انتبه بعض المخرجين المغاربة فجر الانطلاقة الرسمية للإنتاج السينمائي الروائي الطويل بالمغرب، إلى أن السينما -باعتبارها من الخطابات الجميلة – تفترض فيمن يتأملها، أو يلج عالمها، أن ينظر إليها في جوانبها الدالية والدلالية والتداولية. لذلك فإنهم حينما فكروا في صنع أفلامهم، وضعوا نصب أعينهم تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في تحقيق جدة العرض، وجودة المعروض، وإيجابية الاستقبال، بما يضمن لهم – وفي نفس الوقت – تعبيرا فنيا متفردا وأصيلا، واستقطابا جماهيريا مقنعا ومريحا .
تفاعل الحكاية والحكي.
وتجد هذه المعادلة الصعبة منبتها في بعض المقولات التي ترى أن أهمية السينما لا تتمحور حول الحدث، وإنما حول التمعن فيه، وبالتالي فإن الاهتمام بالحياة المعاشة، يعلو على الاهتمام بالحبكة المتصاعدة، فلم تعد السينما – بحسب هذا الفهم – اكتشافا للواقع، ونسخا لمعطياته، بل أصبح الواقع مقرونا بفكرة الدخول إليه، وقراءته بعين سينمائية واعية، من خلال كشف تناقضاته، والغوص في أعماقه، وذلك بالخروج عن المألوف التقليدي، وكسر قواعد الترفيه المبتذل . ولهذا فإن أغلبية الأفلام التي حاولت أن تحقق هذه المعادلة الصعبة، قد حافظت على العناصر الواقعية، دونما تهميش لضرورات السرد، مع التأكيد على أن السرد الروائي ليس مهما، بمقدار أهمية الوقائع التي يقدمها .
وهكذا خرجت هذه الأفلام إلى الوجود متخففة من البريق الهوليودي، ومن الالتزام الأيديولوجي الضيق. فحاول البعض منها أن يعبر عن مشاكل المجتمع من خلال التصوير في الأماكن الحقيقية بعيدا عن الأستوديو، وتقديم شخصيات من عامة الشعب، والاعتماد أحيانا على ممثلين غير محترفين،إضافة إلى عدم استخدام الموسيقى إلا إذا كان في المشهد مصدرا لها، والتخلي عن الإضاءة الصناعية، واستعمال الألوان الباهتة والصور البعيدة عن الإبهار، واعتماد الحوار العامي البليغ والواضح، وتوظيف الحبكة غير المصطنعة. كما حاول البعض الآخر من هذه الأفلام أن يطور هذا التوجه، من خلال التصوير في الموقع من دون ديكور أو كواليس، واستخدام الكاميرا المحمولة باليد، والتصوير بالألوان الطبيعية، وعدم فصل الصوت عن الصورة أثناء التصوير. بما يعني التضحية بالسينما ذات التكاليف العالية لصالح سينما منخفضة التكاليف.
ومن معالم هذه السينما أنها رمت عرض الحائط بالفيلم الرسمي الذي رسخته الألفة والعادة، وطلعت بدلا منه بالموقف الشخصي للمخرج المؤلف ونظرته الشخصية، وبدأت تظهر النظرة الداخلية للمخرج الذي يعايش الأحداث، ولا يتعالى عليها. وتطورت الحركة الداخلية للفيلم في سرده وتركيبه، فأصبح التركيب يعتمد على فكرة بصرية تساعد الموضوع، وليس مجرد تركيب جمل أو مشاهد متلاصقة. وبدأت تتكاثر الشخصيات الجديدة، والتي تبتعد عن القوالب الجامدة، فتظهر صادقة متفاعلة مع الدراما، حقيقية في ضعفها وقوتها. واتسعت بذلك المسافة الجمالية بين أفق الفيلم وأفق تلقيه، فأصبح الفيلم مخيبا لأفق انتظار المتفرج، لأنه انزاح عن المعايير الجمالية السائدة، وخلق معايير فنية جديدة. وبالتالي فإنه أصبح من اللازم على المتفرج أن يعبئ أفقه خبرة ومعرفة، وأن يكون مستعدا على الدوام لوضع قناعاته الخاصة موضع تساؤل، لكي لا يكتم أنفاس الفيلم، ولكي يشارك بفعالية في إنتاج دلالاته.
سفر في زمن التوفيقية.
يصدق هذا الكلام على بعض أفلام السبعينيات كوشمة لحميد بناني، وألف يد ويد وعرس الدم لسهيل بن بركة، وبعض أفلام الثمانينيات كحلاق درب الفقراء لمحمد الركاب، وابن السبيل وبادس لمحمد عبد الرحمان التازي، ونهيق الروح لنبيل لحلو، وباب السماء مفتوح لفريدة بليزيد. ففي هذه الأفلام نلمس سعيا واضحا لخلق التجانس بين الموضوعة المطروحة وبين طريقة طرحها. فإذا استقصينا فيلم وشمة مثلا، نجد أن مخرجه قد حاول أن يطرح موضوعة التهميش الاجتماعي بأسلوب إيحائي مستلهم من التيار السريالي. أما حلاق درب الفقراء فإن صاحبه قد اختار أن يميل إلى التعبير عن موضوعة القهر الاجتماعي بلغة جديدة مستوحاة من الواقعية النقدية. وستترسخ هذه النزعة التوفيقية مع جيل التسعينيات من خلال فيلم شاطئ الأطفال الضائعين وفيلم خيول الحظ للجيلالي فرحاتي، وفيلم في بيت أبي لفاطمة الجبلي الوزاني، وفيلم بيضاوة لعبد القادر لقطع، وفيلم مكتوب وفيلم علي زاوا لنبيل عيوش، وفيلم كيد النساء لفريدة بليزيد . ففي هذه الأفلام إنصات لنبض المجتمع، وغوص في عالم الموضوع المطروح، واستلهام واع لبلاغة الاتجاهات الطليعية في السينما العالمية، واستفزاز مقصود لطمأنينة المشاهد. وستتخذ هذه النزعة التوفيقية مذاقا جديدا مع مخرجي العقد الأول من القرن الحالي، وبداية العقد الثاني من القرن نفسه، ويتعلق الأمر بفوزي بنسعيدي في أفلامه ألف شهر وموت للبيع ووليلي، وكمال كمال في أفلامه طيف نزار والسيمفونية المغربية والصوت الخفي، و نور الدين لخماري في أفلامه كازانيكرا والزيرو وبورن آوت، وهشام العسري في فيلمه هم الكلاب، ومحمد مفتكر في فيلمه جوق العميين، ونرجس النجار في فيلمها العيون الجافة. ففي هذه الأفلام قدرة فائقة على النفاذ إلى عمق المعنى، وكفاءة عالية في حث المشاهد على محاورة هذا المعنى. وقد ساعد على ذلك اعتماد لغة سينمائية وإن كانت تخاصم المألوف، لكنها لا تتدثر بالغموض، ولا تجنح نحو الالتباس. فهشام العسري مثلا في هم الكلاب يقدم رؤية غير أليفة لحقبة سياسية عسيرة عاشها المغرب الحديث، بلغة سينمائية خرقت كثيرا من القواعد الثابتة سواء على مستوى التأطير أو التقاط الصورة أو زاوية الرؤية. كما سيوقع العديد من سينمائيي الجيلين الأول والثاني خلال هذه المرحلة مجموعة من الأفلام التي تندرج تحت عباءة النزعة التوفيقية نذكر من بينهم جمال بلمجدوب في فيلمه ياقوت، والجيلالي فرحاتي في فيلمه ضفائر، وسعد الشرايبي في فيلمه عطش، وأحمد بولان في فيلمه علي ربيعة والآخرون، وعبد الحي العراقي في فيلمه منى صابر، ومحمد إسماعيل في فيلمه وبعد، ومحمد عبد الرحمان التازي في فيلمه جارات أبي موسى، ومحمد العسلي في فيلمه أياد خشنة، ونبيل عيوش في فيلمه يا خيل الله، وفريدة بورقية في فيلمها زينب زهرة أغمات، وهشام جباري في فيلمه دموع إبليس، ورؤوف الصباحي في فيلمه حياة، وحكيم بلعباس في فيلمه عرق الشتا.
غير أن أفلام هذا التوجه لا تسير على وتيرة واحدة ، ولا تتبع طريقا واحدا . فقد نلمس في بعضها ميلا إلى النزعة التقليدية، فتستهويها الحكاية، وتنجر وراء الحكي المألوف، كما هو الحال في السيمفونية المغربية لكمال كمال، وأياد خشنة لمحمد العسلي، ونلمس في بعضها الآخر ميلا إلى النزعة التجريبية، فتصبح الحكاية مجرد تعلة لطرح رؤيا المخرج المؤلف، ولممارسة شغبه الفني على مستوى الآليات الشكلية التي يستند إليها العرض السينمائي، كما هو الحال في فيلم هم الكلاب لهشام العسري، وفيلم عرق الشتا لحكيم بلعباس .
وقد استطاعت بعض من هذه الأفلام – حينما أتيحت إمكانية مشاهدتها سواء في القـــــــــــــــــــاعات أو بواســـــــــــــطة التــــــــــــلفاز – أن تنــــــــــــــــــــــــــــــــــال
رضا النقاد والمشاهدين على حد سواء، ويعود ذلك إلى جملة عوامل، من ضمنها جرأة أصحابها في تقديم موضوعاتهم خصوصا تلك المتعلقة بالسلطة ( ألف شهر) أو المجتمع (كازانيكرا ) أو السياسة ( هم الكلاب ) . كما أن هذه الأفلام قد حازت الاستحسان بالنظر إلى طريقة تقديم موضوعاتها، من ذلك مثلا اعتماد الرمز كآلية تخترق جسد الفيلم من بدايته إلى نهايته في ألف شهر، واعتماد معجم ممعن في تكسير المحظور في كازانيكرا، وتوظيف تقنية الروبورتاج في عرض المشاهد في هم الكلاب .
نماذج متعددة لأسلوبية واحدة.
ومن النماذج الفيلمية التي تنتسب إلى المنحى التوفيقي في صناعة الحكي السينمائي بالمغرب، والتي تستحق أن نقف عندها بالتأمل، نذكر علي زاوا لنبيل عيوش، وألف شهر لفوزي بنسعيدي، والصوت الخفي لكمال كمال. ففيلم علي زاوا لنبيل عيوش يستوحي مادته الحكائية من الواقع اليومي الذي تعيشه الطبقات الفقيرة، من خلال قصة طفل صغير اضطرته حقارة المهنة التي تحترفها أمه إلى مغادرة منزل الأسرة، والتوجه صوب الشارع حيث التشرد والضياع. هناك سينخرط ضمن جماعة كبيرة من الأطفال المشردين، يقودهم زعيم أكبر سنا منهم، لا يفوت أي فرصة دون أن يثبت للجماعة زعامته وتسلطه وجبروته، لكن على زاوا سيضيق درعا بتصرفات الزعيم، وسيقرر إلى جانب ثلاثة من الأطفال الانفصال عنه ، غير أن شجارا طفوليا محكوما بمنطق الاندفاع وقع بين الفريقين المتخاصمين سيودي بحياة علي زاوا. وسيعمل الأطفال الثلاثة على إقامة جنازة لصديقهم الفقيد تحقق بعضا من طموحاته في السفر عبر البحر، التي عبر عنها أكثر من مرة في حياته. هكذا قصد نبيل عيوش أن يضمن فيلمه حكاية بكل عناصرها التكوينية من أحداث وشخصيات وزمان ومكان، لكنه اجتهد كثيرا في طريقة نسجها، حتى تبتعد عن التصور التقليدي للحكي، فقد أقامها على أساس رغبات الطفولة وطموحاتها وأحلامها، واستثمر آلية التخييل من أجل نسج عالمها الحكائي، وشحن أجواءها الدلالية بالرموز والإيحاءات تحريضا للمشاهد على الاستكشاف والتأويل، هذا بالإضافة إلى تجسيدها بشكل يكاد عفويا وطبيعيا وواقعيا – ولكن متحكما فيه – من خلال إسناد أدوار البطولة لمجموعة من الأطفال الذين يعيشون حالة التشرد الفعلي. وفيلم ألف شهر لفوزي بنسعيدي يبني نسيجه الدلالي على أساس حكاية مركزية متمثلة في اضطرار امرأة في مقتبل العمر، سجن زوجها لدواعي سياسية، إلى مغادرة بيتها في المدينة مع طفلها الصغير، لتستقر في إحدى قرى جبال الأطلس بمنزل والد زوجها. وقد تفرعت عن هذه الحكاية المركزية مجموعة من الحكايات الفرعية، كحكاية الطفل مع الكرسي، وحكاية المعلم مع فتاة أحلامه، وحكاية القائد مع الزواج. لكن هذه الحكايات لم تكن جزرا معزولة عن بعضها البعض، وإنما كانت محكومة بخيط ناظم يلم شتاتها، ويزرع الانسجام بداخلها. وعلى الرغم من أن البناء العام للفيلم في مجمله كان تقليديا، إلا أن بنسعيدي قد استثمر جملة من التقنيات التي ساعدته على التخفيف من سطوة الحكي المتعاقب، كالمونتاج المتوازي، والتكثيف الزمني، كما حاول كذلك التخفف من القواعد الكلاسيكية التي درج عليها السينمائيون التقليديون، كالمبالغة في توظيف اللقطات المكبرة، والاعتماد القوي على المؤثرات الصوتية. ومن علامات الجدة في هذا الفيلم أيضا القراءة الذاتية لمرحلة تاريخية من تاريخ المغرب، بصوت هادئ مهموس، ودون نبرة خطابية متعالية، ومحاولة الإيقاع بالمشاهد في شرك استبطان ملامح هذه القراءة الذاتية، وينهض دليلا على ذلك تكثيف الحكي بمجموعة من الرموز كالكرسي والماء والنار. وفيلم الصوت الخفي لكمال كمال يقوم أيضا على أساس حكاية مركزية متمثلة في إقدام جماعة من الصم البكم على الهروب من الجزائر إلى المغرب، بسبب تصفيتهم للمدير المشرف على المركز الطبي الذي يعالجون فيه، بعد أن اغتصب صديقتهم، وخوفهم من أن يطالهم العقاب جزاء لما أقدموا عليه. وحكايتين فرعيتين، هما حكاية مسرح الأوبرا التي انبنت على مجموعة من المقاطع الموسيقية، والتي كانت متوازية مع حكاية الهروب الجماعي للصم البكم، وحكاية حسن الذي يروي للفتاة منى حكاية هروب الصم البكم من موقع الشاهد على أحداثها والمشارك في صياغتها. ويمكن أن نلاحظ أن حكاية حسن هي جزء من حكاية هروب الصم البكم، وجزء أيضا من حكاية المسرح، مما ينهض دليلا على التواشج الموجود بين هذه الحكايات الثلاث، ومن العوامل الأساسية المسؤولة عن خلق هذا التواشج، اعتماد المونتاج المتوازي الذي أسهم بشكل واضح في الربط بين المتواليات السردية المنتمية لفترات زمنية متباعدة . ومن التقنيات التي شكلت الملمح الجمالي لهذا الفيلم اعتماد السارد المشارك في الحدث والشاهد على وقوعه، والمزج بين التتابع السردي، والمفارقات الزمنية، واللجوء إلى آلية التعبير الرمزي خصوصا أثناء التعامل مع آلة التشيلو التي تعرضت للتكسير في البداية، ليتم ترميمها بشكل متدرج بعد ذلك.
ولاء مطلق للنزعة التوفيقية
ويكاد النقاد السينمائيون المغاربة يتفقون على أن فيلم بادس لمحمد عبد الرحمان التازي يعتبر من أبرز النماذج الفيلمية المغربية التي نجحت في التوفيق بين الإبداع في الصنعة السينمائية، وتلبية رغبة المشاهد في تحقيق الفرجة المطلوبة. فقد حرص صاحبه على توفير الحدود الدنيا للخلق الفني من حيث انتقاء الوسائل التقنية المناسبة التي بإمكانها أن تجعل من الموضوع المطروح فضاء للبحث والتساؤل، كما أنه لاقى استحسانا ملحوظا حينما عرض في القاعات السينمائية نظرا لقدرته على إثارة حافزية المشاهدة لدى الجمهور العاشق للفن الراقي.
المكان الذي احتضن وقائع الفيلم هو بادس. والمكان هنا ليس جغرافيا من أرض ونبات وماء، إنه عمران بشري شكله الإنسان، ولونه بمعتقداته وقيمه وعاداته وتقاليده لدرجة أصبح معها معادلا موضوعيا لإنجازات الذاكرة، وإبداعات الحاضر، وتوقعات المستقبل. وقد اقتحم محمد عبد الرحمان التازي هذا المكان برؤية فنية عميقة تداخل فيها الواقعي بالمتخيل، لدرجة يحس معها المشاهد أن الأحداث المؤفلمة لا حدود بين مستوى واقعيتها، ومستوى بنائها التخيلي.
المكان إذن هو بادس، وبادس قرية صغيرة في شمال المغرب، قرية حاول المخرج أن يقربها من المشاهد بكثير من الدقة، معتمدا على الحركة المتأنية للكاميرا. كاميرا المخرج استنطقت دواخل الشخصيات فبسطت أمام المشاهد وجوه السكان ونظراتهم ولباسهم ومأكلهم وحركاتهم وسكناتهم. إنهم صيادون وفلاحون تؤشر مظاهر حياتهم اليومية على الكفاف والبؤس. ورغم ذلك فإن حركتهم عادية، وأمورهم طبيعية، لأن سلطة المكان متمكنة من رقابهم، ولأن عواطفهم وأحاسيسهم مرتبطة بهذا المكان.
لمعلم عبد الله يمثل قمة الانسجام مع طقوس المكان الذي يعيش فيه. أما ابنته مويرة فتكره هذا المكان لأنه يضيق الخناق عليها، ويحرمها من ممارسة شغبها الطفولي . حينما تختلي بنفسها، تبتسم وترقص وتقف طويلا أمام المرآة، لتتلذذ بجسدها الجميل تعبيرا منها عن رفضها المطلق لشعائرية المكان الذي وجدت فيه دون أن يكون لها الاختيار في ذلك الوجود. وحينما تلتقي ذلك الجندي الإسباني، تستشعر أن قرابة دموية تجمعها وإياه، وتعتبره الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها أن تحررها من سجنها، إلا أن حلمها تحول إلى سراب، لأن عين الرقيب لا تنام، الرقيب القابع في الذاكرة، والذي أصبح جزءا لا يتجزأ من الحاضر. عين الرقيب هذه يمثلها ذلك الموظف البريدي النازح إلى القرية مكرها، لذلك فهو دائم النزعة في الانفصال عنها، ويسعى كلما أتيحت له الفرصة إلى إشعال الحرائق بداخلها، لأنه يرفضها كمكان لا يربطه به أي اتصال وجداني. أما المعلم الذي هبت به رياح الأقدار إلى هذا المكان النائي، فإنه يحمل معه ماضيا يشغله كثيرا، ماضيا تأسست أركانه في مكان آخر، هذا الماضي هو زوجته التي يظهر أنها طعنته في رجولته، لذلك يحاول بإصرار أن ينتقم منها، وفي انتقامه منها انتقام من ماضيه. لقد بدا له أن هذا الماضي سيعيد نفسه مع مويرة ابنة الصياد حينما شاهدها في لقاء وجداني مع ذلك الجندي الإسباني، ولأنه خائف من هذا الماضي، فقد تخلص – محتالا – من ذلك الجندي . لقد كان يرى في مويرة حاضره الذي سينسيه ماضيه، إلا أنه فشل في ذلك، لأن مويرة مشدودة برباط عاطفي إلى مكان آخر. مكان يذكر المعلم بماضيه المؤلم الذي جاء إلى هذه القرية من أجل الانتقام منه. ولا أفضل من هذه القرية كمكان يتيح له ذلك. أما زوجة المعلم تورية، فإنها تحس بالضيق والتهميش، لأن الماضي بالنسبة لها لا يمكن أن يتحقق في الحاضر، ولأن المكان الذي تعيش فيه، تحكمه سلطة لا ترحم المذنبين في حقها .
ويبقى أن أكثر اللحظات الدالة في الفيلم هي مشاهده الأخيرة، حيث تمكن المخرج من اختزال الصراع الدائر بين الإنسان والمكان، ببيان عجز الإنسان وانسحاقه أمام سلطة المكان وجبروته. فمويرة وتورية حوكمتا بالإعدام رجما بالحجارة. أب تقترف أمام عينيه جريمة قتل في حق ابنته ولا يحرك ساكنا، وزوج يرى بأم عينيه أياد آثمة تمزق جسد زوجته ولا يتدخل. إنها قمة عجز الإنسان أمام سلطة المكان، وقمة امتثاله لأحكامه وقوانينه. بل إن المشهد الأخير يمثل أقصى درجات الخنوع لهذه السلطة، حينما ساهم الزوج في رجم مكان الضحيتين بالحجارة. فهل كان من الممكن أن نستوعب أن يمارس فعل إجرامي كهذا في مكان آخر محكوم بسلطة مغايرة ؟ الجواب في اعتقادنا سيكون بالنفي.
إن فيلم بادس لمحمد عبد الرحمان التازي يتميز بخطابه المنفتح على تعددية التأويلات، فهو ليس خطابا مباشرا، ولا خطابا رمزيا، وإنما يمتح مكوناته من الخطابين معا، لدرجة يصعب معها تلمس الحدود الفاصلة بينهما، ولأنه كذلك، فإنه يحتاج إلى أكثر من قراءة، وأكثر من مشاهدة. وحينما ستفعل ذلك ستحس أن محكياته قريبة منك، وأن شخصياته تعيش معك، وقد ساعد على ذلك بساطة الحكي، واسترساله، وسلاسته، واعتماده على حوار واقعي هادئ، مثل بشكل دقيق المستويات اللغوية لدى الفئات المتعايشة داخل القرية. كما أن الصورة الحيوية المتعددة الأشكال والزوايا والأحجام، قد ساعدت هي الأخرى على توريط المشاهد في عملية التنقيب عن مدلولات المتن المحكي، صورة مثلت بصدق مختلف المظاهر الاجتماعية والثقافية للقرية، ومختلف التلوينات الجسدية والنفسية لقاطنيها. غير أنك حينما تستحضر الفيلم مرة ثانية وثالثة ورابعة، تحس أن ما لم يقل أكثر مما قيل، فتثور أمامك مجموعة من الأسئلة، سيتضح لك بعد التأمل الهادئ والعميق، أن المخرج ما كان يمكن له أن يتورط في الإجابة عنها، لأنه إن فعل ذلك، سيفقد الفيلم حرارته الفنية التي أسهمت في شد انتباه المشاهد إليه من بداية الحكي إلى نهايته.
ودونما مجازفة يمكن القول إن التوجه التوفيقي قد بدأ يرسم لنفسه معالم الطريق داخل المتن السينمائي المغربي، بدليل إقبال الجمهور على مشاهدته، سواء حينما يعرض في القاعات السينمائية، أو حينما يشارك في ملتقيات سينمائية داخل المغرب وبخارجه. غير أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن الأفلام المنتسبة لهذا التوجه لا زالت لم تخلق بعد ذلك التجانس المطلوب بين المستوى الدالي والمستوى الدلالي والمستوى التداولي، ففي الوقت الذي نجد فيه نورالدين لخماري ينساق وراء هوى المستهلك فيقدم ما يطلبه السوق، نرى أن هشام العسري يسعى جاهدا للتنويع في آليات التعبير، والقيام بعملية تحد واضحة لطمأنينة المشاهد. ناهيك عن تسرب جملة من الظواهر السلبية إلى هذه النوعية من الأفلام كإقحام بعض المشاهد الجنسية دون مبرر درامي، واستخدام بعض المفارقات الزمنية التي يمكن الاستغناء عنها.