في فيلمه الموسوم «صائد الغزلان»، يتم أسر الصديقين مايك (روبرت دي نيرو) ونيك (كريستوفر والكن) خلال حرب فيتنام. يقرر الخاطفون الفيتناميون أن يُعرضوا المخطوفين مايك ونيك إلى لعبة الروليت الروسية التي تقوم على أن يمسك كل شخص المسدس ويطلق النار على رأسه، من سلاح نصف ممتلئ ونصف فارغ من الطلقات. تعلو الدراما والقلق تحت تهديد سلاح الخاطفين الذين يراهنون على حياتهما وموتهما، يتردد مايك ثم يصرخ ويضغط الزناد فينجو، ينتقل الدور إلى نيك الذي يحاول أول مرة فلا يقدر، يصفعه الخاطفون ويهددونه بالسلاح، يشجعه صديقه وبعد تردد كبير يضغط نيك الزناد، فينجو. هذا المشهد من فيلم «صائد الغزلان» The Deer Hunter 1978 هو أحد أكثر المشاهد شهرة في تاريخ السينما، بقوة وتصاعد التشويق والانفعال. إلا أن الطريقة التي ينتهي بها المشهد تخفّض من قيمته وينهي الصراع بشيء من الاستسهال حيث يعود الدور إلى مايك، الذي لديه فرصة من أربع للنجاة، ولديه ثلاث فرص من أربع لإطلاق النار، يقرر أن يطلق النار على زعيم الخاطفين فيرديه، ثم يشتبك هو ونيك مع الخاطفين ليتخلصا منهم جميعاً، في نصف دقيقة من الأكشن الأميركي المحترف.
لا خلاف على أهمية هذا المشهد السينمائية، إلا أنه يمكننا أن نراه كاستعارة لمسيرة صانعه. نجح شيمينو نجاحاً باهراً في فيلم «صائد الغزلان» الذي أصبح من كلاسيكيات السينما، من خلال قوة دراما العلاقات والنظرة العميقة إلى الموت والحياة على مفصل مهم من تاريخ أميركا خلال حرب فيتنام وما بعدها. إلا أنه، تماماً كما في مشهد الروليت الروسية القوي الذي ينتهي بنهاية كليشيه، لم يستتبع فيلمه القوي «صائد الغزلان» بأي نجاح يذكر. حتى أن فيلم «بوابة الجنة» (1980) منح جائزة «رازبيري» لأسوأ مخرج في تلك السنة، وهي جوائز ساخرة.
يعتبر «صائد الغزلان» من الأفلام الروائية المهمة التي اقتبست عن رواية (ثلاثة رفاق) لإيريك ماريا ريمارك، وموضوعها الحرب، وأثر هذه الحرب في تحديد مصائر الشبان الثلاثة، الذين ذهبوا لأداء الخدمة الوطنية في فيتنام. وقد أنجز الفيلم عام 1978 بتوقيع مايكل شيمينو..
وتمثيل كل من: روبرتو دي نيرو وجون كازال، وكريستوفر والكين وميريل ستريب، الذين أبدعوا في تقديم شخصيات بسيطة كان دأبها اللهو في الحفلات وصيد الغزلان في تلك الجبال العالية والطبيعة الشبيهة بعالم مسحور..
حيث الضباب يصافح الناس والشمس الخجولة، إزاء اشتعال النبات وامتداد العشب أينما تمكن في بيئة اجتماعية بسيطة ومحبة، تتكون من مهاجرين روس استوطنوا هذه البقعة ومدينتها، وعملوا في مصنع الصلب الكبير الذي سيبدو لنا أنه حالة النشاز في هذا المكان الأليف.
القسم الأول
تلك هي صفارة المصنع تعلن نهاية العمل، وأولئك هم الأصدقاء الثلاثة يخططون ليومهم المزدحم المقبل، فأحدهم واسمه ستيف سيتزوج الليلة، والآخران مايك ونك يخططان للخروج بعد الحفل لصيد الغزلان، بينما المدينة الصغيرة تستعد لإقامة حفل الزفاف بتجهيز صالة كبيرة، تتسع لصخب الجميع، وفي تلك اللحظة من الخروج، يشير أحدهم نحو الغيوم في السماء:
انظروا هذه كلاب الشمس..
يرد آخر: ما معنى ذلك؟
إن الذئب الضخم قد بارك الصياد.. هذه نبوءة أتعرفون ذلك؟
سيتم الربط إذاً ما بين الرفاق الثلاثة الذين ودعوا زملاء العمل للتو لأنهم سيلتحقون غداً بالجيش المقاتل في فيتنام، وبين أسطورة الذئب الهندية وكلاب الشمس، ولكن ليس في شكلها المباشر، وإنما كونها ظلالاً خفيفة لاحقت مصائر الشخصيات الثلاث..
وهي لمسة فنية عالية التقطها المخرج الفذ مايكل شيمينو فذهب في تصعيد الأحداث ودفعها إلى الحافة من كل شيء؛ بالطقسية الكنسية والكورال الغنائي ورش الأرز على العروسين واللحاق بالسيارة، والطبطبة عليها في الاحتفال الصاخب على الطريقة الروسية والدبكات الجماعية الشهيرة ومنها«كازاتشوك»..
وعلى وقع بعض الأغاني الأميركية الشهيرة، فكيف لا وفي الغد سيذهب الثلاثة الذين عُلقت صورهم في الصالة كنجوم السينما إلى جانب العلم الأميركي، إلى الحرب الدائرة في الشرق البعيد، والمفارقة أنهم سيذهبون لقتل الفيتناميين، أو بمعنى آخر للعدوان وليس للدفاع عن الوطن، وهي رؤية المخرج الواقعية وليست أطروحة أيديولوجية من قبلنا..
بينما في بعض تفاصيل الحفل تركز الكاميرا على مشاهد سريعة ذات دلالة، منها بروز ليندا«ميريل ستريب» والانتباه إلى تعلق الشباب بها، ومنهم: مايك ونك.
وهكذا في الغد سيكونون في المعركة، بل في خضمها تماماً وسط مشهد شبيه بمشهد حوامات«كوبولا» الشهير في«القيامة الآن». المدفعية والرشاشات وصوت مراوح الحوامات الدائرة واصطياد الفيتناميين أينما كانوا، مقاتلين أو أفراداً أو عائلات مختبئة، قتل أهوج لا ينتهي إلا باعتقال الأصدقاء الثلاثة.
الروليت الروسية
المعتقل عبارة عن سقيفة خشبية فوق النهر، والأسرى أسفلها داخل الماء، وضابط فيتنامي مولع بلعبة الروليت الروسية، كل حين يُخرِج أسيراً من الأسفل ليبدأ الرهان مع احتمال الموت بطلقة واحدة في الرأس، وإن لم تكن فثمة كرة أخرى، والرهان الدموي مستمر وليس ثمة احتمالات كثيرة للنجاة(طلقة واحدة من سبعة)، الأمر الذي دفع بمايكل«روبرتو دي نيرو» إلى أن يرسم خطة نفذها بدقة وجرأة كبيرة مكنتهم من النجاة والهرب.
لكنها ليست نهاية المشكلة، بل إن المشاكل ستبدأ من جديد، إذ إن لعبة القتل فتكت بأعصاب ستيف جون سافاج«ونك» كريستوفر واكن، اللذين عانيا من احتمالات النجاة الضئيلة، لا سيما أن النهر محاط بالجنود والقناصة الفيتناميين، إلى أن تأتي الحوامة لإنقاذهم فيكتشف ستيف أنه مصاب بساقيه..
بينما يهوي نك بعدما يئس من إمكانية الصعود إلى الحوامة الطائرة فوقع بالنهر، ليلحق به مايك على أمل إنقاذه من جديد، ولكن هيهات، إذ يبدو نك للمشاهد وكأنه فاقد للذاكرة أو مسلوب الإرادة، أو ربما شيء آخر ظل يتفاعل في نفسه منذ أن رأى حبيبته ليندا«ميريل ستريب» تختلي بصديقه مايك خلال الحفلة، وبالرغم من عفوية ليندا وعدم تفكيرها بخيانته إلا أن الكاميرا ركزت على عينيه وهو يرقبها..
ولذلك آثر الانسحاب من حياتها والبقاء في فيتنام مراهناً في لعبة الروليت القاتلة، رافضاً كل الرفض رجاء صديقه مايك بالعودة إلى الديار في مشهد مواجهة خطير بين الصديقين ويمكن اعتباره من أبلغ المشاهد في دلالته القريبة والبعيدة، وينتهي بموت نك أخيراً برصاصة في الرأس، كانت أشبه برصاصة الرحمة لجملة ما عاناه، وربما لفرط حبه لمايك وليندا. وفي ظني، كانت رصاصة انتحار واضح ولا لبس فيها.
الأسطورة
أما الصديق الثالث ستيف فإنه، بعد بتر ساقيه، آثر البقاء في المستشفى رافضاً الالتحاق بأسرته حتى مقتل صديقه نك والعودة به لدفنه في مسقط رأسه، بينما يتقرب صائد الغزلان نك من ليندا وكأن ذئب الأسطورة العظيم قد باركه فعلاً في النجاة وفي الفوز بالغزالة ليندا. وهنا يعاودنا السؤال عن مدى تحقق تلك النبوءة الهندية التي حيت الصياد ونبهته من كلاب الشمس..
فالفيلم لا يعاود ذكرها لكن النتائج كانت مروعة على الصعيد النفسي والجسدي للشبان الثلاثة ومحيطهم، وكأننا بالمخرج يكرر الإشارة إلى رفض الحرب ونبذ قيمها التي لا تجلب سوى الويلات والدمار الشامل، وهو بذلك يلتقي مع كاتب الرواية إيريك ماريا ريمارك، الذي كان كتبها بُعيد الحرب العالمية الأولى، حول ثلاثة أصدقاء شاركوا فيها، وأحبوا فتاة واحدة، رغبة منه في الدفع باتجاه الوجدان والبناء الرمزي لمتقابلين لا يلتقيان: الحب والحرب.
الحياة والموت
لا خلاف على أهمية هذا المشهد السينمائية، إلا أنه يمكننا أن نراه كاستعارة لمسيرة صانعه. نجح شيمينو نجاحاً باهراً في فيلم «صائد الغزلان» الذي أصبح من كلاسيكيات السينما، من خلال قوة دراما العلاقات والنظرة العميقة إلى الموت والحياة على مفصل مهم من تاريخ أميركا خلال حرب فيتنام وما بعدها. إلا أنه، تماماً كما في مشهد الروليت الروسية القوي الذي ينتهي بنهاية كليشيه، لم يستتبع فيلمه القوي «صائد الغزلان» بأي نجاح يذكر. حتى أن فيلم «بوابة الجنة» (1980) منح جائزة «رازبيري» لأسوأ مخرج في تلك السنة، وهي جوائز ساخرة.
كثرٌ هم مخرجو الأفلام الواحدة، إلا أن مايكل شيمينو قد يكون أفضلهم. لا يمكن إغفال القوة البصرية التي تحملها أفلامه (شيمينو خريج فنون جميلة من جامعة يال)، حيث تتحوّل الكادرات إلى لوحات مليئة بالتفاصيل التي تجعل من المكان الذي يسكنه الممثلون عالقاً في الذهن وصانعاً للألفة، التماهي، والسحر، فالذي يشاهد مشهد تقديم كريستوفر والكن في «بوابة الجنة» يرى تقسيما رائعا للمساحة، بنية فنية خلابة وتركيبا بصريا دقيق الصنعة. لم تقتصر الصنعة البصرية المتقنة على مشهد واحد، فالفيلم يقدم وجبة من اللوحات الرائعة، إذا أخذنا كل واحدة منها على حدة، لوضعنا الفيلم بين الكلاسيكيات. إلا أن الفيلم يهمل بناء الدراما لمصلحة الحوارات السياسية، لا ينجح في استدراج المشاهدين إلى التعلّق بالشخصيات، ويتعثّر في إدارة الزمن السينمائي، ما جعله يفشل في شباك التذاكر، وجعل هوليوود تعيد النظر في الخط الذي كانت قد بدأت تنتهجه في إعطاء المخرجين اليد العليا في الإدارة الفنية مع الموجة التي سميت منذ بداية السبعينيات بـ «هوليوود الجديدة»، وكان شيمينو أحد مخرجيها. بعد فشل «بوابة الجنة» عادت استوديوهات هوليوود إلى نظامها القديم، فأعادت السلطة الفنية إلى يد المنتجين.
سيرة التناقضات
أدار شيمينو سيرة فنية مليئة بالتناقضات، الأحلام الفنية الكبيرة، والاتهامات، مرة بالعنصرية ضد الفيتناميين، ومرة بالماركسية، إلا ما يمكن استنتاجه من عمله وأفلامه أنه كان فناناً يريد أن يرسم بورتريهات لهوامش أميركا، للقصص الدموية التي لم تُروَ من قبل. فمن عمال التعدين في «صائد الغزلان» إلى المهاجرين الأوروبيين يصارعون لأجل الحياة في الغرب الأميركي في «بوابة الجنة»، وصولاً إلى الجريمة في الحي الصيني في نيويورك في «عام التنين»، تحتل المساحات الهامشية والعنيفة بُعداً كبيراً من مخيلته واهتمامه. فكما يعبّر في إحدى مقابلاته عن حبه لتمضية الوقت مع أولاد لا يوافق أهله على صداقته معهم، يقول: «عندما كنت في الخامسة عشرة من العمر، أمضيت ثلاثة أسابيع أقود في بروكلين مع شاب كان يلاحق صديقته.
كان مقتنعاً بأنها تخونه، كان يحمل سلاحاً وكان يخطط لقتلها. كان هناك الكثير من الشغف والقوة في حياتهما. في المقابل عندما كنت أمضي الوقت مع الأولاد الأغنياء، أكثر ما قمنا به هو أن نقود عابرين إشارة حمراء. هناك الكثير من الملل في حياة الأغنياء أو أبناء الطبقة الوسطى في المدن الخاضعين للنظم والقوانين، في حين أن في حياة المهمّشين، المهاجرين، العمال، المدانين السابقين، ورجال المافيا الكثير من الدراما والصراع الذي يمكنه أن يملأ خيال هذا المخرج الطموح لتصوير رؤيته الفنية مهما كلّفه الأمر، من انتقاد أو فشل.