مشروع الخطاب الإسلامي العلماني 4- ضد «التربّص» بين الدين والإبداع

ساهم نصر حامد أبو زيد في وضع واحد من أكثر المناهج الفكرية كفاءة وموضوعية لقراءة التراث الإسلامي، وقاد صراعا شرسا ضد المؤسسة الدينية التقليدية التي عملت على تكفيره..
ولعل هذه القراءات السريعة في بعض أعماله ترتقي إلى مصاف رد الجميل لمفكر شجاع حاول أن يقي الأجيال العربية من الامتثالية والتزييف في الوعي والثقافة.

 

هذا هو الفارق، كما يراه أبو زيد، بين (العقل الغيبي) و (العقل الديني)، ففي حين يجد الأول تفسيرا لكل شيء في الإيمان يسعى الثاني للكشف عن الأسباب المباشرة للظواهر دون أن يتخلى عن الإيمان.
وعن اتهامه بالدفاع عن الماركسية والعلمانية ونفي صفة الإلحاد عنهما يقول أبو زيد: “إن الخطاب الديني يختصر كل شيء في مقولة واحدة سهلة يحفظها الدارسون والطلاب ويكررونها عن ثقة ويقين، فمثلاً يتم اختصار العلمانية في مقولة (فصل الدين عن الدولة) كما يتم اختصارها في الإلحاد، والأمر نفسه بالنسبة للماركسية والداروينية والفرويدية..”..
ويرى أبو زيد أن العلمانية ليست نمطاً من التفكير المعادي للدين، بل هي نمط يشهر عداءه للتأويل الكنسي، أي تأويل رجال الدين الحرفي للعقائد، كما وتناهض محاولة الكنيسة فرض تأويلها من أجل بسط هيمنتها وسيطرتها..
بمعنى آخر، إن العلمانية نمط من التفكير مناهض للشمولية الفكرية والإطلاقية العقلية لرجال الدين على عقول البشر بما في ذلك شؤونهم العلمية وحياتهم الاجتماعية.
العلمانية هي مناهضة حق (امتلاك الحقيقة المطلقة) دفاعا عن (النسبية) و(التاريخية) و(التعددية) و(حق الاختلاف)، بل و(حق الخطأ) كذلك..
ويخلص أبو زيد إلى أن الإسلام دين علماني بامتياز لأنه لا يعترف بسلطة رجال الدين، ولأنه يمثل بداية تحرر العقل وسعيه لتأمل العالم والإنسان، تأمل الطبيعة والمجتمع واكتشاف قوانينهما.
ويخلص أبو زيد إلى أن معاداة العلمانية في الخطاب الديني المعاصر يعود إلى أمرين:
الأول أنها تسلبه إحدى آلياته الأساسية في التأثير (رد الظواهر إلى مبدأ واحد)، والثاني لأنها تجرده من السلطة المقدسة التي يدعيها لنفسه حين يزعم امتلاكه للحقيقة المطلقة.
أما أهم أدوات النقد في الخطاب الديني فهي برأي المؤلف التشويه والاختصار إلى الحد الذي أدى إلى التأثير على وعي العامة وقاد الكثير من المتعلمين إلى الاقتناع بأنهم قد باتوا يعرفون العلمانية والماركسية والداروينية والفرويدية.
لقد اختزل الخطاب الديني الماركسية في الإلحاد والمادية، فليس مهما على الإطلاق في أي سياق ورد قول ماركس (الدين أفيون الشعوب)، وليس مهما كذلك أن يكون هذا القول موجه إلى التأويل الرجعي للدين لا إلى الدين نفسه، بل المهم هو أن يؤدي هذا الاختزال غايته الأيدلوجية.
وفي رده على تهمة الطعن في الصحابة وفقههم مثل اتهام عثمان بن عفان بتوحيد قراءات القرآن بلهجة قريش يرى أبو زيد بأن الصحابة من منظور الخطاب (العلمي) بشر يخطؤون ويصيبون، ولقد اختلفوا إلى حد التقاتل بالسيف كما هو معروف في التاريخ..
ويتساءل: كيف نقرأ التاريخ إذاً، نقرأه وندرسه أم نغمض العين عنه فلا نتعلم.. أليس التاريخ هو خبرة الماضي التي يؤدي الوعي بها إلى حسن التخطيط للمستقبل..؟
كل تلك أسئلة يتجاهل الخطاب الديني ما تتضمنه من إمكانيات لفتح باب المعرفة والوعي، يتجاهل ذلك لحساب (التسبيح) بالماضي وإضفاء هالة من القداسة حول الأشخاص، وهذا هو الكهنوت الذي يكرسه الخطاب الديني رغم زعمه بأن لا كهنوت في الإسلام.
وعن رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية) يرى أبو زيد بأنها رواية رديئة من المنظور الأدبي- الجمالي، وأنه حين وضعها في موقف مشابه لموقف رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا)، مع الاحتفاظ بالفارق الأدبي والفني بين الروايتين، أراد من ذلك أن يحلل آلية المسارعة إلى التكفير في خطاب الإسلاميين دون قراءة أو تثبت، إذ كثيراً ما يستطيل الجهّال على الأعمال الأدبية باسم الدين والعقيدة فيخلقون حالة (تربّص) بين الدين والإبداع، وبهذا المعنى أصبحت الروايتان في موقف مشابه من حيث موقف الخطاب الديني منهما.
وحول تهمة إنكار نسبة القرآن إلى الله يقول أبو زيد: “إن القرآن الكريم كلام الله المنزل على النبي بالغة العربية، واللغة كما نعلم ظاهرة اجتماعية بشرية، ومعنى ذلك أن القرآن إلهي المصدر بشري اللغة، أي أنه يتمتع بطبيعتين: الطبيعة الإلهية من حيث هو كلام الله، والطبيعة البشرية من حيث هو بلغة بشرية، وإنه، وبسبب الطبيعة المزدوجة هذه اختلف علماء المسلمين قديماً بين القول بأن القرآن صفة أزلية وبين القول بأنه مخلوق محدث، وهذا لخلاف بالتحليل العلمي يمكن تفسيره بالقول بأن أصحاب نظرية (القدم) نظروا إلى الجانب الإلهي، أما أصحاب نظرية (الخلق) فنظروا إلى الجانب اللغوي، وحين جاء الأشاعرة قالوا: القرآن أزلي قديم من حيث هو (العلم الإلهي) لكنه من حيث النزول والتلاوة محدث مخلوق، ونحن في دراستنا للقرآن وفهمنا له ندرسه من جانب اللغة، أي من جانب الظاهرة الاجتماعية البشرية التي تملك مناهجنا البشرية وعقولنا القدرة على الوعي بها، وقضية الإعجاز، كما يقول الجرجاني، لا يمكن إثباتها إلا بمعرفة قوانين الكلام البشري..”..
ويوضح أبو زيد بأن التحرر من (سلطة النص) ليس هو (التحرر من النص)، فسلطة النص ما هي إلا مضاف بشري إلى النص لا قداسة له إذ هو إنساني النشأة متغير الطبيعة، فيما (النص) واجب القداسة كالكتاب والسنة، وهو بهذه الفكرة يسعى لإزالة القداسة عن الإمام الشافعي الذي يرى بأنه، أي الشافعي، قد كرس فكره لإلباس النصوص سلطتها منظور لا يرى النص سلطاناً إلا فيما أضافته قريش إليه من بيئة وفهم ومكان وثقافة ولغة، وبذلك يكون الشافعي قد جمّد سلطان النص على أعتاب القرشية حائلاً بينه وبين خطاب جديد، متجدد، تفرضه طبيعة التنامي في المعرفة.
وعلى ضوء كل هذا الذي استعرضه يقرر أبو زيد أخيراً بأنه قد آن الأوان لـ(لعب على المكشوف) لأن الخطاب الديني، بمظاهره المختلفة، من تقديس التاريخ والأئمة ومحاربة أية محاولة للتحليل والنقد والتفسير والادعاء بأسلمة المعرفة، التي تسعى لإلغاء الفهم والعصر والتاريخ والمعرفة وذلك بادعاء أن كل ذلك كامن ومضمر في النصوص الأصلية، إن كل هذه المظاهر غير بريئة وتستهدف في الحقيقة السيطرة على الحاضر اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، ولآن المقاومة الفكرية هي المانع الوحيد المتبقي فإن الحرب شرسة ضدها بكل الأسلحة من التلويث حتى القتل.
بهذه الاستنارة، وهذا الوعي العميق بالحاضر والتراث والمعرفة الإنسانية كان د.نصر حامد أبو زيد يناقش خصومه ويرد على متهميه في سجالية فكرية معاصرة ربما هي الأكثر ثراء وطرافة وإشكالية.


الكاتب : بشير عاني

  

بتاريخ : 21/05/2020