كان الشيخ تميز بكونه يفكر من منطق رد الفعل ضد نظام قوي ومنسجم استفزه في وجوده (الاستعمار)، وأن رجل السياسة أنتج مناخ خصومة مع الشيخ، مقترحا أفقا بدون تأسيس واستيعاب، فإن رجل التقنية – سلامة موسى في مصر والمهدي بنبركة في المغرب- من جهته، دافع عن ضرورة نشر التقنية والعلم، وبطريقة مبسطة في مجتمع لا يمتلك شروط توطين ذلك، أو يعرف أعضاؤه ما معنى المختبر العلمي أو المعمل الحديث. لاشك في أن النماذج الثلاثة ساهمت «الواقعة الاستعمارية» في إنتاجهم، بسبب أنهم تعاملوا مع مفعولاتها وكأنها تشكل «قطيعة مؤلمة مع الماضي»، لذلك يرى عبد الله العروي أن «الايديولوجيين الثلاثة يتعايشون بدون أن يكونوا معاصرين. إنهم ليسوا حاضرين في نفس الحاضر. إنهم مثل سفن معطلة توجد بمسافات مختلفة من مدخل الميناء. إنهم لا يعكسون، بنفس الوضوح، ألق النهار»: بل «إننا قد نعثر على النماذج الفكرية الثلاثة عند نفس الإنسان».
ويظهر أن سوء الفهم لم يقتصر على «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، وإنما شمل العديد من مؤلفات العروي، بما فيها ما استثمره من جهد نظري كبير لتأليف “المفاهيم” (الأدلوجة، الحرية، الدولة، العقل، التاريخ)، وخصوصا كتابه عن “الأصول الفكرية والاجتماعية للوطنية المغربية”. فالعروي يؤكد على أنه فكر في البحث عن هذه الأصول انطلاقا من “الأطروحة” التي بنى عناصرها في “الايديولوجيا العربية المعاصرة”، حيث اعتبر أنه من “المستحيل تفريق أهداف الكتابين”.
لقد جعل من “الوطنية المغربية حجة للمفهوم العام للإيديولوجيا”، ويقر بأن الدولة التاريخية المغربية، هي المخزن، وأن الإصلاحية المخزنية هي، بالتبع، أس الوطنية المغربية”. ولأن هذه الوطنية تمثل “شكلا خاصا للإيديولوجيا” ¡ فإن العروي وجد في تاريخها الثقافي والاجتماعي نفس “الملامح العامة التي استعرضها في الايديولوجيا العربية المعاصرة، والمتجلية في ما يسميه بـ :وضعية الهزيمة العسكرية والاحتلال والسؤال الوجودي عن أسباب الكارثة، وقرار رفض الأمر الواقع وإطلاق مبادرات رد الفعل، ثم المنهج الذي يفترض اختيار الطريق الأقرب لإعادة البناء، والأخذ “بوصفات الخصم وتكييفها كلما كان ذلك ضروريا وممكنا”.
هكذا يتبين أن متن العروي، ومنذ “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”¡ مرورا ب “الاصول الفكرية والاجتماعية للوطنية المغربية” الى اليوم، كان عرضة لمنسوب لافت من سوء الفهم والالتباس. لقد سبق للعروي أن أثار انتباه النقاد والدارسين الى ما تعرضه له “الايديولوجيا العربية المعاصرة” من تحريف ونقص في فهم منطلقاتها النظرية والمنهجية، كما انشغالاتها السياسية. ويعود هذا الامر الى أن استيعاب هذه المنطلقات والانشغالات لا يمكن أن يتم بالاستناد الى مرجعيات تسلك سبيل الانتقائية، أو” البراجماتية المبتذلة، أو تخلط القديم والجديد، أو تدعي إنجاز تركيب بين الحداثة والأصالة، لأن ذلك ليس شيئا آخر غير إعادة تركيز التقليد”.
يتعلق الأمر بقاموس متنوع للتعبير عن مظاهر “سوء الفهم” أو “غياب التفاهم”، الذي تولد عن القراءات المختلفة المشارب ل «الايديولوجيا العربية المعاصرة»، وعن السجالات التي كانت أفكار صاحبها موضوع اختلاف وجدال و”انعدام الاتفاق”. وعلى الرغم من مظاهر هذا الالتباس¡ فإن المؤرخ النزيه لتاريخ الافكار الحديثة في المغرب، عليه أن يسجل، في نفس الوقت، التأثير البالغ والجلي «للإيديولوجيا العربية المعاصرة” وللكتابات الأخرى لعبد الله العروي في المسار الفكري لجيلين من الباحثين والمثقفين المغاربة بالخصوص، وبعض العرب. مئات من الأطروحات والكتب والبحوث والمقالات جعلت من الأفق الفكري والسياسي الذي فتحته «الايديولوجيا العربية المعاصرة» ومفاهيم الاديولوجية والحرية والدولة والعقل والتاريخ¡ موضوعا للنظر والسؤال والتحليل¡ باللغة العربية وغيرها من لغات العالم في الفلسفة – وقد لعبت شعبة الفلسفة بالرباط – في زمن إشعاعها الفكري والتربوي – دورا بارزا في تقريب اجتهادات العروي الى الطلبة والمثقفين في المغرب والعالم العربي- والعلوم الانسانية والسياسية.
2 – مفارقة الفكر العربي المعاصر
لا جدال في أن متن العروي يبدو كله حول مفهوم الحداثة وهو ليس مفهوما مجردا، أو عبارة عن مقولة أو فرضية أو شعار، في زمن تضخم فيه الكلام عن المجتمع “الحداثي” لدرجة التسطيح، بل هو جماع منظومة فكرية تحققت تاريخيا في المجتمع الحديث، ولم تتحقق لا قبله ولا في غيره من التجارب، وتحققت موضوعيا في المجتمع الاوربي الغربي الحديث بالتحديد¡ أي أن المجتمع الحديث هو التحقق التاريخي المكتمل – أو الذي لم يكتمل بعد في نظر هابرماس – للمفهوم، وهذا التحقق هو الإطار المرجعي للمفهوم، ولا داعي للبحث عنه في غيره. لذلك فالثقافة التقليدية أو الكلاسيكية، لا يمكن أن تسعفنا في بناء حداثة خصوصية، فهذا جهد لا يفيد في نظر عبد الله العروي¡ إذ أن مفهوم الدولة الحديث، على سبيل المثال، أشمل وأوسع وأقوى من مفهوم المخزن أو السلطنة إلخ. وينطبق ذلك على العقل والقانون أو غيره ، ومن ثم فالعروي، من داخل إلمام واسع بالتراث، يائس من إمكانية توليد المفهوم من داخل التراث بل لا يمكن إعادة بنائه¡ تاريخيا، إلا بالقطع معه. فالأمر يتعلق أولا وقبل كل اعتبار بمسألة منهج، وهي ليست مسألة هينة أو شكلية بقدرما هي قضية وعي معرفي بتاريخية تلك القطيعة التي لا مناص من الإقرار بحصولها، والعمل على التموقع في سياقها.
فما نعتبره عقلا، أو نزعة عقلانية في التراث، هو، في العمق، بعيد عن العقل وهنا تنشأ إحدى مفارقات الفكر العربي¡ سيما وأن العقل لا يحيل على قدرة ذهنية على إنتاج فكر مجرد، بقدر ما يمثل عملية تمتلك ما يلزم من المقومات القابلة للاستثمار بهدف تطوير المجتمع، وتحديث مجالات التربية والتنظيم والتدبير وما بين عقل المطلقات، وعقل الواقعات المرتبط بالممارسات المتجددة للإنسان. يختار العروي العقل الثاني للخروج من نفق المفارقات التي تشوش على النظر التاريخي المطابق، وتعوق إرادة التحديث، بل إن كل فكر لا ينتبه أو بالأحرى لا يفهم هذه الشروط، لا يعمل في واقع الحال، إلا على حجب الواقع وتكريس التبعية، إذ الاختيار أمامنا هو إما أن نتكلم هذا الكلام، كلام العقل والمصلحة والقوة، æإما أن نبقى أوفياء للأخلاق والقيم العتيقة ونموت بموتها، ولا سبيل للتوفيق بين الماضي والحاضر.
لا تعبر التاريخانية فقط عن وعي تاريخي بالتأخر¡ وإنما هي الجواب العملي عن كل المثبطات السياسية والمؤسسية، والثقافية التي تتحول الى عوائق مادية للتحديث، وبرنامج للنهوض من واقع التأخر قياسا الى تاريخ محقق. والفوات هنا، عندنا، والتحقق هناك، في أوربا والغرب، واقع تجريبي لا نملك حرية قبوله أو رفضه، لأنه نزوع جارف لا ينتظر من يركن الى الدعوة الى بناء الحاضر والمستقبل اعتمادا على الماضي، أو مرتهن لثقل التقليد ” قلت إن أوربا الغربية انتهجت منذ أربعة قرون منطقا في الفكر وفي السلوك، ثم فرضته منذ القرن الماضي على العالم كله. ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنهجه بدورها فتحيا، Ãو ترفضه فتفنى. هذا المنطق هو منطق العقل المجرد والمصلحة الاقتصادية وتكافؤ القوى ¡ وهو منطق يسير اليوم العالم كله¡ شرقه وغربه، إما عن طريق التبعية وإما عن طريق التقليد الواعي. وكل منطق آخر يعتمد على الإيمان والفضيلة والحق. المجرد هو منطق إقليمي لا يستسيغه الغير”.
إذا كان العروي يركز، في كل كتاباته على مختلف عوائق التحديث، فلابأس من التذكير، من داخل نصوصه ¡ بالشروط الكفيلة بإنجاز التحديث. فاستدعاء مفهوم العقلانية، في نظره، يفترض مبدئيا في الاجتماعيات والسياسيات¡ أنه مرتبط، أولا، بنمو تأثير الطبقة التجارية في الاقتصاد والمجتمع الأوربيين، ومجسد ثانيا، في التنظيم الاجتماعي وفي السلوك الفردي، وثالثا، مفصول عن «الأخلاقيات» .وأما المجتمع الحديث فهو الذي “استوعب القوانين العقلية البسيطة، التي بني عليها علما الحساب والهندسة، في التنظيمات (الجيش، الوظيف، الاقتصاد، التعليم) ثم في السلوك لأن الفرد الذي يلقن القواعد ذاتها في المدرسة، في المعمل، في المتجر، في الجيش، في الوظيف، يتعود عليها الى حد الاجتياف فينظم حياته العائلية، حسب مقتضياتها. تتعود عينه وأذنه على قواعد التناسب الهندسي، فيتكون لديه ذوق خاص نلاحظ تأثيره في المعمار، في الهندسة، في الموسيقى، في الرسم.
تؤكد نصوص العروي، باستمرار، على حاجتنا الى التفكير والسؤال والخروج من دائرة ثقافة الانغلاق والاستنساخ، ومن التكرار الممل للكلام الجاهز¡ ومن الخطابات السطحية التبريرية التي تحط من ذكاء الانسان، وتزج به في عالم تطغى فيه العادة، والتكلس والجمود. وما أنتج هذا المفكر تحول الى قيمة في ذاتها تنتزع الاعتراف الضروري من كل من يقترب من مجالات التاريخ والاجتماع والسياسة والفكر والتعبير. باجتهاداته النظرية والفكرية¡ فرض الاعتراف، المعلن أو المحتشم، على وسط لا يقر بقيم الاعتراف¡ بانخراط فكري لدرجة الصوفية، وبجرأة عز نظيرها، ألف وكتب ودافع عن شروط الانتماء إلى الزمن المعاصر، حاجج الأطروحات المختلفة التي شوشت وتشوش على التفكير في هذا الزمن من حيث كونه يستند الى تاريخ وتجارب ومفاهيم ومؤسسات. إصرار مبدئي دائم على القول بأنه لا مناص من إدماج التاريخ في الفكر والعمل. وفي استنبات قيم الحداثة في أنسجة الدولة، والاقتصاد، والمجتمع، والعلاقات والسلوك، والذوق.
إلا أنه في الثلاثة عقود الأخيرة بدأ يتبلور اتجاه نقدي يحاول مساءلة مكونات العقل العربي بهدف الكشف عن آليات هذا العقل، وعن أسسه المعرفية، والابتعاد جهد الإمكان، عن المناظرة الايديولوجية والمذهبية التي تحكمت في الفكر العربي منذ عصر النهضة الى الآن. تحاول هذه المجهودات تلمس مرتكزات ما تسميه ب “العقل العربي”، مدركة أن تدخلاتها تتم في سياق سياسي وفكري ونفسي عربي يضخم من الصياغة الإيديولوجية، ويقزم الممارسة النظرية والمعرفية. لذلك نجد المساهيمن في هذه المجهودات يحاولون تصفية الحساب مع تجليات هذا التضخم الإيديولوجي، ويناقشون خلفيات أصحابه ونصوصه ويجادلون مقاصده ومراميه، ولكن من منطلق الدعوة الى إعطاء المعرفة والعمل النظري قيمتهما في المناظرة الفكرية.
بقدر ما يجب أن ينصب النقد، عند العروي، على الوعي العربي الذي لا يرقى الى تفاصيل المرحلة، يتعين أن يتوجه الى التشكيلة الاجتماعية والعلاقات الانسانية، وأنماط السلوك التي تحول دون الممارسة الواعية للنقد.
وإذا كان عبد الله العروي يحدد مجهوداته النظرية ضمن تطور الفكر العقلاني العالمي والعربي، فإنه، في مقابل ذلك يرفض كل نزعة صوفية أو تيار يقول بإدماج ملكات أخرى غير العقل في أمور المجتمع والسياسة. وبالرغم من أنه منذ “الايديولوجيا العربية المعاصرة” الى الآن، وهو يهتم بمسألة التعبير والكتابة، بل ويلجأ أحيانا، الى الحكي الروائي،فإنه مع ذلك يؤكد في نصوصه النظرية على نزعة عقلانية صارمة، بل ويدعو إلى تبني العقلانية بدون أي تنازل للتيارات المناهضة لها.