صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة 11 : الخوارج يركبون على ظهر «مرتكب الكبيرة»!

يترجم مقتل الخليفة عثمان بن عفان على ذلك النحو الممسرح العنيف بداية مصادرة «مفهوم الإسلام» من قبل أطراف الصراع. ذلك أن الخصوم، بمن فيهم بعض الصحابة، اتهموه بأنه «بدل وغير» في الإسلام وخرج عن نهج النبي، بينما صرخ عثمان أمام قاتليه «لست بنعثل، ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة ابراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين». وبلغت تلك المصادرة ذروتها مع الخوارج الذين بنوا عقيدتهم على الأصل القرآني: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون» (المائدة 44). حيث
تأججت حركة الجدل الفكري في مسألة «مرتكب الكبيرة»، لكنها لم تأخذ مجالها النظري في نطاق مفهوم الإيمان إلا معهم. كما أثيرت مسائل لم تكن قد أُثيرت من قبل، مثل مسألة «الحاكمية لله» التي تحولت إلى  مبدأ «الخلافة لكل مسلم عادل»، وهو المضمون الذي انتقل بمسألة الحكم من «القبيلة» إلى مستوى «العقيدة».
وبالعودة إلى سياق التأسيس، يفرق محمد عمارة في كتابه « تيارات الفكر الإسلامي» بين الخوارج. فمنهم «أشراف» العراق، أمثال: الأشعث بن قيس وأبو موسى الأشعري وغيرهم، الذين كانت لديهم خلافات خفية مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فالأشعث بن قيس كان صهرا لعثمان بن عفان وكان واليا على أذربيجان في زمنه وخلعه علي بن أبي طالب عنها، وقائد التحكيم أبو موسى الأشعري الذي عزله الخليفة الرابع عن ولاية الكوفة، ويكتب موضحا: «إن النشأة الأولى لفرقة الخوارج قد حدثت على يد كوكبة من «القراء»، أي حفظة القرآن، الذين أضافوا إلى حفظه زهداً وورعاً وتنسكاً. هؤلاء «القراء» كانوا «علماء» الأمة، قبل أن تعرف الحياة الفكرية «الفقه» و«الفقهاء». كان «القراء» «حفظة» للقرآن، لم يبلغ بهم العلم، بعد، إلى المدى الذي يجعلهم يغوصون إلى ما وراء ظواهر الآيات، وتلك سلبية لا بد أن تقعد بأهلها عن القدرة على السباحة في بحر السياسة والسياسيين.. وكانت تغلب على جمهورهم «بداوة الأعراب»، فلا طاقة لهم بأن يروا استئثار قريش بالسلطة وامتيازاتها، بعد أن سوى الإسلام بين الناس.. وكان للقراء، الذين بدأت بهم فرقة الخوارج، دور ملحوظ في أحداث الثورة التي شبت ضد عثمان بن عفان.. وبعد مقتله كان هؤلاء «القراء» من أكثر أنصار علي بن أبي طالب حماسة لملاقاة خصومه، واستئصال شأفة القوى التي تريد مناوأة الخليفة الذي اختاره الثوار، وبايعه جمهور المسلمين.. وأثناء أحداث الصراع الذي دار بين علي ومعاوية على أرض «صفين»، لم يكن يخالج هؤلاء «القراء» أي شك في أنهم على الحق.. لكن هذا الوضوح الفكري حاسما لدى هؤلاء «القراء»، لكنه لم يكن كذلك عند أنصار علي من «أشراف» العراق، أولئك الذين مالوا مع الدنيا إلى صفوف معاوية، وعبرت عن ازدواجية موقفهم تلك العبارة الشهيرة الساخرة التي أنبأتنا بأنهم: كانوا يصلون خلف علي، ويأكلون على مائدة معاوية؟ ! لأن الصلاة خلف علي أسلم، والطعام على مائدة معاوية أدسم!!».
وقد أفرد حسين مروّة في كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» فصلا خاصاً للخوارج وحركتهم: «كان أول شعار أعلنه الخوارج بعد حادث «التحكيم»، هو قولهم: الحكم لله لا للرجال. وهذا كان أول عنصر يبرز أساساً للعناصر الأخرى التي ستتكون منها نظريتهم.. العنصر الثاني من عناصر نظريتهم، وهو أيضا يقع في الأساس من هذه النظرية، هو مفهومهم للإيمان. فقد تفردوا في تفسيرهم الإيمان، دون سائر المسلمين. فقد كان الإيمان، منذ عهد النبي حتى ذلك الوقت، يعني أولاً الاعتقاد الداخلي، ثم الإقرار به نطقاً باللسان. لكن الخوارج زادوا في هذا المفهوم عنصراً آخر، هو العمل الخارجي العضوي. فليس يكفي أن يضمر المرء اعتقاده ليكون مؤمناً، بل لا بد أن يتطابق الاعتقاد والعمل… فكل إنسان هو عندهم: إما مؤمن، وإما كافر، وليس هناك حالة ثالثة». ويذهب حسين مروة إلأى أن «التلازم بين النظرية والتطبيق هو قوام مذهب الخوارج. وربما كان لهذه النظرة وجهها الايجابي مبدئياً. ولكنهم بالغوا بها كثيرا، حتى أوغلوا بسفك الدماء، وخرجوا بذلك عن خط الغاية، واستعبدتهم الوسيلة، فلم يروا غيرها، احتجبت عنهم الرؤية الحقيقية، رؤية ما هو أبعد وأولى من الوسيلة. ثم أنهم قد حصروا الوسيلة نفسها في شكل واحد أوحد، هو العنف الدموي».
ويرى محمد عابد الجابري في كتابه «العقل الأخلاقي العربي» أن معاوية بن أبي سفيان هو أول من طرح مسألة «الجبر» مؤسسا بذلك أيديولوجيا «الجبر الإلهي» التي صارت فلسفة الأمويين من أجل تبرير حكمهم: «لقد جعل معاوية ورجاله وخلفاؤه من بعده من الجبر عقيدة تبرر سياستهم وتسقط المسئولية عنهم، فكان لا بد أن يثير ذلك ردود فعل فكرية من أولئك الذي اختاروا المعارضة السياسية على الانزلاق مع إيديولوجيا « التكفير» التي تبناها الخوارج أو مع مثيولوجيا الإمامة التي حاكها الذين رفعوا راية التشيع لعلي وآل بيته. هذه المعارضة الفكرية هي التي كانت منطلق «الحركة التنويرية» التي طرحت في وقت مبكر مسألة حرية الاختيار وبالتالي المسؤولية. لقد أطلق الأمويون والمناصرون لهم على هذه الحركة اسم «القدرية» (من القدر بمعنى القدرة، وليس بمعنى الجبر) لكونهم قالوا بقدرة الإنسان على «خلق أفعاله» وبالتالي بتحميله مسئولية ما يفعل».


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 08/06/2017