لقد تصدى الإسماعليون للرازي بقوة، بدعوى أنه يسيء للدين الإسلامي، فوضعوه على قائمة الزنادقة الملحدين الذين تجب محاربتهم بكل الطرق حتى لا يشكلون وعيا جديدا في البيئة العربية الإسلامية.
لقد فصل الرازي بين النبوة والألوهية، فإذا كان منكرا للنبوّة فإنّه في المقابل يقرّ بوجود الإله، الذي منح الإنسان العقل وحمّله مسؤولية التفكًر والتدبَر، لتحليل وفهم ما يعرض له من قضايا، ونجد فيما تركه لنا تقريظا للعقل ومنافحة عنه حيث يقول: ” بالعقل فضلنا على الحيوان غير الناطق حتى ملكناها وسسناها وذلّلناها وصرفناها في الوجوه العائدة منافعنا علينا وعليها، وبالعقل أدركنا جميع ما يرفعنا، ويحسن ويطيب به عيشنا، ونصل إلى بغيتنا ومرادنا . … وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا، الخفيّة المستورة عنا .. …. وإذا كان هذا مقداره ومحلّه وخطره وجلالته، فحقيق علينا أن لا نحطّه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه، ولا وهو الزمام مزموما، ولا وهو المتبوع تابعا، بل نرجع في الأمور إليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه، فنُمضيها على إمضائه، ونوقفها على إيقافه، ولا نسلط عليه الهوى الذي هو آفته ( أبو بكر الرازي، كتاب الطبّ الروحاني، ص 18).
وعانى الرازي من اضطهادات تكفيرية عديدة. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تمت مصادرة جل كتبه في ميادين معرفية متعددة، حيث لم يبق منها غير بعض المخطوطات والنصوص. أما الكتب كاملة فقد ضاعت وأحرقت، لأن السلطة السياسية القائمة، ومعها السلطة الدينية، كانت تواجه أصحاب الفكر الحر العقلاني بالاضطهاد وبالعنف. ولم يستطع العنف الذي أبداه التكفيريون أن يلغي ما وصلنا من أفكار الرازي المشبعة بروح الفلسفة اليونانية. فقد كان سقراط مثله الأعلى في الفلسفة «لكن مسألة تحديد ملامح فلسفة الرازي لا تقف عند سقراط، بل تتصل بديموقريطس وأفلاطون. وإذا كان قد رأى في سقراط نموذجا مثاليا للفلسفة الأخلاقية، فإنه قد تابع أيضا ديمقوريطس في نظرتيه الذرية في طبيعة المادة، وتابع أفلاطون في مسائل ما بعد الطبيعة مبتعدا عن التيار المشائي الذي مثله في الإسلام بأنحاء متفاوتة كل من الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. والحقيقة أنه كان ثابتا في مخاصمته للفلسفة الأرسطية، وإذا كان لنا ان نحدد مصادره الفلسفية اليونانية، فهي، بكل تأكيد، الفيثاغورية والأفلاطونية والأبيقورية والرواقية.» (محمد بن زكريا الرازي الطبيب والفيلسوف دراسة، تأليف محمد عبد الحميد ص 129).
لقد انتصر الرازي لفلسفة أفلوطين وفيثاغورس وديمقريطس وسقراط وأفلاطون وأبيقوروس كما تأثر بالفلسفة الحرانية المنسوبة إلى ثابت بن قرة، وحاول، بناء على ذلك، أن يؤسس فكرا فلسفيا في الواقع العربي الاسلامي.
ويعتبر الرازي من أهم الفلاسفة العرب الذي لم تأت فلسفته من فراغ بل كانت صدى للواقع الاجتماعي العربي الذي كان مجتمع متعدد الثقافات والأعراق والديانات بالإضافة الى الصراع الطبقي الحاد ،حيث حاول الرازي الإجابة عن أهم المسائل الفكرية التي شغلت فكره «من أين أتينا؟ والى أين مصيرنا؟ وما حقيقة السعادة في هذا العالم؟ وما أصل الشر؟ وكيف يتسنى للإنسان الخلاص من شقائه والتنعم بالسعادة التي هي غاية كل إنسان؟ كما اهتم الرازي بالموضوعات الفلسفية الكبرى التي شغلت الفلاسفة قبله كموضوعات المنطق والفلسفة الطبيعية والأخلاق وكذلك اهتم بالمسألة الإلهية التي تمثل المحور الأساسي في فلسفة الرازي وهي تتشكل من منظومة متكاملة متجانسة، قوامها خمس مبادئ أزلية قديمة هي الهيولي، المكان، الزمان، النفس، الباري(لله)
فـاللـه الذي اعتبر من أحد المبادئ الأزلية القديمة التي تقوم عليها ميتافيزيقا الرازي. ولله حسب الرازي هو خالق هذا الكون ومحدثه باتحاد النفس والهيولي، وإخضاع وجودهما المحصور في عالم الكون والفساد، فالخلق عند الرازي ليس خلقا من العدم المطلق، بل إبداع من مبدأي النفس والهيولي اللذين هما عنده مبدآن أزليان قديمان من المبادئ الخمسة القديمة، وهذه قضية ملتبسة يتعذر التوفيق فيها بينها وبين الشريعة وهي التي ستجعل الرازي يبحث في الأديان متسائلا عن مدى عقلانيتها وموضوعيتها، حيث انتقد الرازي كل الأديان وتبرأ منها، وأسس لفكره الحر الجريء ونزعته العقلية التي جعلت خصومه من الفقهاء ينعتونه بالملحد، حيث حورب بشدة، وأتلفت كل كتبه التي ألفها في الطب والكيمياء والفيزياء والمنطق وفلسفة الطبيعة وما بعد الطبيعة والإلهيات وفلسفة الأخلاق والأديان والفنون عامة. وحسب إحصاء البيروني لمؤلفات الرازي، فإن عددها عنده بلغ 184 كتابا ورسالة ومقالة. ولم يصل إلينا من هذا العدد الوفير من مؤلفاته سوى 35 مؤلفا في مخطوطات عربية، أو لنقل لاتينية وعبرية (بروكلمان، الترجمة العربية 4:273-285). ولعل ضياع كتبه ونعته بالملحد ونبذه من المجتمع العربي الإسلامي هي من أهم تضحياته التي أراد من خلالها تأسيسه لفكر حر، فالمفكرون العظماء هم الذين يكتبون بدم حبهم وغيرتهم على الإنسانية والوجود، وذلك من أجل وجود كوني ذي قيم نابعة من عقل الإنسان ومدافعة عنه. فالرازي الذي آمن بوجود عقيدة فلسفية مخاطبة للعقل الإنساني الذي بإمكانه أن يفهم جوهر الأشياء دون أي معين خارجي ملغيا ضرورة الوحي الالهي، ومن هنا اتهم بالإلحاد والزندقة وتعطيل النبوة. دون أن ينتبهوا إلى وجوده كطبيب متقن لمهنته أو كعالم في الفلك والكيمياء. ومن هنا كتب في كتابه السيرة الفلسفية «وهب أن قد تساهلت عليهم وأقررت بالتقصير في الجزء العملي، فما عسى أن يقولوا في الجزء العلمي؟ فإن كانوا استنقصوني فيه فليلقوا إلى ما يقولونه في ذلك لننظر فيه ونذعن من بعد بحقهم أو نرد عليهم غلطهم. فإن كانوا لا يستنقصونني في الجزء العلمي فأولى الأشياء أن ينتفعوا بعلمي ولا يلتفتوا إلى سيرتي».
صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة 21 : الطبيب الفيلسوف أبو بكر الرازي، ناكر النبوة 2/2
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 21/06/2017