كان إنتاج «أبوزيد» يدور حول دراسة النص المؤسس للمنظومة المعرفية داخل العقل الإسلامي، من خلال دراسة العقل التفسيري عند المعتزلة، ودراسة المجاز عند ابن عربي، ودراسة مفهوم النص الذي ناقش فيها الصيغة العقدية عند المعتزلة بمقولة خلق القرآن، وأنه ليس كلام الله، وما يترتب على ذلك لاحقًا في معالجتها للنص، وأيضًا عند الأشعرية في تمسكهم بالمقولة اللاهوتية بأن القرآن هو كلام الله المحفوظ في اللوح المحفوظ، والمتنزل على النبي محمد من الملك جبرائيل، إلى ما يترتب على ذلك لاحقًا في كيفية تعاملهم مع النص.
إلى أن يقوده ذلك ليكتب كتابه في (نقد الخطاب الديني) على خلفية الهجوم من قبل الخطاب الرسمي والأيدلوجي الديني على حدٍّ سواء، الذي لا يتسامح مع التعددية، ويسعى لفرض خطاب الإسلام بصيغة جامدة، وبذلك ينتهي أي أفق للإصلاح يستوعب المتغيرات الحضارية للبشرية، حسب وصف أبوزيد.
ترتكز سمات الخطاب الديني وبينيته الجدلية على:
1 – التوحيد بين الفكر والدين، وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.
يعيب الخطاب الديني المعاصر على الكنيسة في العصور الوسطى دخولها منطقة الحديث باسم لله، ويتجاهل أنه بقطعيته برؤيته الدينية هو يقف معهم نفس الموقف.
إن استخدام هذه الآلية من قبل الخطاب الديني المعاصر، وحديثهم عن الإسلام بـ (ألف ولام) يؤدي بهم إلى تجاهل حركة التاريخ، وتغير المجتمعات التي تؤثر على بنية الأفكار، وأن هذا المعنى هو واحد وثابت لا يفهمه إلا رجال العلم الصالحون المبرأون من الأهواء والتحيزات الإنسانية الطبيعية.
وهكذا ينتهي الخطاب إلى الوصول إلى كهنوت يحتفظ بأحقية التحدث باسم الدين، ويندفع إلى حد الإصرار إلى الاستقبال الشفاهي من قبل العلماء مباشرة.
2 – تفسير الظواهر كلها وردها إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية. حيث يرى أبو زيد أن الخطاب الديني المعاصر يقوم بتفسير كل الظواهر، الطبيعية والاجتماعية، بردها جميعًا إلى المبدأ الأول والعلة الأولى، إنه يقوم بإحلال (لله) في الواقع العيني المباشر، ويرد إليه كل ما يقع فيه، وفي هذا الإحلال يتم -تلقائيًّا- نفي الإنسان، كما يتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية، ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء، وهذا التصور هو امتداد للأشعرية القديمة، التي تنكر القوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب جبرية شاملة، تمثل غطاءً أيدلوجيًّا للجبرية الاجتماعية والسياسية في الواقع.
3 -الاعتماد على سلطة السلف والتراث، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية وهي ثانوية إلى نصوص أولية تتمتع بقداسة تساوي النصوص الأولى، إضافة إلى إهمال البعد التاريخي، واليقين الذهني، والحسم القطعي، ورفض أي خلاف فكري.
من أهم الجوانب التي يتم تجاهلها في إشكالية النص الديني، البعد التاريخي لهذه النصوص، وليس المقصود هنا أسباب النزول، أو علم الناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم القرآن، بل هو البعد المتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص.
ولا خلاف في أن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها علاقتها بحال المجتمع، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم بعدها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى إهدار النصوص ذاتها.
إن تجاهل البعد التاريخي لدى الخطاب الديني المعاصر، واختزال كل مشكلة بأن سببها هو البعد عن منهج الله، وإلقاءها في دائرة المطلق والغيبي، والعجز عن حلها والتعامل معها زمنيًّا- يؤدي إلى تأبيد الواقع، وتعميق اغتراب الإنسان فيه.
تأويل النصوص التاريخية
تقرر لنا أن النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين؛ لأنها (تأنسنت) منذ أن تجسدت في اللغة والتاريخ، وتوجهت في منطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثابت والمتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة متغيرة في المفهوم، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضًا بجدلية الإخفاء والكشف.
ولتحقيق وعي علمي بالتراث، يجب أن تكون هناك جرأة على طرح الأسئلة، ولا يغيب عن البال وجود أطنان من الإجابات الجاهزة في التراث، مراجعة هذه الإجابات يجب أن يرافقها وعي بالنسبية، النسبية الثقافية للمجتمع لا النسبية الذاتية للحقيقة.
إن التعامل مع النصوص وتأويلها -وخصوصًا هنا نصوص التراث- يجب أن ينطلق من زاويتين: الأولى: زاوية التاريخ بالمعنى السوسيولوجي لوضع النصوص في سياقها من أجل اكتشاف دلالتها الأصلية، ويدخل في ذلك السياق التاريخي، وبالطبع السياق اللغوي للنص.
الزاوية الثانية: زاوية السياق الاجتماعي والثقافي الراهن الذي يمثل دافع التوجه إلى تأويل أو إعادة تأويل تلك النصوص، وذلك من أجل التفرقة بين الدلالة الأصلية التاريخية، وبين المغزى الذي يمكن استنباطه من تلك الدلالة.
فالمعنى التاريخي لا يمكن الوصول إليه إلا بالمعرفة الدقيقة لكل من السياق اللغوي الداخلي للنص، والسياق الثقافي الاجتماعي الخارجي، والمغزى وإن كان لا ينفك عن المعنى بل يلامسه وينطلق منه ذو طابع معاصر، بمعنى أنه محصلة لقراءة عصر غير عصر النص، وإذا لم يكن المغزى ملامسًا للمعنى ومنطلقًا من آفاقه تدخل القراءة داخل دائرة التلوين، والمعنى ذو صفة ثبات نسبي، والمغزى ذو طابع متحرك مع تغير آفاق القراءة وإن كانت علاقته بالمعنى تضبط حركته وترشدها.
ليست النصوص الدينية هي نصوص خارجة عن اللغة بأي حال من الأحوال، ومصدرها الإلهي لا يلغي أي معنى من ارتباط اللغة بالزمان والمكان التاريخي والاجتماعي، وأي حديث عن الكلام الإلهي خارج اللغة من شأنه أن يجذبنا -شئنا أم أبينا- إلى دائرة الخرافة والأسطورة.
ولدراسة القرآن في شكله اللغوي يستعين أبو زيد بالأدوات الحديثة التي تتعرض لدراسة النص في سياقه الثقافي والاجتماعي، وسياقه الخارجي بدراسة سياقه التخاطبي، ومن ثم في دراسة السياق الداخلي في علاقات الأجزاء وتركيب الجملة، والعلاقات بين الجمل، وأخيرًا سياق القراءة والتأويل.
يتجلى تأثير السياق الثقافي على النص الديني بتعاطيه مع موجودات ذلك المحيط الثقافي، واستخدامه-لأنه جزء من ذلك السياق- لتعابيره وكلماته.
وعلاقات سياق التخاطب هي التي تحدد نوعية النص من جهة، وتحدد منهجية التفسير والتأويل بين القائل المرسِل، والمتلقي المستقبل، وإذا كان القائل هو محور التركيز تلاشى دور المتلقي إلى حد كبير، وأصبح العمل أشبه ما يكون بترجمة ذاتية، أما إذا كان التركيز على المتلقي -كما هي النصوص التعليمية- أصبحت مهمة النص الإفهام والبيان، والنص القرآني هو أشبه بالنص التعليمي؛ حيث الخطاب هو من أعلى إلى أدنى.
ويتضح تأثير السياق الخارجي على النص بتغير أحوال المخاطبين، وتغير خطاب النص بذلك.
القراءة التي تنفصل عن مستويات السياق السابقة، هي القراءة التي تمثل نموذج القراءة الأيدلوجية النفعية، وإذ إن سياق القراءة يمثل أحد السياقات التي تتم بها القراءة، فإن هذا السياق لا يكتمل إلا داخل منظومة السياق الكلية.
هذا يوضح أن عملية القراءة ليست سياقًا إضافيًّا خارجيًّا على النص، إذ لا تتحقق نصية النص إلا بفعل القراءة ذاته، القارئ ليس كيانًا معزولاً خارج النص، بل هو متعين في كاتب النص الأصلي، وهو أيضًا يكون مرسِلاً ومستقبلاً من خلال قراءته للنص، وتتعدد بذلك قراءات النص بسبب تعدد خلفياتهم الفكرية والأيدلوجية مما يعدد مرجعيات التفسير والتقييم على حد سواء، وتتعدد بتعدد المراحل والحقب التاريخية التي تحدد معرفيًّا منظور القراءة للعصر والمرحل.