من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر من التاريخ العريق إلى الغد المذهل.
اتجهنا إلى مطار شنغهاي، تأخر الليل قليلا عن الخامسة، موعده اليومي الصيني عند الإقلاع، نحن في وسط الصين وهذا ما يفسر التأخر في حلول الظلام..
في الطائرة أعود إلى “الكهف والرقيم “…..
أقرأ مذكرات البريني كما لو أنني أقرأها لأول مرة، واستعيد جزءا قدر لي أن أعيشه على هامش متردد، مثل وجهة لا تفصح عن نفسها.
من الأعلى تبدو شنغهاي مثل قلادة سلطانية على صدر بحر مبهم، بأزرق كحلي…
كان من الممكن أن يبزغ الجاهلي طرفة بن العبد الذي أعشقه، ويحكي لي عن شنغهاي، التي تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ، كان من الممكن أن أحتمي بسليل الصحراء وأركن إلى كسل قديم، كلما كانت الجاهلية حاضرة شعرا، كان من الممكن أن أعود إلى ما أستملحه من بلاغة في الشعر العتيق لكن شنغهاي، كانت بعيدة عن متناول خيال الشاعر العظيم، كانت تلوح كباقي الوشم في ظاهر الغد!
إيه ..لا معصم، كما سأكتشف، من بعد، لعوالم شنغهاي سوى ما يطفو على … المستقبل.
ومنذ الخروج من المطار كنا، في الغد، في مستقبل البشرية..ركبنا التي.جي.في tgv المغناطيسي الذي يعد أول تجربة في البلاد. كانت الساعة تشير إلى السابعة ليلا وثلاثة وعشرين دقيقة وإحدى عشر ثانية، استقرت السرعة في 300 كلم للساعة، ونحن فوق السكة، عاليا!
قطعنا المسافة الفاصلة التي تقدر بثلاثين كيلومترا بين المطار ومحطة للسيارات، وبوابة ميترو بشنغهاي في 9 دقائق تقريبا. قالت محدثتنا صوفي، التي تتحدث الفرنسية بطلاقة، إن السرعة يمكنها أن تصل إلى 500 كلم في الساعة، وأن التقنية ألمانية تم تجريبها عند الألمان ولكنها فشلت ونجحت الصين في العملية…
وقد تخلت الشركات الألمانية، ومنها شركة سييمنس، عن تصنيع القطارات المغناطيسية، فيما تولت الشركات الصينية ملكيتها لذلك..
وهي، مع ذلك، تجربة في طور التجويد، لأن الاسم الرسمي الذي يطلق عليه هو القطار السريع المغناطيسي في تجربة عملية بشنغهاي!، وهو يربط بين مطار شنغهاي الدولي- الثاني – بودونغ ..
والتجربة تتعمم منذ 2010، وصارت القطارات السريعة من شنغهاي إلى بيكين طريقة الصينيين في التنقل، على رأس كل عشرين دقيقة ..
وفي الطريق إلى المطار، انطلاقا من وسط المدينة، يسير بأعلى سرعة، خدمة لمن يخشى ضياع الرحلة ..
بدءا، شنغهاي اعتادت العلو في كل شيء..
تحية لاسمها ووفاء لأصلها اللغوي
شنغهاي تعني فوق البحر
شانغ هي فوق
وهاي = البحر
وشنغهاي في التعريف السياحي أكبر مدن الصين كثافة ومساحة، كانت في زمن ما مجرد قرية للصيادين، ومستنقع كبير يملأ رئتيها. وبها اليوم أكبر ميناء في العالم، بني في جزيرة قربها.. البحر الذي تقف فوقه، أخضر، بسبب نهر يانزي الذي يصب فيه.…
على طول النهر تتوالي ناطحات السحاب، وتتواجد في المدينة أكثر من 4500 ناطحة سحاب، يبلغ ارتفاع أعلاها 518 متراً، وهي ثاني عمارة من حيث العلو، بعد برج خليفة في الإمارات.…
النهر يقسم المدينة إلى ضفتين، بوتونغ شرقا وبوتيي غربا.. تسرد علينا الدليلة صوفي، التي تركت ابنتها الرضيعة عند حماتها وجاءت لتفي بالتزاماتها المهنية، ما نقرأه من بعد في تعريف شنغهاي في الدليل، يقول تاريخ شنغهاي إنها كانت قرية صغيرة في القرن الحادي عشر، وغلب عليها نشاط الصيد البحري. وحتى القرن الثامن عشر، لم يكن لها شأنٌ يُذكر في تاريخ البلاد. في عام 1842، وبعد “اتفاقية نانكين”، وهي اتفاقية وُقِّعت في 29 غشت عام 1842 بين مملكة تشينغ الصينية والمملكة المتحدة لتمثّل نهاية حرب الأفيون الأولى (1839-1842)، وقد كانت المعاهدة الأولى في سلسلة معاهدات غير متكافئة استهدفت الصين، حيث لم تقدم المملكة المتحدة أيَّ تنازلاتٍ في المعاهدة. بعد هزيمة الصين العسكرية في حرب الأفيون الأولى تعرَّضت مدينة نانجينغ لخطر هجوم السفن البريطانية، فاجتمع ممثّلون من الإمبراطورية البريطانية مع ممثلي مملكة تشينغ للتفاوض على متن سفينة كورنوالس الراسية في ميناء نانجينغ.
وقد بدأت شانغهاي عهداً جديدا مع انفتاحها على التجارة الخارجية. وضعت الاتفاقية الموقعة حداً لحروب الأفيون بين بريطانيا والصين، وأصبحت “شنغهاي” منطقة امتيازات بريطانية. ثم تحصّلت دول أخرى كـ”فرنسا” “والولايات المتحدة “على امتيازات مماثلة في المدينة. شجع هذا المناخ العديد من البنوك وشركات التجارة العالمية على الاستقرار في هذه المنطقة الخاصة التي كانت تقع تحت الإدارة الغربية. عام 1857 م حصلت بريطانيا على حق الإبحار في نهر “يانغتسي”.
عرفت التجارة في شانغهاي ازدهارا حقيقيا، وأصبح ميناؤها من أنشط الموانئ في الصين، كانت تمر عبره ربع التجارة البحرية الصينية. تدفقت الأصول الأجنبية على الصناعة المحلية، كانت اليد العاملة الرخيصة والوفيرة من أهم الأسباب في ذلك. كما أن الحرب اليابانية الصينية الأولى التي انتهت بتوقيع معاهدة شيمونوسيكي أدت إلى تدخل اليابان كقوة أجنبية جديدة في شنغهاي، حيث بنت اليابان أوائل المصانع فيها.
في طريقنا إلى المدينة، في حافلة الزيارة، تقول صوفي، إن علاقة المدينة مع الحزب الشيوعي أنست العالم فيها، ومع بداية 1990 صارت مركزا ماليا جديدا ..فوق مستنقع، حيث ولدت ناطحات السحاب..
وهي تتحدث عن الحزب الشيوعي يبدو أن صوفي ارتكبت لبسا، استدعى تصحيحا من المسؤول السياسي عن الرحلة، لهذا سرعان ما أوضحت صوفي كلامها بتصويب الحديث والزيادة في الشرح، لتقول لنا إن أغلب الصينيين يشكرون الحزب الشيوعي على ما قدمه للشعب الصيني، وإن جيلنا يعد جيلا من الأباطرة الصغار، بالمقارنة مع ما كان آباؤنا يعيشونه…… إلخ إلخ إلخ.
ليلا وصلنا، وتوجهنا إلى مطعم إسلامي، في ملكية عائلة «كوان» الإسلامية، يبدو عليها أنها مغولية الأصل.
طعامنا كانت به نكهة مغربية ما… وكانت لنا ليلة أولى في مدينة لن يسعها حلم العالم برمته….
هناك إصرار عجيب من مضيفينا الصينيين على أن نتوجه إلى المطاعم الإسلاميةَ أكانت صينية، عربية أو مغربية تماما… !
ذهبنا إلى الصين، وعدنا …من المستقبل! 24 : شنغهاي، وشم على ظاهر…. الغد!
الكاتب : عبد الحميد جماهري
بتاريخ : 14/01/2020