صدر كتاب “تحليل الخطاب السياسي” للدكتور عماد عبد اللطيف عن دار كنوز المعرفة بالأردن. يتألف الكتاب من 400 صفحة من القطع الكبير، ويتكون من ثلاثة متون: حكائي، ونظري، وتحليلي. يشكّل المتن الحكائي مفتتح التنظير، وخاتمة التحليل؛ لذا أطلقتُ عليه حكايات ما قبل التنظير، وحكايات ما بعد التحليل. ويشتمل المتنان النظري والتطبيقي على أحد عشر فصلاً، خمسة نظرية، وستة تطبيقية.
يُعرّف الفصل الأول من المتن النظري بحقل تحليل الخطاب السياسي في السياقين الغربي والعربي، مركّزًا على أهم المناهج التي اشتغلتْ فيه على مدار نصف القرن الماضي، ومساحات التقاطع بينه وبين حقول معرفية وثيقة الصلة به، وبخاصة البلاغة،ودراسات التواصل، والعلوم السياسيّة، وفروع اللسانيات؛ مثل التداولية، والدلالة، والمعجم. يفحص الفصل -أيضًا- واقع دراسة الخطاب السياسي في العالم العربي، وبخاصة في ظل التحولات الجذريّة على أصعدة كمّ الخطابات، وأنواعها، ووسائط تداولها، والتغيرات الحادثة في المؤسسات الأكاديمية المعنيّة بدراستها. ويحدد أهم ملامح تحليل الخطاب السياسي العربي الراهن، والعوامل المؤثرة في مستقبله. كما يقدم قائمة موجزة بأهم الموضوعات الأقل حظوة بالدراسة، بهدف جذب اهتمام الباحثين إليها.
يقدم الفصل الثاني إطلالة موجزة على أحد أهم منهجيات دراسة الخطاب السياسي في المشهد البحثي الراهن؛ أعني التحليل النقدي للخطاب. يتكوّن الفصل من جزأين؛ الأول مخصص لدراسات تتشابه مع التحليل النقدي للخطاب في منظوره، وإجراءات تحليله،ومادته، لكنها لم تحمل اسم التحليل النقدي للخطاب. أما الجزءالثاني،فيقدم فحصًا موجزً اللدراسات العربيّة النظرية المعرّفة بالتحليل النقدي للخطاب، ونقدًا لها.
خصّص الفصل الثالث لتقديم مراجعة نقديّة للدراسات العربيّة حول الخطابةالسياسيّة؛ مدفوعًا بأسباب متنوعة لإفرادها بفصل خاص، لعل أهمها التأثير الهائل الذي تمارسه الخطابة السياسيّة في المجتمعات العربيّة المعاصرة. ويراجع هذا الفصل عيّنة من الدراسات العربيّة حول الخطابة السياسيّة؛ بهدف التعرف على طبيعتها، والعوامل المؤثرة فيها، والمأمول منها،مُصَدِّرًا الفصل بإطلالة على تجليات عناية التراث العربي بدراسة الخطابة السياسيّة.
في الفصلين الرابع والخامس نجد فحصا لإسهامين محدّدين في نقد الخطاب السياسي؛ الأول فلسفي، والثاني أدبي. خصص الفصل الرابع لجمع شذرات نقد هربرت ماركيوز للغة السياسة، ونَظْمِها في نسق مقاربة لسانية نقدية. ويوجه الفصل عناية خاصة لكتابيه الإنسان ذو البعد الواحد، وفي سبيل التحرر؛ اللذين تناول فيهما مظاهر «هدم» اللغة أحادية البعد، وآليات إنشاء لغة تحررية. يحاول هذا الفصل بناء نسق لساني بلاغي لانتقادات ماركيوز للغة السياسة الغربية، ووضع هذه الانتقادات في سياق مشروعه العلمي من ناحية، وسياق المجتمعات الغربية التي يخصها بالدرس من ناحية ثانية، وسياق مشروعات نقد لغة السياسة قبله وبعده من ناحية ثالثة.
يقدم الفصل الأخير من المتن النظري إطلالة على أحد أكثر مشاريع نقد لغة السياسة أهمية في القرن العشرين؛ وهو –للمفارقة – مشروع روائي، لا أكاديمي. فالفصل الخامس مخصّص لفحص مساهمة جورج أورويل في نقد لغة الاستبداد من خلال التنظير لآليات إنتاج خطابات الاستبداد والتلاعب كما صورها في روايتيه الشهيرتين مزرعة الحيوان، و1984، وفي مقاله الكلاسيكي (الإنجليزية ولغة السياسة). يمثل أورويل عتبة مهمة للولوج إلى المتن التحليلي؛ فهو يقدم نقدًا جذريًّا للغة القهر والتضليل من ناحية، ويطلق صيحة مدوية للتحذير من أثر إساءة استعمال لغة السياسة من ناحية أخرى. والأمران معـًا من بين الغايات الرئيسة للمتن التحليلي لهذا الكتاب الذي يتضمن ستة فصول، تتباين في الأسئلة البحثيّة، والمدونة التحليليّة، وإجراءات التحليل، وغايات البحث. تُحلل هذه الفصول حزمة من أهم الخطابات السياسية التي أُنتجتْ وتُدُوولتْ في سياقات حاسمة في التاريخ العربي، قديمًا وحديثًا. وتشتمل على أنواع خطابية متنوعة هي الخطب السياسية، والبيانات السياسية، والمفاوضات السياسية، والروايات السياسية، والحكايات الشعبية.
يقترح الدكتور عماد عبد اللطيف في أول الفصول التحليلية، الفصل السادس من الكتاب، منهجًا لتحليل الخطاب السياسي، بهدف إمداد الباحثين بأنموذج تحليلي شامل، يمكن الاعتماد عليه في تحليل الخطاب السياسي. يشتمل المنهج المقترح على عمليات تحليل، ومراحل، وإجراءات، ومفاهيم، ومصطلحات، تغطي الأبعاد المختلفة للحدث الخطابي، سواء في مرحلة إنتاجه، وتشكّله، أو مرحلة أدائه وتداوله، أو مرحلة توزيعه، وتلقيه، والاستجابة له. وأختبر نجاعة هذا المنهج من خلال تطبيقه على سلسلة من الخطب التي تشكل حدثًا خطابيًّا واحدًا ينتمي إلى التراث القديم، تُعرف تاريخيًّا بحادثة السقيفة. ويهدف الفصل إلى استكشاف كيف يُستَعمل الخطاب أداة للاستحواذ على السلطة في سياقات التنازع عليها.
يفحص الفصل السابع دور الخطاب السياسي في توجيه سلوكيات الجماهير في اللحظات العصيبة من تاريخ الأمم. ويتخذ من بيان التنحي الذي ألقاه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مدونة للتحليل. ويحاول اختبار فرضيّة أن الصياغة البلاغية لنصِّ بيان التنحي، وطريقة أدائه أثّرا في إنتاج الاستجابات التي أعقبت إلقاءه؛ والتي تمثلتْ في المظاهرات الهائلة الرافضة للهزيمة، والتنحي معًا. وللبرهنة على ذلك يُنجَز تحليل تفصيلي لبعض أهم الظواهر البلاغية في البيان؛ مثل التلطيف اللفظي، والضمائر الشخصية، والاستعارة، والبنية الإيقاعية، وفخاخ التصفيق، وطرق أداء البيان صوتيًّا وحركيًّا. ولتفسير العلاقة بين الصياغة البلاغية للبيان والاستجابات التي أعقبته،يُحلّل الفصل عمليات إنتاج البيان، وإلقاءه، وتداوله، والاستجابة له. ويستهدف الفصل، علاوة على ذلك، تقديم مقترح منهجي للمزج بين المقاربة البلاغية للخطاب السياسي، ومقاربة فيركلف في التحليل النقدي للخطاب.
يتناولُ الفصل الثامن مدوّنةً مشابِهة لبيان التنحي لعبد الناصر؛ إذ درس المؤلف مجموعة خطب الرئيس المصري السابق حسني مبارك أثناء ثورة يناير 2011. واستكشف الأثر الذي أحدثته هذه الخطب في مسار الأحداث، مستعينًا بتحليلٍ لتشكُّلها البلاغي، وظروف تداولها، وطرق أدائها، والعلاقات النصيّة التي تؤسسها. ويحاول الفصل تقديم إجابة بلاغية مقنعة للسؤال المحوري فيه وهو: لماذا فشلتْ سلسلة خطب مبارك في ما نجح فيه بيان عبد الناصر؛ أي الحفاظ على شرعيّة مُهدَّدة، في لحظة تحدٍّ عاصفة؛ مركزًا على تحليل آليات صراعها مع خطاب الثورة، واستجاباتها له.
يفحص الفصل التاسع ظاهرة المزج بين الخطابين الديني والسياسي في الخطابة السياسية العربية المعاصرة، مقترحا في هذا الفصل منهجية لتحليل التناص في الخطاب تتكون من خمس مراحل؛ هي: (1) تحليل النص؛ (2) تحليل السياق؛ (3) تحليل التلقي؛ (4) تحليل الاستجابة؛ وأخيرًا (5) تحديد خصائص الخطابات المتضافرة. هذه المراحل الخمس تغطي الأبعاد المختلفة للحدث الخطابي، والعمليات المتنوعة التي تنطوي في إطار العلاقات النصيّة، مستكشفا فعالية هذه المنهجية في تحليل الخطاب السياسي العربي من خلال تطبيقها على عيّنة من الخطب التي أُلقيت في ظروف سياسية عاصفة خلال النصف قرن المنصرم، امتزج فيها الديني بالسياسي على نحو دال، كما هو الحال في خطب الرئيس الراحل أنور السادات إثر انتفاضة الخبز عام 1977، وإثر توقيع معاهدة السلام عام 1978، وخطبة الرئيس السابق محمد مرسي إثر انتخابه عام 2012.
يحلل الدكتور عماد عبد اللطيف في الفصل العاشر مدوّنة مغايرة، هي أربع روايات عربية، لمؤلّفين عرب ينتمون إلى لبنان، والعراق، والبحرين، والسودان. تُعالج الروايات الأربع تيمات سياسية متنوعة؛ تشمل الحروب الأهلية، والاحتلال، والهزائم العسكرية، والعنصرية العرقية. يوظف الفصل عُدّة إجرائية مأخوذة من علم البلاغة، وتحليل الخطاب، وعلم السرد، لدراسة كيف يُنتقد الخطاب السياسي للقوى والجماعات السلطوية في هذه الأعمال؛ والتي تتراوح بين قوى احتلال عسكري، واستبداد داخلي، وطوائف عرقية. ويتتبع الفصل وظائف التضفير المعقّد بين السرديات الصغرى (سرديات الحياة اليومية) والسرديات الكبرى (خاصة السرديات الوطنية والتاريخية)، وارتباط ذلك بإنتاج تمثيلات متنوعة للواقع والتاريخ، تقدم نقدًا جذريًا لخطابات السلطة.
فيما يدرس الفصل الأخير نوعًا سرديًا أكثر تخييلاً، وأقل رسميّة: هو الحكايات الشعبية. ويحلّل فيه المؤلف عيّنة من الحكايات الشعبية المعاصرة، التي تقدّم معالجات سردية لأشكال من الصراع الخطابي بين أفراد عاديين ورموز السلطة التقليدية (الملك، والوزير). ويستكشف في هذا الفصل طرق المقاومة الخطابية التي تستعين بها الشخصيات المهمّشة في الحكايات المدروسة؛بهدف مواجهة سلطة بطش قاهرة. وكيف تخلق الحكايات الشعبية عالمًا خياليًا، ينتقم فيه المهمشون من مضطهديهم بواسطة قوة الكلمات.
في خاتمته، يرسو الكتاب، بعد تطواف في عالم التنظير والتحليل، على شاطئ الحكايات مرة أخرى. ويقدم هذه المرة حكايات موجهة إلى الفاعلين في مسرح الخطاب السياسي: وهم منتجو الخطاب، ومتلقوه، ومحللوه. ثلاثية أخرى، تشبه ثلاثية البلاغة، والسلطة، والمقاومة؛ لكنه لا يصورها هذه المرة في شكل رؤوس مثلث متساوي الأضلاع، بل في شكل استعراض للسحرة (الأخيار أو الأشرار) فوق خشبة الحياة. وكما هو متوقع فإن الساحر هو السياسي منتج الخطاب، ومؤديه، والمستفيد منه؛ أما الجمهور المسحور فهم المتلقون؛ الذين يريد لهم الساحر أن يكونوا مسحورين، ويريد لهم محلل الخطاب أن يكونوا مدركين. وأخيرًا، يسرد حكايات أخيرة عن محللي الخطاب، حين يلعبون دور كاشفي الوهم أو محطمي السحر؛ الذين يمتلكون المعرفة، والنزاهة، والنبل.