الفلسفة في زمن الكورونا
رغم أضرارها، فإن كورونا خلخلت العديد من الموازين، وجعلت العلاقة مع الموت مجرد أرقام تتزايد فنخاف ونرتعب .. وتتناقص فيشع بريق الأمل فينا، إلا أنها تمكنت من تفجير قدرات وطاقات وأفكار، إذا تم استغلالها بالشكل الإيجابي يمكنها أن ترتقي بتفلسفنا التلقائي إلى درجة التفلسف وفق مهارات وآليات واعية ومتحكم فيها، نتمكن عبرها من تشكل دفعة حقيقية نحو بناء غد أفضل، توضح الاستاذة مليكة غبار، الفاعلة التربوية والجمعوية و المؤطرة سابقا لمادة الفلسفة. في هذا الحوار.
في ظل الظروف الحالية التي نعيش فيها تداعيات انتشار فيروس كورونا في عصر ازدهار التقدم التكنولوجي والعلمي ، تنتصب أزمة حقيقية في كون العلم لم يتمكن،على الأقل في الوقت الحالي، من الحسم في أسباب الوباء ولا كيفية التحكم فيه والتغلب عليه، بالنسبة لك ما هو موقف الفلسفة من العلم الذي يقف اليوم عاجزا أمام فيروس كوفيد 19.
يشهد تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم أن هناك علاقة تفاعلية بينهما … فجميع العلوم نشأت في حضن الفلسفة لأنها كانت – من داخل الفلسفة- تحاول الإجابة عن تساؤلات مرتبطة بفهم ظواهرالطبيعة وبالوجود في مختلف مظاهره، مثل التساؤل حول الموجودات، من حيث حركتها وسكونها فكان علم الفيزياء والموجودات، من حيث هي عضوية حية، وكانت البيولوجيا وهكذا بالنسبة لجميع الظواهر القابلة للمعرفة، أو التي تمنح نفسها لتكون موضوعا للمعرفة الموضوعية وفق منهج ملائم، بما في ذلك الإنسان … وكلما نضج العلم وأقام أسسه ومناهجه وركائزه التي تتيح له التقدم في تحصيل المعرفة بالموضوع المدروس، استقل عن الفلسفة الأم وسلك طريقه وفق منهجه الخاص، وهذا لا يعني أن استقلال العلم هو بلوغه الاكتمال.. لأن العلم لا يتطور إلا عبر الكشف عن أخطائه باستمرار، وهذا ما يكشفه تاريخ العلوم من خلال أزمة الأسس في الرياضيات وكذلك إعادة النظر في مفهوم اليقين المطلق والانقلاب الذي أحدثته فيزياء العالم المتناهي في الصغر على مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية، ثم الثورة على المنطق الثنائي القيم الخ.. بمعنى أن العلم في تطور مستمر وتطوره يمر عبر أزمات تؤكد أنه مهما بلغ ، ومهما تقدم فهناك مناطق مظلمة تحف به، يسميها أحد الفلاسفة المعاصرين «برتراند راسل» B. Russel بمناطق الحدود أو الجوانب المظلمة في العلم.
وإذا كانت المناطق المظلمة في العلم تشكل سببا في تقدم العلم، فإنها في نفس الوقت تترك المجال –كما يحصل في زمن الكورونا- للمشعوذين والدجالين وأشباههم من بائعي الأوهام وأمور أخرى لا يتسع المجال لذكرها ، وفي مواجهة هؤلاء ونظرا للطبيعة التي تربط العلم بالفلسفة فإن الجوانب المظلمة للعلم تفرض على الفلسفة التدخل من خلال طرح تساؤلاتها الرامية إلى فحص المناهج المعتمدة ونقدها والدعوة إلى إعادة النظر في الأدوات الموظفة وذلك سواء من داخل العلم نفسه أو بشكل موازي لعمل العلماء.
إن ما يحصل في زمن الجائحة الكونية والتي أدت إلى أزمة غير مسبوقة رغم التطورات الكبرى التي عرفتها التقنية والعلم، وبالموازاة مع البحث الحثيث للعلماء المختصين (ومنهم العلماء- الفلاسفة) في مجال الأوبئة لفهم طبيعة الفيروس وإمكانيات ضبطه والتحكم فيه والعثور على لقاح يحمي الإنسانية من مخاطره.. نجد العديد من الفلاسفة يدلون بدلوهم حول تداعيات الفيروس سواء علي المستوى الابستمولوجي أوعلى المستوى النفسي للإنسان أوالأخلاقي أوالبيئي ومصير العالم..الخ. انطلاقا من تشخيص الوضع قبل جائحة كورونا والتحذيرات الموجهة إلى من هم في قمة هرم السلطة عالميا ودوليا لتجاوز مطبات التدمير الشامل.
ما حاجة الناس العاديين إلى الفلسفة في زمن الكورونا؟
أعتقد في البداية أن الحاجة إلى الفلسفة، سواء في زمن الكورونا أوفي جميع الأزمنة التي يشعر فيها الانسان بأزمة ،مرتبطة بوضعه الإنساني، أي بما يشترك فيه مع الناس قاطبة..
كيف يمكننا التمييز بين الشعور بالأزمة المرتبطة بالوضع الانساني والأزمة جراء مشاكل شخصية؟
حين يشعر الشخص بعجز أمام حل مشاكل تخصه كفرد ويسبب له ذلك معاناة نفسية، مثل مشكل تربية الأبناء أو الشعوربعدم القدرة على تنمية صداقات، أو فقدان الثقة بالنفس، وكل ما يرتبط بإحساس الفرد أنه وحده يعاني… هذا النوع من العجز والمعاناة الفردية قد يتم تجاوزه بتدخل الطبيب النفسي أو بالمساعدة القانونية أو شيء من هذا القبيل… أما بالنسبة لمواجهة الشخص لوضعه البشري أو ما يسمى بالشرط الإنساني la condition humaine فهو الذي من خلاله يعي فيه بمختلف العوامل التي تجعل منه كائنا بشريا تحكمه قوانين بيولوجية، يشترك فيها مع الحيوان مثل التغذية،النمو، التوالد..والتنقل.. ويتميز عن الكائنات الطبيعية الأخرى بالوعي والإدراك، وأنه في نفس الحين كائن اجتماعي وأخلاقي..الخ. وأنه يمارس انسانيته من خلال محددات الوضع البشري تلك. وأنه لا يعاني وحده من الأزمة التي سببها فيروس اجتاز كل قارات العالم لأنه لا يهدد وجوده الخاص وإنما يهدد الوجود البشري برمته.. هذا التهديد الذي استدعى استنفار السياسيين وعلماء الاقتصاد ورجال الدين والفلاسفة، كل من جانبه ، كما استفز فكر الأغلبية من الناس بمختلف مشاربهم ونبههم إلى شرط وجودهم الإنساني، فعبر الأشخاص بطرقهم الخاصة عن قلقهم وحيرتهم و استغرابهم من عجز العلم عن حمايتهم رغم سابق ثقتهم العمياء فيه وشككوا في النجاح التام للعمل العلمي، كما دعا الكثير منهم إلى إعادة النظر في التصور السابق عنه لأنه فشل (ولو مؤقتا) في إنقاذهم من خطر الانقراض، مما يبين أن الكورونا عززت قدرة الأشخاص على التفلسف دون دراية منهم.
ماذا تقصدين بالتفلسف، وهل هناك فرق بين الفلسفة والتفلسف؟
ما يروج من الفهم الخاطيء للفلسفة ،هو أنها خطاب جامد معقد ولا فائدة منه لأنه بعيد عن الواقع، في حين أن الفلسفة – كنسق من الأفكار والتصورات والمباديء حول المشاكل الكبرى للوجود وحول أسس المعرفة ودور الانسان في تحقيق ما ينبغي أن يكون انطلاقا مما هو كائن- مرتبطة ارتباطا قويا بواقعها ومرتبطة بقضايا عصرها، سواء من حيث تأثرها بها أو تأثيرها فيها ، لما لها من قدرة على التحكم في آليات تحليل هذا الواقع ومده بسبل التفكير ودراسة القضايا التي قد يعجز العلم عن حلها، من حيث مساعدتها على فهم الواقع الموضوعي وفهم الذات و اللآخرين ووضعها للشروط الأخلاقية والعملية الكفيلة بتحقيق التعايش الإنساني، وتصديها العقلي للخرافة والأوهام..الخ وفق منطق عقلي وداخل بنيان متكامل لدى كل فيلسوف على حدة ،في إطار صرح متراص البناء.. علاقة الفلسفة هذه بالواقع تنقلنا إلى التفلسف الذي يمكن أن يمارسه الفيلسوف، بنفس الأدوات التي يوظفها الناس –غير الفلاسفة- بشكل تلقائي خصوصا في زمن الأزمة.
ما معنى أن نتفلسف بشكل تلقائي ، وكيف يمكن للإنسان العادي أن يمارس التفلسف؟ وما هي الأدوات التي تمكنه من التفلسف؟
أحاول أن أربط التفلسف التلقائي بزمن الكورونا التي أثرت في سلوكات من صميم الوضع البشري مثل التباعد الاجتماعي (الانسان اجتماعي بطبعه) وأقعدت الناس في بيوتهم وحرمتهم من التنقل ( الانسان من طبعه يتنقل ..) وكممت الأفواه (الانسان كائن ناطق) بالإضافة إلى عادات وتقاليد مجتمعية شاءت الكورونا أن تقلبها رأسا على عقب في وقت قياسي.. كل هذا دعا الناس إلى توظيف أدوات مترابطة فيما بينها، يحيل كل واحد منها إلى الأدوات الأخرى، كما سأحاول إبراز ذلك من خلال عرض بعض هذه الأدوات وهي كالتالي:
الدهشة: أو الاندهاش l’étonnement من كون فيروس صغير قلب حياتهم رأسا على عقب، ومازال يهددهم بالموت الجماعي، ويدمر اقتصادهم ويحقق تحالفات مع من فقدت فيهم الثقة ،وليس الاندهاش سوى آلية من آليات التفلسف.
فالاندهاش أو الدهشة أمام وضعيات معينة مرتبط بشعور الانسان بالجهل… وقد تصبح الدهشة فلسفية إذا تجاوزت الشعور والإحساس بها لتصبح دافعا فضوليا بغية الكشف عن الحقيقة، يقول أحد الفلاسفة القدماء (أرسطو) «الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف».
العودة إلى الذات le retour vers soi: كثر الحديث في زمن الكورونا عن العودة إلى الذات بالمفرد، من أجل الكشف عن حقيقتها ومصيرها ودرجة تحملها للوضعية التي تفرضها عليها أزمة الكورونا. وكذلك وعلى نفس المنوال قد تكون العودة إلى الذات بصيغة الجمع بمعنى ضرورة المراجعة الجماعية للذات الإنسانية بما لها وماعليها، وفهم مثلا هل الانسان مخير في أفعاله أم مسير، وإذا كان مسيرا فما ضرورة اكتسابه للعقل وهل عليه أن يجعل الغريزة تحل محل هذا العقل الذي يوحي إليه بأمور مخالفة لفكرة القضاء والقدر، وإذا كان الانسان مخيرا فما هي حدود حريته وإلى أي حد يتمكن من الانفلات من الحتميات الاجتماعية والجسمية والضغوط النفسية، التي تكون غالبا نتيجة تلك الحتميات المفروضة على الذات من الخارج . وإلى أي حد نستطيع فحص واقعنا الحالي بطريقة موضوعية من أجل إعادة النظر في نمط حياتنا وعلاقاتنا مع الآخر توخيا للمساهمة في بناء مجتمع أفضل.. كلها تساؤلات تنم عن قلق وجودي عميق يتغيا فهم ما يقع ودعوة إلى التفكير في بناء عالم ما بعد الكورونا.. وبنفس المعنى في الفلسفة فإن العودة إلى الذات كطريق للتفلسف، شريطة التجرد من العواطف، لأن الفلسفة لا تعالج إلا ما هو عقلي وقابل للفحص وقادر على تحطيم البديهيات والأفكار الجاهزة والعواطف المعيقة للتفكير.
التساؤل le questionnement: يعبر عن القلق والحيرة التي لا تفتر بمجرد جواب وحيد ،لأنه غالبا ما يكون قصده هو الشك في الأجوبة المعطاة مسبقا.. وهذا ما عرفه زمن الكورونا ،حيث الاختلاف والتناقض الصارخ بين التفسيرات المختلفة التي كثيرا ما كانت تحمل تناقضات يعبر عنها نفس الشخص من منبر مسؤوليته مما يزيد من حيرة الناس وقلقهم… غير أن التساؤل في شقه الفلسفي ملازم للشخص حتى بالنسبة للأمور التي تبدو اعتيادية ،بحيث يجعل كل شيء (الأفكار، الأحكام، المعارف..) موضوع تساؤل ويجعل من التساؤل طريقا لفهم العالم والغير والذات وطريق لتجاوز الأفكار الساذجة، علما بأن أي فهم أوحقيقة يتم التوصل إليها تعتبر نسبية وقابلة للمساءلة من جديد ، ولعل هذا هو ما يعطي معنى لقول أحد الفلاسفة K.Yaspers» الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة .
الشك le doute: فحص الأفكار والمعلومات التي تقدم نفسها كمعارف حقيقية للتأكد من مدى صحتها: فأمام زخم المعلومات والرسائل الكاذبة في زمن الكورونا مما دفع الكثير من الناس إلى التريت والشك في جميع الرسائل المتوصل بها إلى أن يتم فحصها وتبيان صدقها.. ويصبح الشك فلسفيا إذا أصبح شكا منهجيا يرافقنا في حياتنا ويكسبنا القدرة على فحص المعلومات والمعارف الجاهزة والأحكام المسبقة لإضفاء المصداقية عليها.
النقد la critique: نقد الأفكار والمعلومات والمعارف المعطاة كحقائق ثابتة، وهذا من صميم التفكير الفلسفي، شريطة ألا يتم اعتبار النقد نقدا للأشخاص وإنما نقدا للأفكار أو المواقف … على أساس بلورة أفكار جديدة منزهة عن الأحكام الجاهزة
البرهنة l’argumentation: (أو بالأحرى الحجاج) وهي توظيف مجموعة من تقنيات التواصل التي تستهدف إقناع المخاطب بتبني تصور معين أو تعديل موقفه أو تحفيزه على المشاركة أو في بعض الأحيان خلق البلبلة والتشويش على النظام العام..
وبعد أن كان الحجاج آلية لغوية بامتياز أصبح يوظف في وقتنا الحالي (عصر التطور التكنولوجي في مختلف أبعاده) آليات تكنولوجية متعددة . ففي زمن الكورونا تعطينا الرسائل المتداولة نماذج كثيرة عن أنواع الحجاج، مثل توظيف الصور (قد تكون حقيقية أو فوطوشوب) أوديوهات لفضح واقع معين، أو لاستجداء العطف أو التعاطف… فيديوهات تدعي الكشف عن حقائق وأخرى مثيرة للضحك، وفي نفس الوقت تحمل رسائل مشفرة لانتقاد وضع معين أو محذرة من الوقوع في وضعيات قد تسلب الشخص مكانته المتعارف عليها.. إلى غير ذلك من طرق الحجاج التي نتواصل بها يوميا في كلامنا وتفاعلنا مع الآخرين لأنه في الواقع «لا تواصل من غير حجاج» على حد تعبير بعض المفكرين الفلاسفة المعاصرين Ducrot .
غير أن الحجاج يكون فلسفيا وأداة مركزية من أدوات التفكير الفلسفي حين يكون نتيجة تنظيم للمفاهيم وطريقة في الاستدلال المنطقي وأسلوبا في التبليغ والتفاعل الجماعي وفق قواعد العيش المشترك التي تتطلب تقبل الحوار والنقد والتعددية الفكرية والاختلاف في المواقف (مقارعة الحجة بالحجة بعيدا عن كل عنف لفظي أو غيره).
وهكذا يمكن أن نخلص إلى أن أزمة الكورونا رغم أضرارها التي خلخلت الكثير من الموازين، وحولت الناس إلى أدوات قابلة للقياس، وجعلت العلاقة مع الموت مجرد أرقام تتزايد فنخاف ونرتعب.. وتتناقص فيشع بريق الأمل فينا…الخ. ، إلا أنها تمكنت من تفجير قدرات وطاقات وأفكار يمكن- إذا تم استغلالها بالشكل الإيجابي أن ترتقي بتفلسفنا التلقائي إلى درجة التفلسف وفق مهارات وآليات واعية ومتحكم فيها وتمكن، عبر ذلك، من تحقيق تشكل دفعة حقيقية نحو بناء غد أفضل.